رواية "امرأة في الظل، أو ما لم نعرف عن زينب" للمغربي عبد الجليل الوزاني التهامي (1961)، هي سادس إصدار روائي للوزاني، وهي شكل من الامتداد السرديّ لروايته الثانية "احتراق في زمن الصقيع"، التي صدرت عام 2005، والتي استعادت تخييليا وقائع الانتفاضة الشعبية التي عرفتها مدينة تطوان، شمال المغرب، عام 1984. نلتقي في "امرأة في الظل" مع شخصية زينب البدوية -ابنة قرية "تارغة" الساحلية المطلّة على البحر الأبيض المتوسط-، زينب التي كانت بطلة ثانوية في رواية "احتراق في زمن الصقيع"، التي كان بطلُها الطالب الجامعي المناضل جمال الأحمدي، الذي حلَّ بتلك القرية متخفياً ولاجئاً عند أبيها الرايس امْحَمّد، ليفلت من ملاحقة البوليس. وأثناء إقامته عند أسرة الرايس ارتبط عاطفياً بزينب، التي عاشرته، ذات ليلة، خارج مؤسَّسة الزواج. بعد ذلك، عاد جمال إلى مدينته فجأة، فانقطعت الصلة بينهما، وبعد محاولة زينب الانتحار جراء الفضيحة التي كانت ستحدث لو اكتشف حملها، تدبّرت أمها الأمر، فأرسلتها عند قريبة لها تقيم في حي شعبي بتطوان حيث وضعت ابنها "جمال"، وهناك عاشت تجارب مُمِضّة؛ هي التي أوردتها زينب في رسالتها الطويلة إلى حبيبها جمال، الذي ظلَّت متعلِّقة بحبّه على الرغم من معرفتها بأنه قد تزوّج، وأنه يعيش في مكناس. تؤكد "امرأة في الظل" (حاصلة على "جائزة كتارا للرواية العربية" في نسختها الأولى عن فئة الروايات غير المنشورة) ما ذهب إليه كثير من المُبدعين والنقاد -من بينهم بورخيس وبارت- بأن الكتابة سيرورة وامتدادٌ متواصلٌ لنصوص في نصوص أخرى، وأن لا مجال للحديث فيها عن قطائع، لأنه -وفق بول ريكور- "في القصة لا البداية ولا النهاية هما بالضرورة بداية الأحداث المروية ولا نهايتها، بل هما بداية الشكل السردي ونهايته". وزينب البدوية التي "تمكنت من الحصول على قسط من التعليم دون بنات تارغة قاطبة"، أفرغت تجربتها المعيشة سردياً في رواية هي رسالة مطوّلة. اللجوء إلى توظيف الرسالة كإمكانية سردية عمل لجأ إليه كثير من الروائيين، لعل غوته في روايته "آلام فِرْتر" التي ترجمها أحمد حسن الزيات أحد أبرز النماذج. ولقد توسَّل الوزاني، أيضاً، بالتقنية نفسها، فجعل زينب مرسِلة ومداراً للسَّرد عبر حضورها المهيمن وقيمتها المركزية، والنص الروائي رسالة، وجمال الأحمدي مرسَلاً إليه. إن "امرأة في الظل" هي في الواقع، استعادة لأحداث من حياة زينب، استعانت المرسلة على تنظيمها عبر التحبيك فنظَّمتها قصة خيالية، وقدَّمتها حكاية أدبية وهي على فراش الموت، حكاية يقصها الأدب -حسب ريكور- "لتخفيف حدة القلق في وجه العدم المجهول حين يعطيه تخيلياً شكل هذا الموت أو ذاك، هذا الشكل النموذجي على أكثر من صعيد. وهكذا فإن القصة المتخيلة تستطيع أن تساهم في تعلمنا الموت". تقف زينب في مواجهة الموت الحتمي، ولا تستسلم له، وإنما تراهن على البقاء على قيد الحياة، وحتى الانتصار عليه، ولعل اختيارها الكتابة لهو أقصى درجات الإيمان بذاتها وقضيتها، لذلك تجمع حياتها، وتنتقي لحظاتها بعناية، فتبرز فاعلة تلملم تلك اللحظات، وتشحنها بأبعاد أخلاقية، وتقدّمها هيكلاً متعاضد الأركان ومتماسك البنيان، في صورة قصة. هكذا، بوسعنا الحديث عن زينب بوصفها شخصية وفي الوقت ذاته، بوصفها حبكة أيضاً، لا يقل شأنها عن الأحداث المحكية، لأن الروائي أفلح عبر التفاف سردي - عرَّفه بول ريكور ب"هيرمينوطيقا الذات"، وهو الذي تصهر فيه الذاتية والعينية - في أن يحوّل إليها عملية صياغة الحبكة، وأن يبني مفهوم الهوية السردية ل"امرأة في الظل" على أساس تمثل الحياة في شكل حكاية والرهان على تشكيل أخلاق عملية تقود إلى فهم "الحياة الجيّدة". تقدم زينب حكاياتها بصفتها تجربة إنسانية في الزمن، طالما "أن الزمن الإنساني -حسب ريكور- هو زمن سردي". لكنها تجربة تتداخل وتتكامل مع تجارب أخرى تتقاطع مع تجربتها وتؤثّر فيها، وهي تجارب من صميم الحياة، التقطتها الكتابة وأظهرت بها وجوهاً من مكابدات المعيش في الهامش. وبما أن الأصل في الفن، وضمنه الكتابة، الاحتجاج على تدنيس ما، حسب غادامير، فقد لفتت الانتباه إلى معاناة النساء، وخصوصاً نساء الأحياء الشعبية، اللواتي يضطررن إلى العمل في مدينة سبتة السليبة، فيمتهنّ التهريب والعمل خادمات في البيوت، ويكن عرضة للاستغلال بشتى أشكاله. "امرأة في الظل" رسالة طويلة؛ تطل من بين سطورها قيم راقية، ومحبّة عالية، ومشاعر نبيلة، وآلام وأحلام وآمال ضمتها حنايا زينب ضحيّة حب صانته ثلاثة عقود إلى أن رحلت. وقد يتهيّأ للبعض أن اعتماد هذه التقنية أدبياً، في حاضرنا، لا ينسجم مع واقع الأشياء، خصوصا بعد أن زحزحتها عن مكانتها تكنولوجيا الاتصال، لكنّ ازدهاره في الغرب يفيد بأن لهذا الأدب كُتّابه وجمهوره، وأن له مكانه ضمن أشكال الكتابة.