الحضارة العربية انبرى للتحدث بها عدد من الدارسين تناولوا إرثها في المعارف والفنون فبات معروفا للناس جانب غير مستهان به مما كان للعرب فضل في اكتشافه دون سائر الأمم. وعليه بنى الغربيون مدنيتهم المشاهدة الآن. ولا أدري إذا كان قد بقي أحد يجهل جهود العرب في الطب وفضلهم على الصيدلة وعلم تدبير الصحة. فهم أول من بحث في الحميات النفطية كالجدري والحصبة والحمى القرمزية، وهم الذين لطفوا المسهلات وحسنوا صناعة التقطير والتخمير وتشكيل الأواني بأشكال يسهل بها التناول، واخترعوا الانبيق ووضعوا الأسماء التي لا تزال مستعملة عند الافرنج كالكحول والشراب واستعملوا التراكيب الحديدية والكبريتية والنحاس والزرنيخ وحمضة الزئبق وجنوا من اشتغالهم بالكيمياء الفوائد الجمة واستعملوا طب الخيل أو البيطرة والزردقة وهي طب الطيور فضلا عن اكتشافهم الدورة الدموية.
وفي مجال ما كانوا يسمونه العلوم العلمية ما عاد خافيا على العارفين توصل العرب إلى إثبات كروية الأرض وتخطئتهم بطليموس القائل بثباتها وإظهارهم ان الأرض متحركة وجزمهم بوجود أرض ما وراء المحيط ووضعهم علامة الفاصلة للكسر العشري وعلامة الجذور وتأسيسهم قواعد الجبر وأصوله وحلهم معادلاته من الدرجات المختلفة وبناؤهم علم المثلثات واستنباطهم شكل الظل أو ما يسمى اليوم بالمماس وإنشاؤهم علم الضوء الحديث وتخطئتهم نظرية اقليدس القائل بأن شعاع الضوء ينبعث من العين ويقع على الشيء المبصر وتقريرهم عكس هذه النظرية أي أن الشعاع يخرج من الشيء المبصر ويقع على العين. ولا ننسى أن العرب توصلوا كذلك إلى تقدير ثقل بعض الأجسام وبحثوا الجاذبية والضغط الجوي ولم يتوقفوا في العلوم عند الأمور النظرية بل تجاوزوها إلى الناحية العملية ويبدو ذلك في محاولة عباس بن فرناس تطيير جثمانه حين كسا نفسه الريش ومد له جناحين طار بهما في الجو مسافة بعيدة ولكنه غفل عن أن يجعل لنفسه ذنبا يقاوم الهواء إذا أراد السقوط فهبط وقتل، وكان أسبق الفائزين بالطيران من بني الإنسان وأول شهيد له. من الأنباء هذه ما يفيد انهم توصلوا إلى معرفة الطباعة قبل غوتنبرغ فقد روى عن عبد الرحمن بن بدر، وزير الناصر أمير الأندلس انه كانت السجلات تكتب في داره ثم يطبعها فترسل إلى الولاة مطبوعة وأنهم منذ أكثر من ألف سنة أجروا عمليات التجميل. ذكر ذلك الجاحظ في "الحيوان" قال إن رفيقا له في المدرسة تعرض له ولد فعضه في وجهه عضة منكرة شتره بها شترا تفجر منه دم غزير فخيط ذلك الموضع خياطة لم يكد يتبين بعدها أثر الشتر في وجه الصبي. وفي دراستهم لمياه الآبار في القاهرة فطنوا إلى التلوث فقد قالوا عن هذه المياه انها لا تصلح للشرب لقرب الآبار من وجه الأرض ولعدم وجود مانع يمنع أن يصل إليها بالرشح من عفونة المراحيض شيء ما. ويروي الرواة عن العرب انهم اخترعوا وسيلة يقرأ بها العميان وهي الحروف البارزة، نسبوا ذلك إلى علي بن زين الآمدي، فقد قيل انه كان أعمى في صغره وكان يشتغل تاجرا يبيع الكتب فكان كلما اشترى كتابا أخذ ورقة وفتلها فصنعها حرفا أو أكثر من حروف الهجاء مسجلا بها ثمن الكتاب بحساب الجمل وألصقها على طرف جلد الكتاب وجعل فروقها ورقة تثبتها فإذا غاب عنه ثمنه مس الحروف الورقية فعرفه. وفي سجل حضارتهم أخبار حافلة عن اختراعهم الساعة الدقاقة لمعرفة الزمن كالساعة التي أهداها هارون الرشيد إلى شارلمان ملك فرنسا، فقد كانت دقيقة الصنع فإذا حانت الساعة الواحدة خرج منها فارس فدق ناقوسها مرة وإذا حانت الثانية خرج فارسان فدقاه دقتين وهكذا حتى إذا حانت الرابعة والعشرون خرج أربعة وعشرون فارسا فدقوا الناقوس أربعا وعشرين مرة. ويستفاد من مطالعة آثارهم انهم كانوا يداوون بالوهم وبفن الموسيقى وآلات الطرب، ويعرفون الطب الكهربائي.
وكانوا يفضلون سماع آلات الطرب وهم جالسون على موائد الطعام، وهم الذين اخترعوا التحاويل المالية التي كانت تسمى عندهم بالسفنجة وقد عملوا الحلوى في الأسمطة على هيئة تماثيل لمناسبة المواسم والأعياد واتخذوها على أشكال شتى وتصاوير إنسانية وفاكهة. ويروى عن أحد خلفائهم انه كان أول من أعد حديقة للحيوان وذلك في مدينة الزهراء، وكان لهم من العوائد الهدية بالزهور والرياحين يتهادونها في أيام المواسم والأعياد وقيل انهم كانوا يرفعون ما على رؤوسهم للتحية والتعظيم ويقدمون ورقة الطعام قبل الأكل. ويستدل على مبلغ ما أحرزوه في الصناعة من تقدم انهم في مدينة واحدة من مدنهم هي اشبيلية كان يوجد ستة عشر ألف دار لصناعة الحرير يشتغل فيها مئة وثلاثون ألف عامل، وبالمناسبة فإن اهتمامهم بالعمال كان اهتماما بالغا وقد بلغ من اهتمامهم بهم انهم أمنوا لهم الرعاية الصحية والسكن وعينوا لهم الحد الأدنى للأجور. وحددوا مواعيد العمل وألزموا الدولة بذلك فسبقوا إلى ما يعد في أوربا من مكتسبات العصر الحديث ولعل لنا إلى تفصيل ذلك كله رجعة إن شاء الله. والله الموفق 2017-09-11 محمد الشودري