يبدو أننا بدأنا ننام و نصحو على ما يسمى بالبوز BUZZ، فالجميع عبر العالم يخلقون البوز و يلدونه حتى لو كان عسير الهضم، و بمختلف الوسائل و الامكانيات التي تحدث زوبعة لا تنتهي. ليس البوز فلسفة أو تصورا عقلانيا أو تأملا رصينا لما يحدث، و لا يرغب في أن يكون كذلك، و لكنه طنطنة عابرة تحدثه بعوضة لا تريد أن تغادر المكان، حتى يلتحق بها مجموعة من البعوض، فيحدثون الأثر. أتخيل بأننا بتنا ننتظر الضجيج الذي ينتج عن الحدث أكثر من الحدث نفسه، فالحدث نفسه يبدو ضئيلا أمام الضجيج الذي يسبقه، و كأنه يلد له الكثير من الهرطقات و السفسطات اللغوية إلى غيرها كي يوجد، و لذا كثرت العديد من وسائل التواصل الجديدة، و البرامج التي تتأبط الكثير من الجرأة المجانية، متوسلة أساليب واهية لتحقق الاستماع و الغزو والضجة و الاهتزاز، و الكل يسمع و يرى و يتكلم. لا يمكن أن نعتبر ثقافة البوز دون جدوى، فالعديد من أساليب البيع و الشراء تبدأ بإثارة الكلام من الفم للأذن و هي تؤثر أكثر من الحقيقة نفسها، فالعديد من المنتوجات حققت أعلى المبيعات بواسطة الضجيج الذي تثيره فقط، و قد لا يكون هذا المنتوج ذا فائدة، و لكنه يصبح كذلك لأن الكل يصادق عليه من حجم المتحدثين عنه، و الأدل على ذلك الموضة ذاتها، و تكون في كثير من الأحيان منحرفة و شاذة و غريبة، و غير ذات جمالية لكنها الموضة…فالعديد من الناس الذين يتعاطونها يمنحونها صك الشراء، لذا تصبح جميلة و مقنعة بشكل أكبر. أتذكر الفيلم العربي الشهير " واحدة بواحدة " لعادل إمام، الشهير بالفنكوش، و الذي قاموا فيه بانزال إشهار عن طريق الخطأ لمنتوج غير موجود في السوق، و منحوه إسم " الفنكوش" و لكثرة الإشهار صدق رجال الأعمال المنتوج و الناس أيضا صدقوا حجم البوز الذي حققه. لم تعد ثقافة البوز منحصرة في البيع و الشراء لمنتوج يحقق دخلا ماديا فقط، بل أصبحت تبيع في كل شيء، في الاعراض و المصائر و الانسان نفسه، فلكي تحقق أعلى ربح، تبدأ في التصعيد إلى أعلى حد، حتى أننا بتنا نخشى أن نبدأ في التجارة بذوينا من أجل تحقيق البوز، فالكل يعدو لاهثا وراء خبر طازج دسم يبدأ به حياته اليومية، و البرامج سواء التلفزية أو الالكترونية بدأت تتقصى ذلك بالحديث في كل شيء، و بالبحث في كل الحيوات السرية سواء المشاهير أو للأناس العاديين كي تحقق بها أعلى الأصداء، و انتشرت ثقافة الرداءة مع كل ذلك، فما معنى أن نتحدث مع فنانين مثلا عن انزلاقاتهم الشخصية بنوع من الوقاحة، و القذف و السب كي نحقق أعلى النسب في المشاهدة. تبدو ثقافة الوقت الآن هي هذه الخرجات المفاجئة المبهرة التي ينتظرها الجميع لكي يتناقلونها و يتبادلونها على صفحات الفايسبوك و الواتساب إلى غيرها، و كأنها هي الأساس للحياة الثقافية، و تراجع في نفس اللحظة جوهر الثقافة بامتياز، و كأننا لا نتوفر على قضايا أخرى تشغل الرأي العام غير التحول الجنسي و العذرية و الشذوذ، الى غيرها من المحاور التي تحدث الاثارة و تبحث عن متلهفين أكثر لابتلاعها. و هي مواضيع ذات أهمية لكن القالب الذي توضع فيه هو الذي يجعلها طعما لاصطياد أكبر المتلقين، ذلك أن الجميع يعتبرون أنفسهم أنبياء، لذا تكثر العديد من الوصايا و التوجيهات بشكل لا يحد. تتطور في كل يوم ثقافة البوز، و لا يقتصر الأمر على الصحافة و الاعلام فقط، فكل فرد بإمكانه أن يخلق البوز لأنه يمتلك حسابا معنويا على الفايسبوك، و لذا فهو في أمس الحاجة لكي يتصدر أعلى الحاصلين على اللايكات، بواسطة شيء قد يكون مفتعلا و لا أساس له من الصحة، و العديد من الأشخاص يسرقون ما يقال دون أدنى احساس بالمسؤولية، و يعيدون كتابته على صفحاتهم كي يحققوا الضجيج، و يزايدوا على حب الوطن و الانسانية، و هم بعيدون كل البعد عن ذلك في حياتهم الشخصية. ثقافة البوز تحقق أصداءها، لكنها حتما تتضمن الكثير من التزوير للعديد من الحقائق كي تضمن استمراريتها، و للأسف أثرت كثيرا على المعرفة و الجمال في التواصل.