بمناسبة مرور 59 سنة على زيارة طه حسين للمغرب وإلقائه محاضرة بمسرح إسبانيول بتطوان (الأحد 6 يوليوز 1958)
تلبية لدعوة تلقاها من وزارة الشؤون الخارجية، قام الدكتور طه حسين برحلة إلى المغرب، زار خلالها مدينة الرباط، والدار البيضاء، ومراكش، وفاس، ومكناس، وطنجة، وتطوان. امتدت ضيافته من 24 يونيو إلى 6 يوليوز 1958، استقبله المغاربة بحفاوة كبرى تقديرا لمكانته العلمية، وإكبارا لإنجازاته البارزة في حقل الفكر والأدب العربيين. بعاصمة المملكة حظي طه حسين باستقبال رسمي بقاعة العرش من قبل صاحب الجلالة محمد الخامس رحمه الله الذي خاطبه بالعبارة التالية: «إننا والشعب المغربي نذكر دائما مواقفكم في أيام محنة المغرب، ودفاعكم المجيد عن قضيته، مما كان له أكبر التشجيع لنا على المضي في كفاحنا إلى النصر...»[1]. تقديرا لهذه المواقف النبيلة أنعم عليه جلالة الملك بوسام الكفاءة الفكرية، وكان طه حسين أول من قُلِّد هذا الوسام الجديد الذي أحدث في بداية الاستقلال ببلادنا. وبنفس العاصمة تم إلقاء أولى محاضراته (يوم الجمعة 27 يونيو 1958) ليلا بقاعة العروض بكلية العلوم. وكان موضوعها: "الأدب العربي ومكانته بين الآداب العالمية"، حضرها رجالات الدولة، في مقدمتهم ولي العهد الأمير مولاي الحسن ، والعلماء والأدباء والأساتذة... استهلها المحاضر بتبليغ تحية الجمهورية العربية المصرية لأهل المغرب، وهي تحية وصفها بأنها تحية الصديق المخلص للصديق المخلص. ثم انتقل للحديث عن موضوع الأدب العربي ومنزلته بين الآداب العالمية، خاتما محاضرته بهذه الفقرة: "وإني لأسعد الناس بأن أشرف بإلقاء هذه المحاضرة بين يدي صاحب السمو الملكي وبين أيديكم. إني أرى في جلالة الملك، وفي سمو ولي العهد رمزا وأي رمز لهذا الكفاح ولهذا الجهاد، وإذن فعندما أدعو إلى النهوض بهذا الواجب الخطير الثقيل، الذي تفرضه علينا كرامتنا، أثق بأن سمو الأمير ولي العهد خير من يستمع لهذه الدعوة، خير من يعين على إحياء الأدب في المغرب، وسيشارك في إحياء الأدب العربي في جميع أقطار العروبة كلها. وأنا أجدد لسموه ولحضرتكم أصدق الشكر وأخلص التحيات". وعقب المحاضرة صرح الأمير مولاي الحسن بأنه: «... يعتز بكونه أمسى من تلامذة طه حسين...»[2].
أما محاضرته بتطوان فكانت يوم الأحد 6 يوليوز 1958، كآخر محطة من محاضراته الفكرية بالمغرب. وقد نشرت جميع الصحف المحلية أخبار هذا الحدث الثقافي الكبير، بما في ذلك الصحف المنشورة باللغة الإسبانية، فهذه جريدة "يومية إفريقيا" (Diario de África) في عددها 3907 وبصفحتها الثانية تنشر عنوانا بارزا: "محاضرة الدكتور طه حسين" مُعَرٍّفة بأعماله الأدبية والفكرية وبتوليه عدة مسؤوليات، كعمادة جامعة القاهرة... امتلأ مسرح إسبانيول بجمهور متميز تمثله شخصيات علمية وقضائية ورجال ونساء التربية، وأهل الثقافة والفن والطلبة، وبالوافدين من المدن المجاورة... وتكلف الأستاذ أحمد مدينة[3] بوصفه كاتبا عاما لعمالة إقليمتطوان آنذاك بتقديم المحاضر للجمهور.
الأستاذ أحمد مدينة يقدم الدكتور طه حسين لجمهور تطوان
ويجدر بنا أن نشير إلى أن الدكتور عثمان أنقار تحدث بتفصيل في جريدة الشمال[4] الأسبوعية عن هذه الزيارة وبرنامجها، في حلقتين بعنوان "أصداء وذكريات عن زيارة طه حسين لمدن الشمال"[5]، نافيا على لسان أستاذ المسرح محمد الدحروش، رحمه الله، قدوم طه حسين إلى المغرب سنة 1957[6]، وقيامه بزيارتين يفصل بينهما عام واحد. ونعتقد في هذا السياق أنه من الممكن أن يكون هذا الاضطراب راجع إلى الخلط بين زيارة طه حسين لتونس سنة 1957، وزيارته هذه إلى تطوان سنة 1958. أو ربما عائد إلى زيارة بعيدة نوعا ما، كان قد قام بها الكاتب المصري لمدريد في 10 نوفمبر سنة 1950 وهو وزير للتعليم من أجل تدشين المعهد المصري للدراسات الإسلامية حيث نشرت الصحف المحلية بتطوان هذا الخبر[7]، وظل عالقا بذاكرة أهل المدينة إلى يوم 6 يوليوز 1958، فظن بعضهم أن طه حسين قام بزيارتين لتطوان، خصوصا وأن المسافة بين الزيارتين امتدت ثمان سنوات محتملة أن يقع فيها شيء من اضطراب الذاكرة عند بعض شيوخ تلك الفترة[8]. ومن جانب آخر تحدث الأستاذ الباحث المرحوم عبد الصمد العشاب بإسهاب عن زيارة 6 يوليوز 1958 (زيارة تطوان) في حلقتين بجريدة الشمال[9] مبرزا غياب التعاليق الصحفية آنذاك عن مضامين محاضرات طه الفكرية ببلادنا، ومعللا ذلك بكون الجمهور المغربي كان ينتظر من العميد معالجة وتناول قضايا الساعة الراهنة التي كانت مطروحة آنذاك، كقضية نضال الشعوب المغاربية من أجل استقلالها أو الحديث عن الثقافة بربوع المغرب العربي عوض الحديث عن الأدب واللغة العربية ومشاكلهما... نفس الآراء طرحها سابقا المرحوم الأديب المبدع محمد الصباغ الذي لم يكن راضيا عن موضوع محاضرة طه حسين. وإذا كان الباحث عثمان أنقار قد لاحظ غياب نص المحاضرة الأصلي، فالأستاذ محمد الحبيب الخراز يقدم لنا في حديثه عن هذه الزيارة (بجريدة تمودة أعداد 181-182-183[10] تحت عنوان: «الدكتور طه حسين في الذكرى الخمسينية لزيارة مدينة تطوان")، فقرات من المحاضرة التي يتفق الثلاثة معا على أن موضوعها كان: "المشاكل التي تعترض انتشار اللغة العربية وآدابها». وكتب أيضا المرحوم الأستاذ الأديب والمترجم الألمعي عبد اللطيف الخطيب عن هذه الزيارة مقالا قيما بجريدة العلم تحت عنوان: "مرحبا بالأستاذ" وذلك بتاريخ 25 يونيو 1958 تحت عدد رقم 3031. يقول في بدايته: «مرحبا بالأستاذ الكريم بين أهله وعشيرته الأقربين. ومرحبا به في هذه البلاد التي تذكر مواقفه المشهورة المشهودة في الدفاع عن حقها بغاية الإعجاب وعظيم الامتنان. ثم مرحبا به تقديرا لما له من الفضل الكبير، والقدح المعلى في بعث الأدب العربي الأصيل، وتلقيحه بالأفكار الجديدة الخلاقة التي تشرف ولله الحمد أن تبوئه المقام المحمود بين آداب الدنيا الحية... إننا نستقبل الأستاذ في جسمه اليوم بعد أن استقر منذ سنوات وسنوات في قلوبنا وعقولنا بما له من نتاج عاد بالخير العميم على هذه اللغة الكريمة، التي نعمل بإصرار وحزم في سبيل إحلالها المقام الذي أنكره عليها الاستعمار في هذا الوطن، لعلمه بأن القضاء عل اللغة قضاء على أمتن المقومات الكفيلة ببعث الشعوب... ». ونود – قبل ختم الحديث عن رحلة عميد الأدب العربي – أن نترك القارئ مع بعض باقات الورود الأدبية، صاغها أحد أدباء تطوان الكبار الدكتور حسن الوراكلي، الذي تابع شخصيا هذه المحاضرة وهو في ريعان شبابه، جاعلا منها كلمات وفاء وحب في رجل عرفه أولا من خلال كتبه، ولكنه طالما تمنى الجلوس والإنصات إليه... يقول الدكتور حسن الوراكلي في كتابه "وشي وحلي" ص 119 في مقال بعنوان: "طه حسين منهل... دنوتُ منه ولم أرد": «وفي مسرح إسبانيول، تحقق الحلم القديم بالجلوس إلى طه حسين والإنصات إليه! ما أن شرع العميد في المحاضرة، حتى بدأت أحس بسلطة المكان تتلاشى من حولي! تفلت من قبضة المكان القوية... ومن قبضة الزمان أيضا!. خيل إلي أن ما أسمعه منه مألوف لدي بلغته الجميلة، وعبارته البديعة، وصوغه الذي كالماء السلسبيل، لكنه مع ذلك، كان له في سمعي وفي فؤادي وقع انتشاء والتذاذ لا سبيل إلى تصويرهما... كانت عبارة طه وهو يرتجل حديثا ارتجالا، وينشئ كلاما إنشاء، تهمي على مسمعي كما الغيث، فيزداد إعجابي باطراد نفسه، ويتضاعف عجبي من إحكام نسجه!...» كانت محاضرة تطوان آخر محاضرة ضمن سلسلة المحاضرات التي احتواها برنامج رحلة العميد لعدد من المدن المغربية. نرجو أن يتوفق الباحثون الشباب للقيام بتجميع نصوصها، ودراستها وتحليلها... وطبعها، فهي وحدها تشكل موضوعا خصبا للنبش في ذاكرة زيارة هذا المفكر الكبير لبلادنا. ومن جهة أخرى سيظل مسرح إسبانيول يحمل دائما نيابة عن أهل تطوان وشمال المغرب أعز وأجمل ذكرى لهذا الهرم الخالد في ثقافتنا العربية.
[1] - لطه حسين مواقف مشرفة وقفها في الدفاع عن قضايا الشمال الإفريقي. من ذلك رفضه وسام جوقة الشرف الذي منحته إياه الحكومة الفرنسية احتجاجا منه على استهتارها بالحريات الأساسية في المغرب أثناء عهد الحماية. [2] - جريدة الميثاق العدد 6174. [3] - صاحب مجلة "الأنوار" التي كانت تطبعها المطبعة المهدية بتطوان من 1946 إلى 1956 والذي سيشغل عدة مهام دبلوماسية بعد استقلال المغرب. [4] - العدد 197 من 11 إلى 17 نوفمبر 2003، وكان عنوان د.عثمان أنقار: "أصداء وذكريات عن زيارة طه حسين لمدن الشمال". [5] - العددان 196 و197 الصادران في شهر نوفمبر 2003. [6] - ورد في جريدة العلم بتاريخ فاتح يوليوز 1957: "أن الأديب المصري الكبير الدكتور طه حسين وصل إلى تونس يوم 28 يونيو 1957 ليترأس اللجنة التحيكيمية التي تتولى الإشراف على انتهاء امتحانات السنة بمدرسة المعلمين العليا بتونس. واستقبله في المطار السيد المزالي مدير ديوان وزير التعليم التونسي، وشخصيات تونسية أخرى سياسية وأدبية. [7] - ومنها جريدة النهار الصادرة باللغتين الإسبانية والعربية، وجريدة يومية إفريقيا. [8] - زيارة تونس 1957 وزيارة تطوان 1958. [9] - العدد 193 من 14 إلى 20 أكتوبر 2003، وتصدر عنوان الحلقتين: "العميد طه حسين في المغرب سنة 1958"ّ. [10] - أعداد 181-182-183 من جريدة تمودة الصادرة في أواخر شهر يونيو وأوائل شهر يوليوز عام 2008.