إذا كانت تطوان قد توفر لها في فترة الحماية الإسبانية ما يقرب من سبع قاعات مغطاة، ثلاث منها تجمع بين العرض المسرحي والسينمائي (المسرح الوطني، ومسرح إسبانيول، ومسرح مونومنطال)، وأربع قاعات خاصة بالعروض السينمائية فقط (سينما أبيندا، وفيكتوريا، وميسيون، والمنصور) علاوة على أربعة فضاءات سينمائية صيفية (بارك، باهيا، مرحبا، وطيراسا)، وما صاحب ذلك من وجود حركة ثقافية وفنية متنوعة، خلال فترتي الحماية وبداية الاستقلال، فإنه ولأسباب متعددة لم يبق منها مفتوحا سوى قاعتين (مسرح إسبانيول وسينما أبيندا) اللتين تصارعان اليوم آفة التوقف والاختفاء والهدم والانقراض، خاصة مسرح إسبانيول، وما أثاره خلال الشهور الأخيرة من موجة احتجاجات المجتمع المدني على محاولة الإغلاق المهدد بها عبر كتابة العرائض، ومقالات الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي. في هذا السياق صدر للباحث الأستاذ الزبير بالأمين كتاب توثيقي مفيد حول معلمة تطوان الثقافية بعنوان "مسرح إسبانيول ذاكرة تطوان الفنية 1923 2013". يبرز فيه أهمية هذه المعلمة التاريخية الفريدة في المغرب ودورها الفني والثقافي في ذاكرتنا الجماعية، وضرورة العمل على إنقاذها وضمان استمراريتها للأجيال القادمة. والكتاب يتضمن 355 صفحة من الحجم العادي، ويحتوي على مقدمة للأديب الأستاذ رضوان احدادو، وتوطئة للمؤلف، وهو معزز بصور رائعة ونادرة، وبوثائق توثق بشكل جلي للفترة موضوع الدراسة، ستشتمل على ثمانية فصول، وهي: الفصل الأول خصصه صاحب الكتاب لضبط تاريخ تأسيس مسرح إسبانيول الذي اختلف حوله عدد من الباحثين المغاربة والإسبان في مجال التأريخ الفني لمعالم تطوان، إضافة إلى سبب تسمية المسرح بإسبانيول، والظروف السياسية التي تحكمت في ذلك، واختيار موقعه الاسترتيجي الذي جاء قرب المدنية العتيقة، والحي اليهودي (الملاح)، والحي الكولونيالي (إنسانتشي)، زيادة على وصف المسرح ومحتوياته داخليا وخارجيا متطرقا إلى الفن المعماري الذي أثث به هذا الفضاء الجميل. اما الفصل الثاني، فقد تناول فيه المؤلف بعض الإصلاحات والترميمات التي عرفها مسرح إسبانيول خلال فترتين، الأولى كانت سنة 1943 تم على إثرها فتح عدد من فتحات نوافذ الواجهة، وبناء مظلة جديدة أكبر طولا من الأولى، وهي القائمة اليوم. أما على المستوى الداخلي فقد أضيف بناء بمدخل الخشبة على شكل قوس لتصبح أكثر جاذبية وكلاسيكية. وتم تغيير موضع الشرفات وكراسي المدرجات العليا ومسالكها، إضافة إلى تزيين سقفه. أما الفترة الثانية من الإصلاح فانطلقت في موسم 1999/2000 ومست تقوية السطح والواجهات الخارجية، ووضع أغلفة جديدة للكراسي، وتغيير نظام صفوف القاعة الكبرى بالحفاظ على صفين بدل ثلاثة، وتحديث آليات الصوت، وتعويض الرسومات الأصلية للفنان ماريانو بيرتوشي بالواجهة العليا للخشبة برسومات شبيهة لها قام برسمها الفنان بوزيد بوعبيد. ويضيف المؤلف أشكالا معمارية متباينة مست جانب البناية الداخلي أكثر من جانبها الخارجي. وبالنسبة للفصل الثالث، فقد تطرق الزبير بن الأمين إلى نماذج من العروض الثقافية والوطنية والاجتماعية التي عرضت بمسرح إسبانيول مثل المحاضرات الهامة من بينها: محاضرة الأمير مولاي الحسن (المرحوم الحسن الثاني) سنة 1957، ومحاضرة الزعيم عبد الخالق الطريس سنة 1933، ومحاضرة الدكتور طه حسين سنة 1958، مع ذكر بعض التجمعات الخطابية والاحتفالات والمؤتمرات، ومن أبرزها المؤتمر الرابع لطلبة شمال إفريقيا سنة 1936. وأشار المؤلف في الفصل الرابع، إلى نماذج من العروض المسرحية التي استقبلها مسرح إسبانيول منذ سنة 1923، كانت في مجملها عروضا لفرق اسبانية مثل فرقة Calvo Rossi للأعمال الكوميدية سنة 1929، وفرقة Amalio Al Corizaسنة 1932. وانطلاقا من سنة 1936 شرعت الفرق المحلية المغربية في تقديم عروضها المسرحية متأثرة في ذلك بالتجربة المسرحية الإسبانية فنيا، لكنها في المضمون حملت طابعا وطنيا، من بينها: مسرحية "انتصار الحق بالباطل" من تأليف الأستاذ عبد الخالق الطريس... واستمر النشاط المسرحي بتطوان بعد ذلك حيث تم عرض عدد لا يستهان به من التمثيليات يشير إليها المؤلف بتفصيل. كما عرف مسرح إسبانيول تقديم عروض مسرحية لفنانين عرب كبار من أمثال أعضاء فرقة رمسيس برئاسة الأستاذ يوسف وهبي سنة 1958، واحتضن مسرح إسبانيول كذلك مهرجان مسرح الهواة سنة 1980، فضلا عن عدد آخر من المهرجانات والمسرحيات المختلفة والتي وصفها المؤلف بإسهاب. الفصل الخامس، تناول فيه المؤلف نماذج من الأنشطة الموسيقية التي أقبل عليها الجمهور منذ منتصف عشرينيات القرن الماضي كحركة نشيطة للفنون الموسيقية التي كانت ترد على مدينة تطوان بمختلف ألوانها، سواء في فن الأوبيرا والسارسويلا أو الغناء الشعبي كالفلامنكو أو فن الموسيقى الكلاسيكية والعصرية والرقص...إلخ، وقد تحدث المؤلف بتفصيل عن مختلف الحفلات الموسيقية الإسبانية والعربية والمغربية والدولية التي نظمت بهذا المسرح منذ تأسيسه إلى غاية سنة 2013. الفصل السادس، قَدَّمَ المؤلف من خلاله نماذج من العروض السينمائية، مقرا بصعوبة توثيق هذه المادة كرونولوجيا نظرا لكثرتها، ونظرا لقلة المصادر التي سجلتها بين صفحاتها، غير أنه يعتبر أن الفترة الممتدة بين 1923 و 1983 هي الفترة الذهبية لعرض الأشرطة السينمائية. ويذكر الباحث أن أول شريط سينمائي صامت تم تقديمه بمناسبة تدشين مسرح إسبانيول كان بعنوان "El signo del Zorro" سنة 1923، وذلك بعد تقديم أول مسرحية بعنوان "Cristalina". ويرى أن الإنتاج السينمائي الأمريكي كان هو الأوفر حظا نظرا لسيطرة شركات هوليود على الصناعة السينمائية العالمية، وكان أول شريط سينمائي عربي قدمه مسرح إسبانيول من إنتاج مصري بعنوان "سلمى" سنة 1936، وقد استقبل مسرح إسبانيول أيضا عدة مهرجانات سينمائية من أهمها مهرجان السينما المتوسطية. الفصل السابع، وصف فيه المؤلف رياضة الملاكمة وهي من المفاجآت التي تغيب عن شبابنا اليوم. فزيادة على المسرحيات والأشرطة السينمائية والحفلات الموسيقية...، ساهم مسرح إسبانيول منذ أواخر العشرينيات في تقديم سهرات رياضية في فن الملاكمة، حيث تبارى فوق خشبته عدد كبير من الملاكمين المحليين والوطنيين والدوليين. وكان من بين أبطال تطوان المشاركين في هذا المجال الرياضي البطل المرحوم عبد السلام بن بوكر، وقد سرد المؤلف بعض المباريات سردا دقيقا معتمدا على الوثائق التي وقف عليها في نبشه العميق. - الفصل الثامن، جعله المؤلف خاصا بتقديم بعض العروض الطريفة والأحداث الغريبة المتفرقة التي شاهدها جمهور مسرح إسبانيول، كفنون السحر، وبعض الحفلات الشعبية، وبعض المبادرات الطبية والاجتماعية، وأمسيات شعرية، وحفلات نهاية السنة الدراسية، وتكريم بعض الفعاليات الفنية والثقافية والرياضية والاجتماعية، خاتما كتابه ببعض الملاحظات الهامة وهي بمثابة استنتاجات حول الظواهر التي عرفها مسرح إسبانيول في مختلف أنشطته خلال هذه العقود التسعة، منتهيا بتقديم بعض الشهادات لشخصيات فكرية وفنية مغربية وإسبانية حول هذا الصرح الفني الكبير. إن صاحب الكتاب يعترف في آخر توطئة كتابه - بتواضع الباحثين المخلصين - أن بحثه حول مسرح إسبانيول رغم عمقه يظل محاولة تعتريها فجوات وهفوات سواء في تغطية بعض مراحله التاريخية، أو في أشكال لغته البسيطة أو في ترجمة العناوين والأساليب الكثيرة المنقوله من الإسبانية إلى العربية. والكتاب من جهة أخرى يبقى ذا أهمية تاريخية عظيمة وفائدة ثقافية جليلة سواء بالنسبة للقارئ العادي، أو بالنسبة لكل متتبع للحركة الثقافية والمسرحية والسينمائية والرياضية والموسيقية أو لسائر الباحثين والفنانين، فهو يوثق لمرحلة طويلة عمرها تسعة عقود كاملة من تاريخ مدينة تطوان الفني. وتبرز أهمية هذا الكتاب كذلك في كونه غير مسبوق كما يقول الكاتب الأستاذ رضوان احدادو: "هو عمل ريادي في بابه، غير مسبوق في توجهه وتوهجه... إنها رحلة من أجل رد الاعتبار واسترجاع الذاكرة باستدعاء اللحظات المشرقة البهية الهاربة... وتحية تقدير وإعجاب لهذا المجهود المبذول ولكاتبه الذي ما عهدناه إلا فارس الغمرات".