أولا:التغير الاجتماعي والانعكاسات السلوكية بين القمة والقاعدة رغم بوادر اللهو والمجون الذي تسرب بصورة طارئة وشاذة إلى حياة الناس في عهد بني أمية وعلى وتفاوت وتقلب بين الإيجابي والسلبي في توجه الخلفاء آنذاك،و مع الأخذ بعين الاعتبار مبالغات المؤرخين وأعداء دولة الأمويين في إسقاط هذه الأوصاف، ، فإن تلك المظاهر الشاذة من التغيرات قد كانت محدودة وضيقة و أقل تأثيرا وحضورا مما سيكون الحال عليه في عهد العباسيين الموالي له. بل قد كانت متأرجحة ومحتشمة لا تكاد تعدو الميل نحو الملذات والترف التقليدي الذي يختلف ارتياده من حاكم لآخر بحسب نوعية الندماء والمرافقين له ،أي البطانة والأصدقاء الخواص. وقد ذكر ابن جرير الطبري في تاريخه الكبير صور ثلاثة خلفاء أمويين :أحدهم كان مولعا بشراء الجواري فكان الناس لا يتحدثون إلا عن كم اشتريت من جارية وما لونها وجمالها ،وآخر كان مشغولا بشراء الضيعات واقتناصها حيث كانت، فكان الناس يتذاكرون في الغالب حول كم ضيعة اشتريت وبكم وما مساحتها وما هي فواكهها…في حين سيذكر الخليفة الثالث وهو عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى والذي كان مولعا بقراءة القرآن وحفظ الأحاديث النبوية والإكثار من مجالس الذكر والصلاح ،فكان الناس في عهده لا تجدهم يتحدثون في الغالب إلا عن كم من آية حفظت وكم من حديث رويت وما أخلاقك وما هي نسبة صيامك وقيامك وذكرك وأورادك وهكذا .أي أن انعكاس الحكام كان ظاهرا على سلوك الرعية بحسب مذهبهم وتوجههم وسياساتهم. وذلك لأن بني أمية قد حافظوا على جملة من العادات العربية الأصيلة ولم يتفننوا في تلوين أنواع البذخ والترف،نظرا لقوة عصبيتهم القومية العربية،وعدم السماح لأي عنصر من العناصر الأجنبية بنيل درجة التأثير بالكامل على أحوال المجتمع آنذاك،وإن أخذوا عن بعضها قسطا من المظاهر محدودة فإنهم قد أضفوا على تلك الاقتباسات صفات قد تليق بالذوق العربي وما تعودوا على استساغه وتقبله بسجيتهم وسليقتهم[1]. لكن عند قيام الدولة العباسية وسيادة العنصر الفارسي آنذاك،بفعل المؤازرة والمناصرة الأولى لقيام الدولة الجديدة،ستدخل العوائد الخارجية على المجتمع العربي المسلم،وسيكثر الغناء والموسيقى ويشرب النبيذ،وسيقتبس الخلفاء نظام مجالسهم من الفرس،وسيرتب الندماء وتكثر العطايا والمنح[2]،بل حتى الأعياد المجوسية قد أوتي بعوائدها واحتفل بمناسباتها في دار الإسلام كعيد النيروز الذي كان عند الفرس قديما[3]. من خلال هذه المقتضبات التي تصور لنا مرحلة اللهو التي كانت سائدة في القرن الثاني وما تلاه بعد ذلك وتطورها مع الزمن، كان لابد لنا من البحث في جانب آخر معاصر ومجاور لجانب اللهو والمجون،ومضاد له في نفس الوقت من غير انفعال أو عنف وتشنج. وهكذا سنرى في نفس في الوقت وجود تيار آخر مجانس ومتحدى له سلوكيا وعمليا لتحقيق التوازن وسنة التدافع الإيجابي،سيكون أيضا في تطور مستمر،حسب حال المجتمع في كل ما يحدث فيه من مد أو جزر،ألا وهو تيار التقوى والورع والتشبث بالقيم والأخلاق الإسلامية الأصيلة في ثوبها الروحي المتسامي. فلقد تطور الورع عند جماعات إلى زهد عادي فردي،وانتقل بعد ذلك إلى زهد منظم-حسب رأي علي سامي النشار- له امتيازاته ومقاييسه،وآراء تدور حوله. بعد ذلك وفي أواخر القرن الثاني أخذ هذا التوجه يضرب إلى التصوف ويرمي إليه بصفته علما ومنهاجا يسعى إلى تهذيب النفس وتحليتها بكل الفضائل الهادفة إلى تكوين الإنسان المتخلق والفاضل[4]. غير أن القول بالتطور قد لا يبدو ضروريا أو نتيجة منطقية حتمية،وذلك لأن أصول كل من الزهد أو الورع وكذلك مضمون التصوف سواء كان فرديا أو جماعيا قد كانت موجودة في كل العصور الأولى للأمة وأنشطتها،لكن كما يقال:في الليلة الظلماء يفتقد البدر،كما أن النقطة البيضاء قد تبدو أكثر بروزا حينما يكون الغالب على السبورة لون السواد!.
ثانيا:التصوف بين التسلسل التاريخي والتراتب الاصطلاحي هذا المعنى سيلخصه لنا أبو القاسم القشيري بأسلوب موضوعي ومتزامن مع مظاهر التغير الاجتماعي الذي قد تتغير معه حتى الألقاب والمصطلحات العامة من صياغة متداولة إلى حلة جديدة بحسب زمانها وأهله. يقول عن مرحلة ظهور التصوف كمصطلح في التسلسل التاريخي:"اعلموا رحمكم الله تعالى أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتسمَّ أفاضلهم في عصرهم بتسمية علم سوى صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم،إذ لا فضيلة فوقها،فقيل لهم الصحابة.ولما أدركهم أهل العصر الثاني سمي من صحب الصحابة التابعين ورأوا ذلك أشرف سمة،ثم قيل لمن بعدهم أتباع التابعين،ثم اختلف الناس وتباينت المراتب فقيل لخواص الناس ممن لم شدة عناية بأمر الدين:الزهاد والعباد،ثم ظهرت البدع وحصل التداعي بين الفرق فكل فريق ادعوا أن فيهم زهادا،فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفاسهم مع الله تعالى الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة"[5]. ولقد استند عبد الرحمن بن خلدون كمؤرخ جهبذ في تحديد مرحلة ظهور التصوف ومواكبته للظروف الاجتماعية وتطوراتها مع تبيين أصالة هذا العلم مضمونا وتاريخا على ما ذهب إليه القشيري في الرسالة حيث يقول في "المقدمة":"هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة،وأصله أن طريقة هؤلاء القوم،لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق و الهداية،وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى،والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها،والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه،والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة،وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف،فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة…"[6]. هذا من الناحية التاريخية،أما من جانب فقه اللغة وتحديد أصل المصطلح فقد يبدو اسم التصوف وكأنه لقب وليس مشتقا من صفة من الصفات والنعوت أو المصادر اللغوية المطابقة للفعل الصوفي وإجراءاته الخاصة!لهذا نرى القشيري أيضا يشير إلى أنه لم يعرف لهذا الاسم أي قياس أو اشتقاق في اللغة العربية،وحتى لو نسب إلى الصوف،الذي يكاد يوافق تصريف هذا الاسم،فإنه يخالف ما اختص به أصحاب هذا المذهب كما يذهب إليه في"الرسالة"بقوله: "هذه التسمية غلبت على هذه الطائفة فيقال رجل صوفي وجماعة صوفية،ومن يتوصل إلى ذلك يقال له متصوف وللجماعة المتصوفة،وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس أو اشتقاق،والأظهر فيه أنه كاللقب،فأما قول من قال إنه من الصوف وتصوف إذا لبس الصوف كما يقال تقمص إذا لبس القميص فذلك وجه،ولكن القوم لم يختصوا بلبس الصوف ومن قال إنهم منسوبون إلى صفة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فالنسبة إلى الصفة لا تجيء على نحو الصوفي،ومن قال إنه من الصفاء فاشتقاق الصوفي من الصفاء بعيد في مقتضى اللغة وقول من قال إنه مشتق من الصف فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم من حيث المحاضرة من الله تعالى،فالمعنى صحيح ولكن اللغة لا تقتضي هذه النسبة إلى الصف،ثم إن هذه الطائفة أشهر من أن يحتاج في تعيينهم إلى قياس لفظ و استحقاق اشتقاق …"[7]. وفي عبارته الأخيرة إشارة إلى قوة وصحة المسلك الصوفي وعدم وقوفهم مع الألقاب والمصطلحات مما قد يبين لنا أن ظهور التصوف كحركة عملية علمية عرفانية قد كانت ذات منهج خاص وليس أنها مجموعة أناس لابسين للصوف،أو أنهم يمثلون أهل الصفة أو غيرها من الإحالات التي يحيل الباحثون إليها أصل الكلمة. لكن المستنتج مما رأينا من آراء المؤرخين القدماء،أن التصوف قد نشأ أو برز بشكل متميز كعامل طبيعي ضد كل حركة تمرد و انحراف يحدث طارئا في وسط اجتماعي،قد كانت له أصالة وقسطاس مستقيم يزن به تصرفاته.فكلما ابتعد وانحاز عن محجته البيضاء إلا و كان هناك من يراقب هذا الزلل ويقيم السدود،حتى لا يطغى التيار ويهدم كل شيء. ولئن كان المجتمع الإسلامي الأول قد مر بمرحلة النقاء التام ثم دخلت عليه الشوائب وانتابته النوائب،حتى كدرت عليه صفوه،لولا أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض،فإن نفس السنة قد جرت على التصوف،حيث ابتدأ بالصفاء والطهر و اتباع النص في كل تصرفاته،حتى سمي بالتصوف السني،ثم دخلت عليه المصائب وانتشرت في أوساطه الألاعيب،وكثر الغلط فيه كما اللغط حوله،حتى سمي جانب منه بالتصوف المتطرف . وهكذا فقد أصبح التصوف يتجاذبه تيار الاعتدال كما يتجاذبه تيار التطرف والمغالاة،مما دعا الباحثين إلى استنباط ما هو سني فيه وإثباته واستخراج ما هو متطرف منه والتنبيه عليه. فقد يمكن أن يسلم المتصوف السني جملة من التطرف،كما يمكن أن ينحرف المتطرف عن السنة كلية،وقد يحدث اجتماع جوانب سنية في شخص من جهة وتلبسه بجوانب متطرفة من جهة أخرى. لهذا فلا يمكن الحكم على أشخاص ونسميهم بالسنيين جملة،وكذلك لا نحكم على آخرين ونسميهم متطرفين بالكلية،بل ندرس المنهاج السائد وكثرة وروده عن أفراد متألقين في مجال السنة،ونحكم عليه بأنه هذا هو التصوف السني،وكذلك نفعل مع الجانب المتطرف ونحكم عليه بأنه هذا هو التصوف المتطرف .
[1] أحمد أمين:ضحى الإسلام ج1ص104 [2] حسن إبراهيم حسن:تاريخ الإسلام السياسي … ج1ص403 [3] أحمد أمين :ضحى الإسلام ج1ص105 [4] علي سامي النشار:نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ط7ج3ص17 [5] القشيري:الرسالة ،دار الكتاب العربي بيروت ص7 [6] ابن خلدون:المقدمة،المكتبة العصرية صيدا بيروت ط 5 ص142 -2004 [7] القشيري:الرسالة القشيرية ،دار الكتاب العربي بيروت ص126