لعل أبرز مبادئ هذا المذهب توازن معالمه وقوام مصادره من الكتاب والسنة، فالإمام مالك الذي قال إذا صح الحديث فهو مذهبي، إذا سمعتم عني شيئا فزنوه بميزان الشرع.. كان كتابه الموطأ أعظم مستند في السنة، وقد جمع عشرة آلاف حديث، انتقى منها بعد التحري ضمن شروط الرواية والدراية سبعمائة فقط، مؤكدا أنه لو طال عمره لحذف جميعها، وهذا العدد هو الذي يحتوي عليه الموطأ اليوم. وبالإضافة إلى ترجيح الإمام للأصلين الكتاب والسنة في بناء مذهبه كان يستأنس بمبدأين أساسيين آخرين: الأول: عمل أهل المدينة الذين كانوا آخر من شاهد الراجح من أعماله وأفعاله -عليه السلام- والثاني، هو الاستناد إلى العادة التي لا تخالف نصوص الشرع. وقد كان لهذين المبدأين الأثر الكبير في انتشار هذا المذهب المتزن في القارات وخاصة في القارة السمراء وكان له في ذلك سند آخر في مقولة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اقتدوا باللَّذين من بعدي أبي بكر وعمر، حيث كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يستند دائما إلى ما يقتضيه الصالح العام إذا توافق نصا وروحا مع السنة فيقول: "إن الإسلام يوجد حيث يتأتى الركون إلى الصالح العام" وهو مبدأ يفسح المجال لمواكبة مقتضيات ما جد في مختلف العصور. وقد بشر الرسول -عليه الصلاة والسلام- بإمامة مالك حيث قال كما في حديث أبي هريرة: "ليضربن الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة." والواقع أن المغرب عرف في القرون الثلاثة الأولى كلا من مذهبي أبي حنيفة والأوزاعي ولكن هجرة القيروانيين في هذه الفترة أدرجت مدونة سحنون التي كانت عبارة عن أسئلة أبي حنيفة أخذها أسد بن الفرات عام 213ه بالعراق فوصلت إلى سحنون الذي عزز أجوبتها بجملة من الأحاديث والآثار. على أن المغرب قد عرف قبل ذلك محدثين وفقهاء أخذوا رأسا عن الإمام مالك، أمثال العلامة القيسي قاضي المولى إدريس ويحيى بن يحيى الليثي الطنجي (المتوفي عام 234 ه)، وقد روى عن مالك موطأه فكان المؤسس الأول للمذهب المالكي بالمغرب. ومنذ ذاك أصبح الفقه المالكي مواكبا في تطبيقاته للسنة النبوية، فاستعيض عن صحيح مسلم في الدروس العامة المقامة بحضرة الأمراء والخلفاء بصحيح البخاري الذي كان فقهه بارزا في عناوين ما في الصحيح من أحاديث. وموطأ مالك خال من كل شائبة في خصوص صحة الأحاديث، في حين طرأ في المذاهب الأخرى ما أثار الريبة والشك، ففي خصوص مذهب أبي حنيفة جمع باسمه عبد الله بن يعقوب الحارثي المعروف بوضع الحديث (توفي 345ه)، ما سماه: "مسند أبي حنيفة"، (لسان الميزان للذهبي: ج 3 ص: 345). كما لاحظ الدراقطني في خصوص "مسند الشافعي" أن عبد الله بن محمد القزويني هو الذي ألف كتاب "سنن الشافعي" وأدرج فيها نحو مائتي حديث لم يحدث بها الشافعي (توفي سنة 315ه)، وتفضيل المغاربة لصحيح البخاري على صحيح مسلم راجع كما في توضيح الأفكار ج 1 ص: 332 لكون البخاري يركز سنده على العنعنة؛ إذ يقول: "إنه لابد من تحقق اللقاء ولو مرة بين الراوي والمروي عنه"، ومعنى ذلك أن المعاصرة تستلزم المعاشرة وقد دعا السلطان سيدي محمد بن عبد الله إلى استخلاص السنة الواضحة من الفروع معززة بتحديد نشر مصنفات صحيح الحديث ضمن ماجريات العمل الفاسي أو الرباطي أو التطواني أو القرطبي. بينما أعطى الموحدون الأسبقية للنصوص الأصلية من الكتاب والسنة حتى تغالوا بإحراق بعض كتب الفروع، فقد أصبح "مختصر شيخنا خليل" بعد مدونة سحنون ونوادر ابن أبي زيد القيرواني مرجع الفقهاء الذين عمل بعضهم، مثل المحدث الحافظ محمد المدني بلحسني الرباطي، على تخريج أحاديثه تركيزا لقوة أسانيده. برزت في عهد الإمام الأشعري منذ القرن الرابع مجموعة من التيارات الشاذة كالخوارج والشيعة والمعتزلة أثارت مجموعة من الانحرافات عن السنة، ولكن لم تجد في المغرب آذانا صاغية لتمسك المغاربة بالمذهب المالكي في خصوص علم الكلام وسنية العقائد. ولم يعرف المغرب شيئا من هذه التيارات عدا الصفرية الخوارج التي ظهرت في سجلماسة إلى منتصف القرن الرابع الهجري ثم انقرضت تحث تأثير المذهب المالكي. ولنضرب مثلا بقضية أثارت آراء الأشاعرة والمعتزلة في "مسألة الصفات الإلهية" فقد نفاها هؤلاء مجردين الذات الإلهية من كل صفة ومقتصرين على وصف الإنسان. وقد خفي عليهم قول الله تعالى في كتابه العزيز: "لقد جاءكم رسول من اَنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمومنين رءوف رحيم"، [سورة التوبة / الآية:129]، حيث اشتق الحق تعالى من أسمائه وصفين وصف بهما رسوله الكريم، وهما الرأفة والرحمة منسوبين إليه في إطار علاقته بالمومنين، فهي صفة نسبية في حين تكون الصفتان مطابقتين لله تعالى. إن المغاربة امتازوا حقا بموقف خاص من التصوف هو الفكر السني الحق؛ لأن التصوف السلفي الأصيل هو تصوف الرسول -عليه السلام- وصحابته الأبرار، فكان الصوفية بالمغرب في القرون الهجرية الأولى مجرد مؤمنين يتشبثون بالشريعة الإسلامية، يذكرون الله كما يذكر الرسول لا يحيدون عن اتباع سيرته، يقتفون أثره حذو النعل بالنعل، وكان عليه السلام يدعوهم إلى جهاد مزدوج وهو جهاد المشركين وجهاد النفس (الجهاد الأكبر)، فكان رباط أهل الصفة وأمثالهم من الصحابة شنشنة الجميع يؤمنون بما أكده -صلى الله عليه وسلم- من أن رباط ليلة للدفاع عن الإسلام يعدل عبادة مائة عام. وتوالت السنون فظهرت الطرق والأوراد والوظائف في القرن الرابع الهجري ضمن ما ظهر من تيارات فبدأ العلماء يتساءلون عن هذا المسار الجديد فكان أول من سئل عن ذلك الشيخ عبد الكريم ابن هوازن صاحب "الرسالة القشيرية"، مستندا لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديث رواه أبو الأحوص عن منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله قال: "خير أمتي القرن الذين يلوني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته." بحيث كان الصحابة وكذلك التابعون وأتباع التابعين إلى القرن الرابع يسلكون نهج الرسول -عليه السلام- مستمدين من نوره المشع، وبعد القرن الرابع فتر هذا السلوك فقام علماء أفذاذ فصنفوا الكتب والمؤلفات الجامعة لأقوال وأدعية الرسول، وتنافسوا في قراءتها، فتكونت جماعة من الدالين على الله، وهناك ظهرت اتجاهات حاد بعضها عن السَنَن السهل الرصين فظهر في المغرب من تبنوا ريادة وقيادة هذه الدعوة أمثال أبي الحسن الشاذلي الغماري (توفي سنة 656ه) تلميذ المولى عبد السلام ابن مشيش، والذي كان له ضلع في حسن توجيه التيار الجديد بالمشرق، وقد استقر في الإسكندرية، كما استقر الشيخ أحمد بدوي الفاسي في طنطا، وعبد الرحيم القِنائي في صعيد مصر يدعون إلى الفكر الصوفي المحمدي، فكان ممن انخرط في سلك هذا المنهج السني أحد علماء الأزهر سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام (توفى سنة 660ه) الذي زار الشاذلي كمنتقد يرى أن الصوفية ليس لديهم سوى القشور في حين يختص الفقهاء وحدهم باللباب، وبمجرد ما التقى الرجلان سأل الشيخ الشاذلي زميله الأزهري هل يصلي فاستنكر السؤال، وهو العالم الفذ الذي بلغ الذروة حتى لقب بسلطان العلماء، فأجاب الشاذلي وهو جواب كل مومن موقن بأن القرآن وهو الوحي الإلهي الوحيد الذي لا ينطق عن الهوى بالاحتكام بالقرآن سائلا إياه هل يجزع إذا أصابته مصيبة، فكان جوابه الإيجاب فعقب الشاذلي قائلا: "إنك إذن لا تصلي"؛ لأن الله تعالى يقول: "إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا، اِلا المصلين"[سورة المعارج /الآيات: 19-22]؛ فسكن وخنع موقنا بأن التمسك الحق بالقرآن هو روح التصوف السني المحمدي. وحتى في القول بالتوسل والوسيلة يقع خلاف مر بين المسلمين مع أن آية التوسل في القرآن لا تحتمل الشك، وهي قول الله تعالى: "ولو اَنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما" [سورة النساء/ الآية 63]. فالقرآن بالنسبة للمؤمن الحق هو الدستور الأوحد والذكر الأعظم يقول جل جلاله: "ولذكر الله أكبر"، فلا ذكر أعظم قربى إلى الله من كتابه. وقد نسب لبعض الصوفية قولهم إن أذكارهم أعظم أجرا من تلاوة كتاب الله وهو قول مردود، لا يقول به مؤمن مهما يكن، ولعل بعض المقولات تفهم على غير وجهها أو يقصر الاستناد إلى بعض ألفاظها دون بعض، فيساء الفهم، وهنالك صوفية ألحق هذا القول بهم مثل الإمام ابن حجر الهيثمي، والشيخ سيدي أحمد التيجاني (توفى سنة 1230ه) الذي ذكر كما في "جواهر المعاني" بأن قارئ القرآن على ثلاثة أوجه؛ فقارئ يفهمه ويعمل به، هو له خير الذكر وثان مثله يعمل به ولا يفهمه وثالث يفهمه ولا يعمل به يصدق عليه قوله عليه السلام: "رُّب تال والقرآن يلعنه". فاستغفار هذا الرجل من ذنبه أهون من تلقي اللعنات الإلهية، فعليه الرجوع إلى إتباع كتاب الله كالمومنين الأولين. قبل سرد حروفه بدون عمل واستجابة أوامر الله تعالى. ربما كان التعليم عامة يسير في الطريق السليم في بعض مناحيه، ولكنه ما زال بعيدا عما يفتقر إليه المجتمع؛ لأن خريجي كثير من الجامعات وخاصة التعليم الأصيل غير ملمين بما تقتضيه تطورات العصر، وقد بدأ النظام الجديد يعمل على حل هذا المشكل الهيكلي، ولكن المردود لا يمكن أن يتحقق دفعة واحدة لاسيما وأن مقتضيات العصرنة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية تستلزم شيئا غير قليل من الوقت لتؤتي أُكلها حتى في الإطار الديني؛ كمسار خريجي التعليم الديني الذين يجب أن يلائموا معطيات عصرهم. وقد واجه المغرب هذه القضية الشائكة في أشد مظاهرها بعد الاستقلال، وكنت آنذاك أول مدير للتعليم العالي عام 1958، فواجهت مشاكل شتى بحكم إشرافي على جامعة القرويين، وكلية ابن يوسف، فلم يكن من السهل إقرار نظام إيجابي فعال في هذه المؤسسات، فبدأ المسؤولون بالتعليم الأصيل بالعمل على تجديد نظامه وبرامجه، وأدخلوا بعض العلوم الحديثة كاللغات الحية مع السعي في آن واحد استكمال هيكله وتكوين الأطر الصالحة لمواكبة العصر، لكن النقص ظل جاثما رغم الحل الجزئي للمشكل؛ لأن العصر يتطور بسرعة حيث لا نكاد نملأ فجوة من الثغرات حتى يقفز العالم المتمدن آلاف الخطوات. ولكن المملكة المغربية قد خطت اليوم خطوات إيجابية فعالة إذا قورن التعليم بما كان عليه فقد أسست دار الحديث الحسنية لتكوين الأكفياء من الأطر التربوية، وقد درَّست شخصيا في هذه الدار نحو ربع قرن منذ تأسيسها، والتطور الآن ملموس بين اليوم والأمس، وكذلك بالنسبة لجامعة القرويين وما يسير في فلكها من كليات، فتأسست كليات الشريعة وأصول الدين وكلية اللغة العربية، وأنشئت في كل كلية عصرية أقسام عملية للدراسات الإسلامية، وحصل المتخرجون من التعليم الأصيل على ما شجعهم على مواصلة التطور في إطار المجتمع المعاصر، وقد أصبحت للمغرب اليوم هيكلة تكتمل مع الأيام مسايرة لشتى مقتضيات القرن الواحد والعشرين. ومن حسن الحظ أنني نقلت من التعليم الأصيل في فترة يسيرة إلى ميدان أصبحت فيه مسئولا في نطاق جامعة الدول العربية على تعزيز لغة القرآن في العالمين العربي والإسلامي، فاشتغلت فيه ربع قرن إلى عام 1983، حيث عملت مع زمرة من الأفراد العلميين العرب على تمكين لغة الضاد من مكانة دولية حيث أصبحت إحدى اللغات الخمس في هيئة الأممالمتحدة ووحدت المصطلحات العربية في مختلف الأطوار التعليمية أدبيا وعلميا واجتماعيا واقتصاديا وتقنيا. حاورته الأستاذة عزيزة بزامي رئيسة تحرير جريدة ميثاق الرابطة