لقد كانت سنة 1389هج 1970م، سنة حاسمة في حياتي وبداية عهد جديد يتسم بحب العلم والمعرفة، لم تلبث أن ظهرت آثاره في دراستي بثانوية القاضي عياض بتطوان. كان عدد الحاضرين في الجلسة العلمية بمقصورة مسجد العيون، يقارب العشرة، وقد جلسوا على الحصير يستمعون إلى دروس في السيرة، والفقه، والأدب، والنحو، والبلاغة. وبفضل شخصية الفقيه؛ أبو أويس محمد بوخبزة، رحمه الله، المرحة والانبساطية، لم تكن هذه الدروس مملة، بل كان إقبالنا عليها شديدا ورغبتنا في التحصيل قوية. وكان أستاذنا جزاه الله عنا خيرا ، كثيرا ما يدعونا إلى بيته ويقدم إلينا الشاي والحلويات، كما يتحفنا بالنوادر الأدبية والتاريخية، وأحيانا يدخلنا مكتبته القيمة ويعيرنا الكتب التي كنا نرغب في مطالعتها. لقد غرس فينا حب القراءة والبحث، وعلمنا آداب المناقشة والحوار، كما رغبنا في الدعوة الإسلامية، وحثنا على قراءة كتب الدعاة من القدامى والمحدثين. وبما أنه كان يميل إلى المذهب الظاهري في كثير من المواقف والأحكام الفقهية، لم يكن يخفي إعجابه بشخصية ابن حزم، مما دفعني إلى الاهتمام بهذا العالم الموسوعي الفذ، فقرأت بعض مؤلفاته التي أسرني فيها كلامه المنطقي والفلسفي، ومنها طفقت أبحث في الكتابات الفلسفية عند المسلمين؛ فقرأت لأبي علي بن سينا ولأبي نصر الفارابي، ولأبي حامد الغزالي، ولأبي الوليد بن رشد، ولم أبلغ بعد سن العشرين. وسرعان ما بدأت بذور جلسات أستاذنا الدينية والثقافية تثمر، حيث تجلى أول الغيث في تأسيس مجلة “لسان الطالب” بثانوية القاضي عياض، والتي أسهمت فيها بمقال حول “مشكلة الملحدين”، كما حرر صديقي وزميلي في الدراسة الأمين بوخبزة، مقالا تحت عنوان “الماركسية تحارب الدين”. وقمنا بتوزيع بعض أعداد المجلة على ثانويات المدينة. غير أننا فوجئنا بعد بضعة أيام، عندما ذكرت جريدة “البيان” أسماءنا قائلة بأن “الإخوان المسلمين بدأوا يفرخون… في ثانوية بمدينة تطوان” !! ولم يكن هذا التهديد ليثنينا عن عزمنا، بل كنا نستغل كل الفرص لنوضح مبادئ الإسلام لتلاميذ المؤسسة، ونحذرهم من الوقوع في حبائل “المتمركسين” المعجبين بتعاليم ماركس ولينين، والذين كانوا يحلمون بثورة شي غيفارا في الوطن العربي. ولما حصلت على شهادة الباكلوريا في الآداب العصرية وانتقلت إلى مدينة فاس لمتابعة الدراسة الجامعية سنة 1975م، كان من البديهي أن أختار شعبة الفلسفة، فكنت أحضر الدروس والمحاضرات بشغف واهتمام، بالرغم من أن بعض الأساتذة المتمركسين كانوا يمارسون علينا نوعا من الإرهاب الفكري من خلال دروسهم وكتاباتهم. وأذكر أن أحدهم ، ولا داعي لذكر اسمه، فاجأ طلبته قائلا : إني نبئت بأن مجموعة من الطلبة المسلمين بدأت تنشط في الوسط الجامعي، وإني لها بالمرصاد!!. وقد كان لكلامه هذا وقع سيئ في نفوس الطلبة الغيورين على دينهم. بل كان بعضهم يخفي تدينه عن زملائه المتمركسين اتقاء شرهم. وقد كنت لهذه الأسباب أكثر من الاطلاع على كتابات الفكر اليساري والفلسفات المادية. وذات يوم اشتريت كتاب “مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط” للدكتور طيب تيزيني المتمركس، ولما فرغت من قراءته واطلعت على ضحالة أفكاره والتي تجلت في محاولة إسقاط المنهج المادي الجدلي على كتابات الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد الفلسفية، فكرت في تحرير مقال نقدي حول الكتاب المذكور، فحررته ونشرته في جريدة “النور” التي تصدر بمدينة تطوان تحت عنوان:”قراءة نقدية في كتاب مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط”.