*كيف ينبغي أن يكتب التاريخ ؟ هذا سؤال تختلف آراء الناس في الجواب عنه نظريا وعمليا، فهذا مؤرخ حر نزيه لا يخشى شيئا ولا يطمع في شيء، يقول الحق ويسير في طريقه، يرى أن من أحسن يجب أن يعلم أن إحسانه لم يضع، ومن أساء يعرف أن وراءه أعينا ساهرة تحصي عليه أعماله ومواقفه، وأقلاما حادة تسجل ذلك وتخلده في بطون التاريخ ليقرأها الأولاد والأحفاد وتسير بها الركبان في مختلف الأقطار. وذاك كاتب مداح أو هجاء يخدم مصالح شخصية له أو لغيره لا يبالي بالحقيقة ولا يهمه إنصاف، وإنما يمدح أو يذم بالحق وبالباطل وبالواقع وبالمختلق(1). وكم من كاتب أو شاعر أو مؤرخ باع ضميره وقلمه وخان الأمانة، وضل في نفسه وأضل معه الناس لأجل دراهم معدودة قبضها، أو وظيفة زائلة قلدها. والكتاب والمؤرخون الذين من هذا القبيل وذاك قد وجدوا في العهد القديم وهم موجودون الآن وسيبقون في الوجود، مادام الإنسان وأخلاق الإنسان. الشرف، والنزاهة، وعلو الهمة، والعلم الغزير، والعقل الراجح، والاتزان المعقول، ونبذ الخوف والطمع، هذه صفات لا تسمح لصاحبها بغير الحق والعدل والإنصاف. أما الأمل والطمع، والخوف والهلع، والطغيان والجبروت، وصفاقة الوجه وخراب الذمة، فإنها أوصاف تدعو بعض الناس لقلب الحقائق واختلاق الحوادث والاغضاء عن الزلات، ومداراة الذين يخاف منهم أو يخشى أنصارهم، ثم إنكار حسنات الأضداد وفضائل المعارضين، فهذا فلان بيده السلطة أو له جاه، يخشى من غضبه أو إعراضه إذا قيل كذا، أو كتب كذا، وذاك فلان عدو فلان أو كان عدوا لآبائه أو أجداده ويسوءه أن يسمع كلمة حق أو إنصاف في خصمه أو خصم أهله أو مواطنيه، وهذا صديقنا فلان لا يناسب أن نقول في سلفه كذا، أو هؤلاء قومنا لا ينبغي أن نذكر شيئا من نقائصهم أو هذه بلادنا لا يليق أن نصفها هي أو أهلها بكذا وكذا لئلا يستغل ذلك خصومنا إلخ. هكذا تضيع الحقائق وتنقلب الأمور في كثير من الأحوال ومن كثير من الناس. *عن بعض مؤرخي المغرب في عصرنا: لقد سمعت مرارا عديدة من بعض أصدقائي، وهم من ذوي المقامات المحترمة، أن العلامة المؤرخ المرحوم مولاي عبد الرحمن ابن زيدان، قد أساء إلى المغرب وإلى بعض الناس في تاريخه "الإتحاف" وأنه كشف الأسرار وفضح العورات، وليته حذف، وليته أثبت وليته وليته... أما أنا فكنت وما زلت أرى أن ابن زيدان رحمه الله لم يسيء لا إلى المغرب ولا إلى التاريخ وإنما قام بواجب يستحق أن يشكر عليه، وكنت أستغرب صدور مثل ذلك القول ممن كنت أعرف فيهم العقل والعلم، والذكاء والفهم، ولكنني حينما أفكر في الموضوع، وفي سبب مثل ذلك القول، أصل في النهاية إلى أن الشخص إذا كان ينظر بعين الرضى لبعض الجهات، فإنه لا يقدر على أن يسمع عنها غير الثناء، وإذا كان متصلا بالطبقة التي لا تهمها الحقائق بقدر ما يهمها المديح والاطراء، فإن أثقل شيء على سمعه هو ذكر الحقائق المجردة، وإذا قلت لهذا الصنف من الناس، وأين الحق والإنصاف والأمانة، قال لك، ذلك شأن البسطاء والأغبياء. ولقد سمعت أيضا غير ما مرة بعض رفقائي الذين اعتقد أنهم بعيدون عن الأغراض والشهوات، ينتقدون على أستاذنا الرهوني رحمه الله، إثباته في تاريخه الكبير لأشياء يعدونها من الخرافيات التي لا تناسب العصر، فكنت أقول لهم، أليس في الدنيا أناس يعتقدون أن ما تسميه أنت خرافات، هو عين الحقائق وطريق الهدى وسبيل السلامة والنجاة؟ إن هذه الطبقة من الناس موجودة حقا، وأن من الأمانة للتاريخ والحقيقة، أن تسجل أقوالها واعتقاداتها بما لها وما عليها ثم ما على قارئ التاريخ إلا أن يقبل ما يراه حقا وصوابا، ويرفض ما يرى أنه خطأ أو باطل. ومن كان جاهلا فليسأل أهل الذكر والعالمين. وكنت أسمع أشخاصا ينتقدون على كتاب "الاستقصا" لأبي العباس الناصري، اقتصاره على نواح دون أخرى ويقولون في مؤلفه الكبير إنه حاطب ليل، وربما بالغ بعضهم فقلد بعض الأجانب المغرضين في قوله، إنه لو ردت كل فقرة فيه إلى الكتاب الأصلي الذي نقلت منه لما بقي لمؤلفه شيء يذكر. فكنت أستغرب كيف يسوغ لمواطن مغربي أن ينكر فضل أعظم وأحسن وأجمع كتاب ألف في تاريخ وطنه، ذلك الكتاب الذي لم يعرف جل علماء هذا القرن في العالم تاريخ المغرب إلا منه. فهل كان في الإمكان أن يجمع المؤلف الواحد كل شيء؟ وهل العالم أو الأديب الذي لم يحط بكل شيء علما يجب عليه أن لا يكتب ولا يؤلف لئلا يقال، أن إنتاجه ناقص، وهل ينتظر الكمال إلا من الله سبحانه ؟ أما صديقنا العلامة العباس بن إبراهيم قاضي مراكش حفظه الله فإنه لم يعدم من ينتقد عليه اقتصاره في كتابه، "الاعلام" على تراجم الرجال، ولكن أليست تلك التراجم مشحونة بالعلم والأدب والتاريخ والسير والمواعظ والعبر؟ وهل ألف في المغرب العربي كله أحد غير ابن زيدان وابن إبراهيم كتابا يحتوي على نحو عشر مجلدات ضخام في تراجم رجال مدينة واحدة؟ الحق أن الناصري السلاوي مؤلف "الاستقصا"(2) والرهوني التطواني مؤلف "عمدة الراوين"(3)وابن زيدان المكناسي مؤلف "الإتحاف"(4) وابن إبراهيم المراكشي مؤلف "الاعلام"(5) كلهم من أفذاذ علماء الأمة المغربية الذين يستحقون كل إجلال وإعظام، إن بقي في الدنيا فضل وإنصاف. على أن أسماء هؤلاء النبغاء ومؤلفاتهم خالدة وإن وجه لها من الانتقادات ما وجه، وأن اختلاف أساليبها إنما هو صورة لاختلاف صور الأفراد والثقافات والأنظار والاتجاهات. والرأي والله أعلم، أن كتابة التاريخ ينبغي أن تختلف باختلاف الأحوال، فالمؤرخ لأجل الأغراض الخاصة وللدعاية، له أن يراعي المبدأ الذي ألف لأجله فيرفع ما يشاء ويضع ما يريد، ويذكر ما يرضاه أو يرضيه، ويغفل ما لا يوافق مبدأه ومراده، ويشيد بذكر ما يؤيد رأيه ومذهبه، ويحط من قيمة كل ما يخالف ذلك... فالتاريخ الموجه الذي يؤلف مثلا لتلاميذ المدارس الوطنية أو لبث الروح القومية في الأمة، أو لنحو ذلك من الأغراض الشريفة النبيلة، يجب أن لا يثبت فيه من الحوادث والأخبار والمواقف، إلا ما يناسب المقام من مفاخر وأمجاد. والكتاب الذي يؤلف لمقاومة الدول الغاشمة، أو لبيان فضائح الولاة المعتدين والطغاة المتجبرين، والظلمة المغتصبين، أو لمقاومة المبادئ الهدامة والمذاهب والأنظمة الضارة، أو لمحاربة الظلم الاستعماري الغاشم أو الاستغلال الإقطاعي الممقوت، من شأنه أن يحتوي على تشويه أعمال الظالمين والمعتدين وهدمها بالحق بل وحتى بغيره – إن اضطر لذلك – وإن كان الحق غنيا بنفسه. أما التاريخ الحقيقي الذي يكتب للاعتبار، ويسجل مختلف الحوادث والأخبار، فينبغي أن يكون كالمرآة أو كالآلة المصورة التي تثبت الأشياء كما هي، والمؤرخ الصادق، والكاتب الحر، هو الذي يثبت الحوادث كما وقعت ويصف الأشخاص والأشياء بأوصافها الحقيقية بدون مبالغة ولا بخس، فبذلك يعرف مقام المصلحين وفضل المحسنين وكفاح العاملين وجهود المخلصين، كما يعرف أيضا جبروت الظالمين وطغيان المعتدين، وضلال المغترين، وإهمال المقصرين. ومعرفة الحقائق والنتائج هي التي تقف في وجه من تحدثه نفسه بالغرور، وهي التي تعظ من يريد الاتعاظ، وهي التي تدعو لشكر الذين أحسنوا وقاموا بواجباتهم، كما تدفع لنقد الذين أساءوا ولم يهتموا إلا بمصالحهم وشهواتهم، وإعلان الحقائق ونتائجها هو الذي يدعو عددا من الناس للقيام بأعمال البر، والابتعاد عن طريق الشر وموجبات النقد، وفي ذلك صلاح الأمة وإكثار للخير وإقلال للشرور والآفات؟ لقد كان بعض الخيرة من أصدقائي يمدحون بعض الناس بما لم يفعلوا لعلهم يعملون، ويصفونهم بأوصاف لا حظ لهم فيها لعلهم يهتدون "ومن الناس من يسرهم أن يحمدوا بما يفعلون وما لا يفعلون" فكنت أقول لأولئك الأصدقاء أن عملهم جناية على مصالح الأمة التي أعتقد أنهم يعملون لها بإخلاص، لأن مدح الشخص بعمل صالح لم يقم به قد يكون سببا في عدم قيامه بذلك العمل في المستقبل فهو يقول – والإخلاص في الدنيا غير كثير – أي فائدة للتعب والتضحية ما دامت الأعمال الصالحة تنسب إلي وإن لم أعملها، وألسن الناس لاهجة بالثناء علي بأوصاف ولو لم أتصف بها، وهكذا تضيع الحقائق أيضا، وهكذا تهمل المصالح العامة إما بالتملق والطمع، وإما بالخوف وبالأغراض المختلفة، وفي ذلك كله جناية على الأمة وتضييع لحقوقها. إن الأشخاص يذهبون، أما الأعمال فتبقى، وأن الاعراض والأغراض تفنى، أما الحقيقة فهي باقية خالدة، ولكن هل بلغ الناس درجة قبول الحقائق المجردة؟ وهل في الإمكان أن يسير كتاب التاريخ على وتيرة واحدة؟ لعل الذي يحاول أن يرغم الناس أجمعين على طريقة خاصة، أو يسيرهم في اتجاه واحد، إنما يتيه في صحراء الخيال إذ رضا جميع الناس غاية لا تنال. وقديما حاول المؤرخ الكبير العلامة ابن خلدون، وضع قواعد وأصول لكتابة التاريخ ولكن هل وقف هو نفسه مع تلك القواعد والأصول حينما أخذ في كتابة تاريخه "العبر" إنه إن كان قد ذكرها حينا فإنه نسيها أو تناساها أحيانا – والحال هو الحال فيمن أتى بعد ابن خلدون، ولعل الحال هو نفس الحال في مؤرخي عصرنا هذا وفيما يأتي بعده من عصور إلى ما شاء الله. ولعل من النادر بل من الصعب أن يستطيع المؤرخ أو الكاتب أن يتجرد عن جميع الميول والاعتبارات، ويكتب الحقائق مجردة غير متأثر بما يشعر به من حب وحنان، واعتبار وإعجاب، أو بغض واشمئزاز، واحتقار وإهمال. ولعل حياة الأمم والشعوب إنما هي كالروايات السينمائية تتنوع موضوعاتها ومغازيها، ولعل التواريخ كالأفلام تختلف مناظرها وتأثيراتها، ولعل المؤرخ كالمخرج لابد أن يتأثر بنفسيته وبثقافته وبالوسط الذي عاش أو يعيش فيه، ولعل قراء التاريخ كرواد السينما منهم من يتأثر ويتعظ، ومنهم من يضحك أو يسخر أو يلهو، ومنهم المفكر المعتبر المستفيد، ومنهم العبث الذي لا هو في العير ولا في النفير، وإذا كان بقر الله في أرض الله كثيرا وكانت لكل ساقطة لاقطة، فإن في الدنيا حكمة وعقلا، وذكاء ونبلا، وجواهر تستحق نحور الحور، في أعالي القصور، والله فضل بعضكم على بعض، وإنما الأعمال في النيات... وصدق الله العظيم وصدق رسوله الكريم. والله سبحانه هو المستعان. مقتطف من مقالات في كلمات للأستاذ محمد الشودري عدد 84/ عن كتاب تاريخ تطوان "للفقيه العلامة المرحوم محمد داود - تطوان" 1379-1959 القسم الأول من المجلد الأول (من: ص 30 إلى35) ------------------------ (1)- لو تحرى المؤرخ غاية التحري فإنه لابد أن يتأثر بمؤثرات قد لا يشعر بها، لكن الملام إنما هو على خطة منافقة تشم منها رائحة الأغراض السخيفة، أما التاريخ الممحص فإنه يوخذ الحق فيه أو ما أشبه أن يكون حقا من دراسة الميولات المتنوعة، فمن بينها كلها تتمحض فكرة يكونها الدارس المستقل الفكر، لا تبعد كثيرا عن الواقع، وإذا وجد الشجاعة على التعبير بكل ما يحسه ويعتقده فقد أدى الأمانة كاملة ولا يضره نواحي النقصان فليس بمطلوب منه أن لا يخطئ وإنما المطلوب منه أن لا يتعمد الخطأ. ت.و. (2)- كتاب "الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى" للعلامة المطلع أبي العباس أحمد بن خالد الناصري السلاوي "من مدينة سلا" وقد طبع بمصر عام 1312 في أربعة أجزاء متوسطة الحجم في حياة مؤلفه المتوفى عام 1315 ومولده عام 1250 ثم طبع بمدينة الدارالبيضاء في تسعة أجزاء سنة 1954 – 1956 وهو أوسع ما عرفناه حتى الآن من الكتب المؤلفة في تاريخ دول المغرب. (3)- كتاب "عمدة الراوين في تاريخ تطاوين" لأبي العباس أحمد الرهوني التطواني "من مدينة تطوان" يقع في عشرة أجزاء متوسطة الحجم. وقد وصف وصفا دقيقا في الفصل الأول من الباب الأول من هذا الكتاب. وهو مخطوط إلى الآن لم يطبع منه شيء، ويا حبذا لو طبع فيستفيد منه كثير من الناس. (4)- هو كتاب "إتحاف أعلام الناس، بجمال أخبار حاضرة مكناس" لأبي زيد عبد الرحمن ابن زيدان العلوي المكناسي "من مدينة مكناس" طبعت منه في حياة مؤلفه خمس مجلدات كبار بمدينة الرباط، فيما بين سنتي 1347 ه 1929م. و 1352 ه .1933م. وأخبرت أن الباقي منه بدون طبع ما يقرب من ذلك. وهو مؤلف جليل في تراجم رجال مكناس، ولكن به من المعلومات التاريخية والأدبية عن المغرب وتاريخه ورجاله وملوكه ما لا يوجد في غيره. (5)- كتاب "الاعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام" للقاضي العباس بن إبراهيم المراكشي "من مدينة مراكش" يقع في نحو عشر مجلدات كبار، طبع منه مؤلفه خمس مجلدات بمدينة فاس فيما بين سنتي 1355ه1936 م. 1358ه 1939م والقسم الباقي منه مخطوطا، ربما كان أكثر من القسم المطبوع، وقد وقفت عليه وتصفحته لدى مؤلفه بمراكش. وهو كتاب جليل في تراجم رجال مراكش وغيرهم من أعلام المغرب. وقد جمع فيه مؤلفه من الفوائد والأخبار ما تفرق في غيره.