ولكن، لكي نعرف أو نقرّر من أين نبدأ يقتضي أن نعرف أو نقرر ما هي هذه الأزمة ومن أي نَبع تُروى ما هي بالفعل وبالتفاصيل الصغيرة وفي العمق فنذهب إليها ونكتشفها في الشكل وفي الجوهر كما في النص والروح ثم نضعها أمامنا على مائدة التشريح بكل ما لها وما عليها ثم نعلنها على الملأ: أيها السادة والسيّدات... ثم نقول ها هي الأزمة مطروحة بين أيدينا وهذه هي القصة. وهكذا نكون قد عرفنا وبدأنا ولا يهم إلى متى نظل نبحث وكم من الوقت يمضي المهم أن نعرف ونعلن ونبدأ هل هي أزمة ثقافة متشابكة العوامل والأسباب وممتدة في جذورها إلى التاريخ والجغرافيا كما نقرأ ونسمع هنا وهناك وهنالك؟ أم أنها أزمة مثقف في المعنى الثقافي المألوف كما يحلو للبعض أن يكتب وينظر ويحاضر؟ أم أنها لا هذه ولا تلك بل هي أولا وقبل كل شيء أزمة إنسان؟ بالطبع، ليست الأسئلة المدرجة أعلاه هي العناصر الوحيدة التي تتشكل منها وتتكون الحالة المَرضية التي نسميها اصطلاحا وتهربا أزمة الثقافة أو الأزمة الثقافية، فثمة عوامل وأسباب أخرى عتيقة ومستجدة من أهمها أن بعض المجتمعات العربية إن لم يكن كلها لا تزال ترفض العقل ترفضه وتقمعه وتسجنه وفي أفضل الحالات تجعل منه أداة آلية تتلقى الأوامر وتنفّذ من دون أي تفاعل. ويتم ذلك كله عن سابق تصور وتصميم ومن قديم الزمان وعلى كل المستويات وتحت عناوين ورايات وشعارات لا جدوى منها ولا رجاء حتى بدت ثقافتنا في غياب العقل صورة مخيفة ومهينة مجرد كلمات باهتة مفرغة من أي مضمون بل من أي معنى أو غاية كلمات متقاطعة متنافرة لا ترابط بينها وجمل غير مفيدة تقوم بوظيفة سردية مملّة ومرهقة ومجرد أورام ثقافية خبيثة. فلا وجود لما يسمى النص في ما يفترض أن يكون البناء الثقافي والشخصية الثقافية ولا ملامح ولو متواضعة لصورة تعكس معرفة وعلما وحضارة في الشعر الذي هو من التراث ومن الأعمدة العربية والذي يملأ الشوارع والدروب حاضرا في القصة في الرواية في المسرح في السينما في المقالة السياسية في الخبر الصحافي في الرسم في الموسيقى ناهيك بالنص العلمي والبحث العلمي... في كل هذه الميادين الإبداعية تكاد تكون السمة واحدة ًوالهم واحدا والمؤلف أو الكاتب واحدا والنتيجة واحدة:"أزمة". تقرأ فتصاب بالغثيان تسمع فتتمنى لو أنك في غير مكان وأكاد أقول من ألم أن النص العربي في مختلف عناوينه وحقوله يشبه المياه فلا طعم له ولا لون ولا نبض ولا روح نصوص موضوعة بين النوم واليقظة على هوى العرض والطلب وعلى قياس الرائج والمسموح به. حقا، إنها لمشكلة صعبة ومعقدة فهل هو الإنسان أم هو المناخ أم هو... ماذا ؟؟؟ ما الذي يحدث ولا أحد يقف ويرفع اصبعه اعتراضا؟ وهو يحدث دائما وأبدا ويحدث يوميا من المحيط إلى الخليج باسم الثقافة والعلم والإبداع ويحمل تأكيدا لهويته توقيع الحاكم ونقشة خاتمه. فأي ثقافة ستكون لنا ما دمنا نحول المثقف إلى هتّاف ومصفّق وما دمنا نسخّر النص الإبداعي لمشيئة الآمر الناهي ؟ وما الحاجة إلى الكتابة وما نفعها وما جدواها إن لم تكن موقفا حضاريا صارخا يكتنز في تداعيه كل التجدد وكل الرفض وكل التمرد... وكل الوداعة والشفافية والجمال؟ وما هي الثقافة إن لم تكن أسئلة لا تنتهي وبحثا لا يتوقف وشغفا غير محدود إلى المزيد من المعرفة والمزيد من الحلم والمزيد من الجنون والمزيد المزيد من الاعتراض ؟ ومن هو المثقف إن لم يكن ذلك الشاهد على عصره فالثقافة فعل إيمان وفعل إبداع وفعل حضارة والإنسان هو ابن ثقافته كما هو ابن بيئته. وتعود فتسأل مجددا وكأنك تطرح السؤال للمرة الأولى: ولكن لماذا نحن هكذا ما الذي يحدث لنا ؟ يقول أحدهم إن ذلك يحدث وسيظل يحدث ولنا وحدنا بسبب تحويل الثقافة إلى وسيط بين السلطة وأغراضها وبين المثقف والسلطة وما ذلك إلا لتحول المثقفين وهم ليسوا مثقفين إلى طبقة جديدة منتفعة من رواج الانحطاط ومستفيدة من الكراسي التي رتبها الحاكم لأفراد هذه الطبقة في غرف التثاؤب والتكاسل. .الحاكم يعطي والمثقف يقطف ماء وجه الثقافة يستلُّ النص الكتابي من وسطه ويشهره في وجه الناس قوّال آخر في الجوقة هتّاف في الصفوف الأمامية وعنوان وكرسي وربطة عنق وصورة بالألوان مع دردشة في المجلات والصحف وعلى الجدران وينتفخ صدره ويروح يمشي متبخترا لقد كُرّس مُبدعا وانهال على الشعوب بما يظن وما يرى وما يعتقد... فمن المسؤول هل هو المثقف أم من؟ ولكن ما ذنب الثقافة لكي يُزج بها في هذا المكان... جوابا على هذا السؤال وباختصار ابحث عن العقل العربي الذي يتحمل مسؤولية الانهيار الثقافي. إن وضعية العقل العربي تشبه إلى حد بعيد وضعية الكأس الذي هو ثابت إلا أنه يمتلئ من حين إلى آخر بأنواع من المياه الملونة لكنه يظل كأسا ساكنا. لم تحدث الصدمة التي تغير بنية هذا العقل الذي يريد أن يعرف إلا أنه لا يصل ولا يمكن الفصل بين الوعي والمعرفة في المجال الثقافي كما أنه لا يمكن الفصل بين العلم والإبداع فكيف يتم لنا ذلك وعقلنا مغطى مستور في غرفة الاضطهاد !... إن مدخل الغرب إلى ثورته الثقافية هو مدخل علمي فمن أين ندخل نحن وأيننا من مدخل ثورة العلم وثورة المعرفة وثورة الذكاء الاصطناعي؟؟؟ حتى نرقى بذلك معشر المسلمين إلى المعنى العظيم للآية الكريمة التي يقول فيها سبحانه وتعالى:"يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ". [المجادلة: 11]. ويقول نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام امتثالا لأمر الله عز وجل: "وَقلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا". [طه:114] *---*---*---* والله الموفق 2016-01-19 محمد الشودري