تناسلت برامج البوح الليلي، التي تقدمها إذاعات خاصة كالفطر، وتحول بعضها إلى بورنوغرافية مسموعة ببثها لقصص ومكالمات تغرق في الحميمية الخاصة واللقطات الجنسية، التي لا تنقصها سوى مشاهد مصورة لتقوم مقام "ستريبتيز" سمعي. استبشر المتتبع المغربي خيرا بتدشين جيل الإذاعات الخاصة لعهد جديد في التواصل الإعلامي ومناقشة قضايا الوطن الحقيقية، ليفاجأ بتنافس الشركات الخاصة للإذاعات على الظفر بأكبر عدد من المستمعين والنزول إلى مستوى ما يطلبه العامة بكل ما يعانيه المجتمع من أعطاب، عوض الارتقاء ببرامج إذاعية تمنح قيمة مضافة للمشهد الإعلامي باعتمادها برامج هادفة تروم التشخيص واقتراح حلول بناء على أسس علمية دقيقة، بدل الاستغراق في استدراج المتصلين إلى التصريح بمصطلحات جنسية تخدش الحياء ويستحيي المرء أن يسمعها بالشارع فكيف بتلقيها كمنتوج إعلامي يستهدف طبقات المجتمع على اختلافاتها. تجربة خاصة انطلقت تجربة الإذاعات الخاصة بالمغرب منذ ما يزيد عن ثماني سنوات، لتفتح عهدا جديدا في التواصل الإعلامي السمعي، وذلك باعتمادها بشكل كبير على البرامج التفاعلية وإشراك المستمع المتلقي للإدلاء بمواقفه وأرائه في القضايا المطروحة. فتح ميكروفون الإذاعات الخاصة أمام الجميع بدون استثناء، وكسرت حواجز كثيرة عند بعض الطبقات الاجتماعية التي كانت محرومة في وقت سابق من إيصال صوتها للجميع، كما ساهمت الإذاعات الخاصة في تداول المعلومة والأخبار بشكل كبير، خاصة وتخصص بعضها وتركيزه على ما هو محلي. لكن يبقى السؤال الجوهري المطروح هو ماذا بعد طرح المشاكل الاجتماعية والجنسية وما إلى ذلك عبر الأثير بشكل مجاني؟. لقد أضحت المحطات الإذاعية تتنافس على بث برامج البوح الليلي التي تحقق أرقام استماع عالية على الرغم من سطحيتها، وهو ما خلق جدلا حول ظهور منشطين لا يتورعون في تحويل برامجهم إلى علب ليلية بالإسهاب في بث وصف لمغامرات حميمية بشكل دقيق واللقطات الجنسية المسموعة التي لا تنقصها سوى الصورة لتتحول إلى شريط «بورنو»، ما شكل صدمة لدى المتتبعين وهبوطا نحو القاع، عوض الرقي بالمواضيع الإعلامية المقدمة وانتقاء البرامج الهادفة. سطحية وفراغ في المضمون أثارت برامج الحكي الليلي التي تعتمد عليها العديد من الإذاعات الخاصة لرفع نسبة الاستماع إليها ومردوديتها من حيث الإشهار والرسائل القصيرة جدلا واسعا بين المثقفين والباحثين. يقول أحد الإعلاميين المهتمين إن الظاهرة ساهمت بشكل سلبي في بروز جيل من "الخبراء" الذين يفتون في كل شيء ويجمعون كامل الاختصاصات. لا يتوقف الخطر عند هذا الحد، بحسب المتحدث ذاته، بل يتعداه إلى اعتبار المستمعين والمتلقين أن ما يطرحه المنشط من اقتراحات في مداخلته هو عين الصواب والحقيقة الكاملة، ويتم تداول هذه الحلول المقترحة وسط المجتمع ليفاجأ الجميع في ما بعد أنها أصبحت حقيقة بديلة عن الحلول العلمية الدقيقة التي لا يمكن أن يحيط بها عموم الناس. تتيح برامج الحكي للعديد من المتصلين فرصة لطرح مشاكلهم الاجتماعية والشخصية والبوح بمعاناتهم لكن المؤسف أن العملية تبدأ بالبوح وتنتهي عنده. يفتح الخط بعد كل عملية بوح للمستمعين الراغبين في المشاركة بطرح حلول، ولك أن تتخيل مدى خطورة ذلك وانعكاساته السلبية على المجتمع، نتيجة تقديم وصفات علاج من طرف العوام لمشاكل تحتاج مختصين وعلم دقيق لعلاجها والوقاية منها. يتقمص مقدمو برامج البوح الليلي أدوارا عديدة لشخصية واحدة، فيصبحون مرة أطباء نفسيين وأخرى مرشدين دينيين وثالثة مصلحين اجتماعيين، إلى غير ذلك من الأدوار التي لا تنتهي ويدفعهم إليها المتصلون، الذين تختلف معاناتهم باختلاف مستواهم الاجتماعي ومدى الكبت الذي يعيشونه على مستوى بعض الأحاسيس والمشاعر التي لا يمكنهم التعبير عنها. علاج المشاكل النفسية يوجد لدى عيادات الأطباء النفسانيين وليس في برامج الحكي، كما يرى أحد المتتبعين، مشيرا إلى أن هذه الثقافة لا زالت بعيدة كل البعد عن مجتمعنا وتدخل في الطابوهات المسكوت عنها نظرا لتفشي التخلف والأمية والجهل . هناك من يشتكي من الأزواج من جفاف المشاعر وبعض الأمور الجنسية التي تصنف من الأسرار الزوجية، فيتصل لطرح ذلك على الأثير، وهو غير مقدر لما يقوم به والانعكاسات التي يمكن أن تأتي بعد ذلك، وهذا بالضبط ما يتلهف نوع من المستمعين لمتابعته فقط لأنه من الطابوهات ولا شيء غير ذلك. أصل المشكل يوجد في الثقافة والتقاليد الموروثة ونظرة المجتمع إلى العلاقات الزوجية والجنس إلى غير ذلك، وبالتالي فالحل لن يكون بالاستماع إلى حالات عديدة مختلفة، بقدر ما يوجد الحل في مساعدة الناس على تجنب أسباب المشاكل بتوعيتهم، وفق المتحدث ذاته. وبخوضها في هذه المواضيع بتلك الطريقة الموغلة في بسط التفاصيل، حتى الحساسة منها، حققت برامج البوح الليلي نسبة استماع كبيرة وكانت سببا في انتعاش مدخول العديد من الإذاعات الخاصة، لكنها على الرغم من ذلك تبقى سطحية وتؤدي رسالة سلبية عكس ما يتوقعه البعض من العوام بإيجابيتها. قصص جنسية على الأثير يعيب العديد من المتتبعين على بعض برامج الحكي الليلي تحولها إلى بورنوغرافية مسموعة بشكل مجاني دون تحقيقها لأي هدف يذكر من رسالتها الإعلامية سوى هاجس الرفع من نسبة المستمعين لتحقيق أرباح مادية تأتي من مداخيل الإشهار وتفاعل المستمعين بدعوتهم إلى المشاركة بالرسائل النصية للهواتف النقالة. ويستدرج العديد من المنشطين خلال تلقيهم للمكالمات المتصل أو المتصلة للحديث عن مغامرات جنسية أومشاكل العلاقات الحميمية الخاصة بين الزوجين في أدق تفاصيلها دون اعتبار للمتلقي وضرورة التحكم في البث المباشر. يتحدث منشط إذاعي لإحدى الإذاعات الخاصة في برنامجه عن العديد من الأمور المختلفة، قبل أن يفتح خط الاتصال الوارد من إحدى السيدات ويستدرجها إلى التلميح لمهبل المرأة بقوله بالعامية "شكون لي بنين واش الطاجين ديال الدار، ولا ديال المرا؟". نفس المنشط سقط مرة أخرى في هفوة لا تخلو من خلاعة وقاموس الشارع عندما استفسر زوجا عن رضى زوجته عن أدائه الجنسي بعبارة "واش مراتك عاجبها الموطور؟". المنشط وعوض أن يختار مصطلحاته بعناية ويوجه المتصل إلى الحديث برزانة واحترام تام لجمهور المستمعين، تجده مصرا على المضي قدما في استدراج وتشجيع المتصلين للحديث بألفاظ جنسية سوقية ومنحطة. تستقبل منشطة لبرنامج إذاعي آخر مكالمة من سيدة تشتكي من بعض المشاكل الجنسية وإدمانها على أفلام البورنو. فتستدرجها المنشطة بذكاء للحديث حول زيارتها لموقع البورنو بسؤال "هل يقدم هذا الموقع خدمات لبيع الملابس مثلا؟". لتطلق بعدها المتصلة قهقهة توحي بفهمها لمعنى السؤال قبل أن تذكر اسم الموقع مباشرة ما يسهل على العديد من القاصرين المستمعين البحث عنه بالشبكة العنكبوتية كما يقدم خدمة إشهارية بشكل مجاني للموقع. رأي الشارع صرح طالب جامعي ل «الأخبار» بأن تجربة الإذاعات الخاصة لها سلبيات شتى كما لها إيجابيات، ويرى الطالب المذكور أن من سلبيات الإذاعات الخاصة هو تركيزها بشكل كبير على ما يطبله المستمع، وكسرها لمجموعة من الطابوهات والمسكوت عنه، دون أن يثير ذلك نقاشا موسعا داخل فئات المجتمع، لطرح الحلول من طرف المختصين وتوجيه النقاش ليكون مثمرا، سوى فتح الحديث عن الجنس ومشاكله المعقدة التي يتخبط فيها المجتمع لتصبح مادة دسمة للتناول وتحقيق نسبة أعلى من المتابعة دون أي نفع يذكر. تفتح البرامج الإذاعية خطوطها للمستمعين من أجل المشاركة والمساهمة في إغناء النقاش حول بعض المواضيع الجنسية والعلاقات الحميمية الحساسة، لتقف عند مستوى تشريح أعطاب المجتمع والمرور عليها لأعطاب آخرى وهكذا. في الموضوع نفسه أجابت فاعلة جمعوية من تطوان على سؤال حول أسباب ارتفاع نسبة الاستماع إلى برامج الحكي الليلي بقولها إن ذلك سببه الحرمان العاطفي الذي يعيشه العديد من أفراد المجتمع والتفريغ الذي تحتاجه غالبية النساء بالحديث عن معاناتهن داخل مجتمع ذكوري بامتياز. وتضيف المتحدثة ذاتها أن النساء بمجتمعنا تكبلهم العديد من التقاليد والموروثات السلبية التي لا توافق في الكثير من الأحيان المبادئ والقيم. الشيء الذي يجعلهن متعطشات للبوح بجراحهن والتنفيس عن الكبت والضغوط اليومية. لكن السلبي في عملية البوح هاته هو تحولها إلى بورنوغرافية مسموعة وفتح المجال لكل المتصلين للمشاركة في النصح والتقويم، بشكل فوضوي يزيد الطين بلة بالنظر إلى أن غالبية المتدخلين من ذوي المستوى التعليمي المتدني والأميين الذين يفتون من خلال التجارب فقط دون الإحاطة العلمية الضرورية. من جهته قال مراسل صحافي لجريدة يومية أن الإعلام ركيزة أساسية في برمجة الفرد وعامل مهم في ترسيخ القيم داخل المجتمع. لذلك يضيف المتحدث نفسه أن عمل الإذاعات الخاصة لا زال يحتاج التقويم والانتقاد أكثر لتحقيق مبتغى الرسالة الإعلامية التي تعالج المشاكل الحقيقية التي يعيشها المواطن بمهنية عالية تروم الإصلاح بالدرجة الأولى، وليس التسابق الحامي الوطيس على استقطاب المستمعين من أجل رفع المداخيل والحصول على الإشهار. المتحدث ذاته يضيف أن الإعلام يبني الأجيال ويساهم في ترسيخ الوعي والتثقيف والرقي بمستوى الذوق لدى المتلقي وليس النزول إلى الحضيض للتلصص على حميمية الفرد ومعاناته . قد يخطئ أصحاب المهن الصناعية فيسهل إصلاح أخطائهم وحصر نتائجها، لكن خطأ الإعلام يصنع جيلا معطوبا لا يمكن تصور حجم كارثيته في المستقبل. عقوبات سابقة ل"الهاكا" لبرامج خاصة أخلت بالأخلاق العامة سبق للهيأة العليا للاتصال السمعي البصري أن أصدرت قرارا يقضي بوقف بعض البرامج بسبب ما تم اعتباره "حوارات ذات طبيعة بورنوغرافية تخل صراحة بالأخلاق العامة" وقد أكد المجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري على مبدأ حرية الاتصال السمعي البصري الذي يجعل المتعهد حرا في معالجة جميع قضايا المجتمع التي يختارها، بشرط أن هذه الحرية يجب أن تمارس في ظل احترام الكرامة الإنسانية والقيم الدينية والنظام العام والأخلاق العامة، ما يفرض على المتعهد ضمان التحكم في البت في كل الظروف وخصوصا في البرامج التفاعلية التي تستهدف فئة الشباب والمراهقين والجمهور الناشئ. وقد سبقت معاقبة بعض البرامج الإذاعية المباشرة مع المستمعين والمستمعات، بسبب تطرقها إلى مواضيع حساسة من قبيل الخيانة الزوجية والعجز الجنسي وكيفية قضاء سهرات السبت، أو مواضيع من مثل "ما الذي يعنيه لك أن تخوني خليلك"، وذلك بواسطة اللهجة العامية المغربية المصحوبة بمصطلحات فرنسية، يتم فيها تناول المواضيع المطروحة بلغة مخلة بالحياء، مثل حديث إحدى المشاركات مازحة في البرنامج عن رغبتها "النوم" مع شخصين.