في النهضة العربية الحاضرة، تدعو الصحف والمجلات، وتدعو الخطب، وتدعو الإذاعات وغيرها، تدعو جميعا إلى التقدم. والتقدم عندهم استصلاح أراض لا تُنتج، أو زيادة غلة أرض تنتج القليل، أو تنتج الكثير ولكن ما وراء الكثير أكثر. والتقدم عندهم تصنيع مادة من مواد الأرض، أو مواد الزرع، يدخلها الفن فتكون أكثر قيمة وأعود بالنفع. وهذا كله تقدم ملموس محسوس. كما أن الأجسام تلمس وتحس. ولكن إلى جانب المنظور يوجد غير المنظور، وإلى جانب الأجسام التي ترى توجد أنفس لا ترى، بها، بين ما بها، كل الحوافز التي نتطلبها لتقديم صناعة أو تقديم زرع. وبهذه الأنفس أشياء أسميناها الأخلاق. والكثير منها، كما في الأرض، البور، والكثير منها كما، في الأرض المنتجة، الذي يستطيع أن يُنتج فوق ما أنتج. وهي أنفس، الكثير منها، كخامات الصناعة، غفل، يحتاج إلى تهذيب وتشذيب، لينفع، أو ليكون أكثر نفعا وأعلى قيمة. ولكني لا أسمع في هيصة التقدم هذه، أحدا يصيح بأن هناك إلى جانب الأجسام، أنفسا، أو أنها في حاجة إلى تقديم كذلك. نحن، كان لنا ماض زاهر، أزهر ما فيه حلية الأنفس، من شجاعة، من شهامة، من مروءة، من الصراخ للحق ملء الفم، إخلاصا للحق، وإخلاصا لله، وإيمانا بأن من الأخلاق النقائض، فإلى جانب الجود يوجد البخل، وإلى جانب المعروف يوجد النكر، وإلى جانب الصدق يوجد الكذب، وإلى جانب العفة في القول والفعل يوجد الفسق. وإلى جانب الصراحة يوجد الدس. كنا نعرف أن هناك خصالا، بعضها من الله ونقائضها من الشيطان. وكنا نبني لدنيانا من تلك دون هذه، وكنا نبني لآخرتنا. ثم تدهور الحال. والحال لا يتدهور في لقمة الجسم والعيش إلا إذا تدهور في لقمة النفس. وإذا نحن ذكرنا الأمم المتخلفة، بين أمم المدنية الحاضرة، ولم يمنعنا الغرور الكاذب والعنجهية الباطلة من أن نعُدّ أنفسنا بين من تخلف من الأمم، إذن لأدركنا أن التخلف لا يمكن أن يكون في جانب من العيش دون جانب. وأن التخلف المادي حتما يصحبه التخلف الروحي. وإذن لأدركنا أننا لو جمعنا من السواعد آلافا مؤلفة تجر عربة المادة إلى أمام، فسوف تثقل بنا دائما إلى الوراء، تلك العربة الأخرى الروحية التي حشوها الأخلاق فجة أو عفنة. إن تركزنا على أنتجة الأيدي، وهي من دم ولحم، وعلى أنتجة الفكر، وهو ينبع من بعض جوانب الروح، أنسانا ذلك الجانب الآخر الأعظم من الروح الذي تنطوي فيه كل الحوافز، والذي تتطهر فيه كل الرغائب، والذي فيه ملاك الخير والشر جميعا، والذي على أنساقه، من كريمة أو لئيمة، تنتج اليد العاملة ما تنتج، وينتج الفكر ما ينتج. وسلوك الناس في المجتمع يخضع للقوانين. وسلوك الناس يظهر اختلاله في المحاكم، وقد اكتظت المحاكم بالكثير الغمر الذي تعجز عنه. ومن أسف أن يرد القضاة الحق البين إلى صاحبه، ولا يجازوا الخاسر، الذي أخفى وجه الحق، على سوء سلوكه. وفي غير المحاكم توجد أشياء من السلوك، أضعافا مضاعفة، لا يظلها القانون، ولا تحمى منها المحاكم، تعكر صفو الحياة كل يوم، ولا يقي منها إلا شيوع الخلق الطيب في الناس، وتعودهم استحسان ما يستحسن، صدعا بالقول، واستهجان ما يُستهجن، صراخا يسمعه الصم. إن لكل أمة رأيا عاما لابد أن يبنى وأن يبنى كريما، يعرف ما النصفة، ويشد الأزر، وينهض عند الحاجة، ناصرا أو خاذلا. إن الرأي العام المثقف، في الشارع، في السوق، في المدرسة، وفي المقهى، وحيث يسجد لله، هو ضمان الخلق الطيب أن ينمو، وخاب قوم يرون الملق والنفاق، والشر يلبس لباس الخير، ثم هم لا يقولون شيئا. *-..-*-..-*-..-* والله الموفق 2015-04-08 محمد الشودري