تتمتع كلمة «الفساد» في اللغة العربية بليونة فائقة، فهي سهلة الاستيعاب والاستقراء، ليست عصية الفهم ولكنها مع ذلك تصبح عصية الهضم والتحليل في الكثير من الأحيان. في القران الكريم جاء ذكر الفساد في العشرات من آياته المقدسة، في أشكال وصفات مختلفة، فهو يمتد من الذين يسفكون الدماء، إلى الذين يهلكون الحرث والنسل. ومن الذين يقتلون الأنفس بغير حق ، إلى الذين يأكلون أموال الناس بالباطل. وفي المفاهيم الشعبية الأكثر اقترابا من الفطرية، يعني الفساد افتقاد الطهارة/ الاستخفاف بالمسؤولية/ خيانة الأمانة. وفي المفاهيم السياسية، يعني الفساد: طعن الأمة في ظهرها/ التلاعب بمصالحها و قيمها وتقاليدها. وفي القواميس اللغوية والمتون الفلسفية، يأتي الفساد بأشكال وصور عديدة ومتنوعة، من الصعب تحديدها، وأحيانا يصبح من الصعب التعرف عليها، فهو (أي الفساد)، يختلف من ثقافة لأخرى، ولكنه يظل هو فعل ضد الإصلاح، ضد الأخلاق، ضد الديانات السماوية وضد القيم الإنسانية، يتقارب ويتوازى مع كل انحطاط وتدهور وسقوط وتخلف وجهل وظلامية. الفساد يعني تكسير مدونة السلوك الأخلاقية و الاجتماعية، أو مدونة السلوك السياسية والاقتصادية والإدارية، لاستخلاص منفعة أو منافع خاصة، خارج القانون، وخارج الأخلاق، وخارج القيم الإنسانية. الفساد في حياتنا والفساد في الحياة المغربية، كلمة قاسية، لا تختفي إلا لتظهر من جديد، بسب موجاته المتتالية والمتعاقبة التي أغارت على البلاد و العباد قبل عهد الحماية، وخلال عهد الاستقلال، حيث طبعت باستمرار السياسات الإنمائية والمشاريع الاقتصادية. وهو ما ثبت المغرب على لائحة الدول الفقيرة والمتخلفة. وجعله واحدة من الدول الأكثر تعرضا للاهتزاز والتصادم... فالفساد الذي يربط بين الاختلاسات المباشرة وغير المباشرة للمال العام من طرف ذوي السلطة والنفوذ، وتشريع الرواتب الضخمة والعالية، يتوازى مع كل انحطاط وتدهور... يتوازى مع الفساد السياسي / الاخلاقي / الاقتصادي، لا ترعاه سوى الأنفس المريضة التي فقدت بصيرتها و تخلت عن قيم مواطنتها. هكذا أصبح الفساد في الحياة المغربية، قاعدة ليس لها استثناء، يتجاوز شكل الظاهرة الموقته ليتحول إلى آلية من آليات التسيير الإداري / السياسي/ الاجتماعي / الاقتصادي، بعد أن تغلغل في المؤسسات والمشروعات، وحولها إلى مقاولات للاغتناء اللامشروع، والتزوير، والرشوة، والاتجار الجنسي، والاتجار في المخدرات، وتسلق المناصب والقيادات السياسية. ما هي أسبابه؟ وعن أسباب هذا الفساد الضخم، تتفق العديد من البحوث الأكاديمية، على أن « السلطة السياسية « في عالمنا اليوم، هي أصل وهوية كل فساد. تعلل ذلك بالقرارات و التصرفات السياسية للعديد من الشرائح و الفئات... فالسياسة لا تنحصر أثارها في القطاع السياسي، بل تمتد إلى الأفراد والمؤسسات والمجتمعات و القطاعات، خاصة وأن فاعليتها في كل الأمم و الشعوب، تعتمد على «النخبة» التي تعمل على توزيع المصالح والمسؤوليات المتحكمة في المجتمع و القيم و الأخلاق والأموال فيما بينها، وهو ما يجعل «الفساد» ابنا شرعيا للسياسة ولنخبتها. وبتجربة الشعوب التي نخرها سوس الفساد (ولنا في الوطن العربي بعض من أصنافها)، فإن النخبة السياسية «المخدومة» والتي تصل السلطة خارج المشروعية أو بواسطة انتخابات مزورة، أو في ظل ديمقراطية مغشوشة، تعطي الفساد قدرة على التوالد و التنامي و التجديد. و تزوده «بالآليات» والقوانين التي تمكنه من فرض نفسه على البلاد و العباد، ليلقى بظلاله على مصالح الناس، أينما و جدوا و كيفما كانت حالتهم الاجتماعية و المادية. وبحكم العلاقات التي تفرضها السياسة على نخبتها، تصبح المصالح بين أفراد هذه النخبة خارج الشرعية والقانون، فعلى يد هذه النخبة أهدرت قيم القانون في العديد من بلدان العالم المتخلف، وصودرت الحريات العامة، و غيبت الرقابة القضائية و الشعبية، و ألغيت مؤسسات المجتمع المدني، لتصبح «السياسة» مصدرا أساسيا للفساد، في أصنافه و مستوياته المختلفة. إن اتساع الأدوار السياسية و الاقتصادية و المالية للفاعلين السياسيين، قد أدى في أقطار عديدة من العالم السائر في طريق النمو، إلى اتساع مواز لمنظومة الفساد... و بالتالي أدى إلى انهيارات اقتصادية و أخلاقية، مازالت أثارها السلبية جاثمة على الأرض. وقد كشفت العديد من الدراسات الأكاديمية، أن الفساد الأخلاقي/ السياسي/ الإداري / المالي، هو فساد مترابط و متداخل مع ظواهر الإجرام الأخرى، المتصلة بالمجتمع و مؤسساته المختلفة. وكشفت هذه الدراسات، أنه بسبب التراكم أصبح للفساد في العالم المتخلف تقاليده و مؤسساته و سلطاته، لتصبح مكافحته صعبة و مستحيلة في العديد من الدول، إذ بلغ اليأس حدا جعل العديد من الناس بهذه الدول، يسلمون بأن المكافحة لن تكون سوى ضرب من العبث، أو ربما كانت كالاعتراض على قوانين الطبيعة، بعدما أصبح الاعتياد على الفساد، سنة أو نهج في العيش و في المعاملات والخدمات و في السياسات، له القدرة أكثر مما للقوانين التي تكافحه أو تنهى عنه. منظومته في جهات عديدة من العالم، يتداخل الفساد مع القطاعات المنتجة و الأساسية ، ويجعل من نفسه منظومة مترابطة ومتداخلة مع ظواهر الإجرام الأخرى المتصلة بالمجتمع والأخلاق و السياسة...ليصبح (الفساد) ليس فقط هو الرشوة و سرقة المال العام و المحسوبية و الزبونية و الظلم، والاتجار في الجنس والمخدرات، والدعارة التي أغرقت بلدان عديدة من العالم السائر في طريق النمو، الساكن في براثين التخلف، ولكن ليصبح أيضا كل صفة من صفات الرذيلة و الشر والسوء و الغبن التي تسحق المجتمع و قيمه الروحية و المادية. وعلى أرض الواقع، ساهمت «منظومة الفساد» هنا في المغرب، وفي العديد من الدول الفقيرة، في إحباط وتآكل المشروعية السياسية، لعلاقة السلطة بالمجتمع، مما أدى إلى فشل مبادراتها الديمقراطية و مبادراتها في الاستثمار الخارجي. و إلى استئثار جهة أو جهات معينة بالثروة الوطنية و بالامتيازات الاقتصادية و السياسية ، وهو ما أدى بالتالي إلى تعميق الهوة بين الشعوب وبين طموحاتها في الانتقال والتغيير والإصلاح والتقدم. المفسدون وأينما وجد الفساد، وجد المفسدون. والمفسدون هم أرباب الفساد، الصف «القوي» الذي يحاصر الديمقراطية و حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة والحرية والقانون والمواطنة. والذي يدفع إلى طغيان قانون القوة، بدل قوة القانون. وإلى تمركز السلطة والمال والامتيازات واقتصاد الريع، في جهة واحدة، وإلى تغييب المراقبة و المساءلة... وإلى اتساع رقعة التسفل و البغاء و الانحلال الخلقي. المفسدون، هم الذين يجذبون أوطانهم إلى الأسفل لتغرق في تخلفها و تناقضاتها أمام العالم. وهم الذين يشكلون قوة خفية قاهرة، تعتمد كل أساليب الاحتيال والقهر والتجاوز والإفساد والاستغلال، من أجل تركيز نفسها في القطاعات والمجتمعات، وتعميق الهوة بين أوطانها والتقدم الحضاري. والمفسدون هم المخادعون / عديمو الضمير، الذين في قلوبهم مرض، هم السفهاء، هم المستهترون، هم الطغاة، المظلون. هم الذين قال عنهم جلت قدرته: الصم، البكم، العمي، الذين لا يبصرون. والمفسدون قبل ذلك و بعده، هم فئة من السياسيين و الإداريين والاقتصاديين و المسؤولين أصحاب القرار، الذين باعوا ضمائرهم للشيطان، لا تميزهم عن الآخرين- في الإدارات العمومية، وفي الأبناك و صناديق الدولة، والأحزاب السياسية و الجماعات المحلية / القروية و البلدية - سوى قدرتهم على اللصوصية، وعلى صياغة القرارات الفوقية الخاطئة و المتعثرة التي تخدم مصالحهم الخاصة، وقدرتهم على احتقار شعور الأغلبية العظمى من المواطنين و امتهانهم و استعبادهم ، و قدرتهم الفائقة على تجفيف صناديق الدولة المالية، وعلى إنتاج المزيد من الفقر والاستغلال والضلال والقمع والفساد. الحكومة والفساد يعني ذلك بوضوح، أن الفساد ليس مقدور علينا كما يدعي ذلك صناعه، بل هو إرادة بشعة تتقصد الفساد و الإفساد، ترعاه و تزكيه و تبرره وتدفع به ليكون قدرا محتوما.إنه «صناعة» لا أخلاقية، يحاول أصحابها الحصول من خلالها على أكبر قدر من المكاسب الحرام، و الامتيازات الحرام و الأموال الحرام و السلط الحرام. إن الفساد المالي / الفساد الإداري / الفساد السياسي، لا يمكن أن يضمن الحماية للمجتمع، لا في التعليم والثقافة، ولا في الاقتصاد والصحة، لا في السكن والكرامة الإنسانية، ولكنه يسهم بقوة في إنتاج جيش من الفقراء، الأميين، الغاضبين الذين لا يمكن التحكم في غضبهم، ولا في رفضهم لأوضاعهم الاجتماعية والسياسية، لا اليوم ولا غدا. مع الأسف، كان أمل الشعب المغربي، في العقد الاخير من الزمن الراهن، معقودا على الحكومة الملتحية، أن يكون القضاء على الفساد أولوية سياسية / اجتماعية لوجودها على ساحة السلطة، ولكن هاهي تستعد لرحيلها، وهي لا حاربت الفساد، ولا قضت على المفسدين، لا هي حمت المجتمع من أضراره ومخاطره، ولا هي استطاعت أن تعد مخططا استراتيجيا لهذه الحماية. أفلا تنظرون.