------------------------------------------------- عقل عاجز، إن ضل هدته الغرائز. وحياة لابد من اكتمالها. وتكتمل حياة الفقير، كما تكتمل حياة ذي الغنى الوفير. ---------------------------------------------- إنما آمنت به سماعا. وهكذا يبدأ، وعش وجودك الأول، يحيط به الإبهام. وينادونك بلفظ لا تدرك معناه، ولكن العادة تألف انك له تستجيب. ثم ترى الناس يدعو بعضهم بعضا بألفاظ، وتراهم لها يستجيبون. وتدعو أنت مثل ما يدعون. ثم تعلم أن هذه ليست إلا رموزا رمزوا بها لهذه الذوات الحية، وجعلوا مخارجها الحلوق فهي نداء. ثم تعلم انها الأسماء. واسمك هذا الذي تدعى به، لم يكن لك فيه خيار. إنك أعطيت هذا الاسم، كما أعطيت هذا الأنف، وأعطيت هذا الوجه. ثم تأخذ تتعلم أن في الأسماء القبيح وفي الأسماء الحسن، كما في الوجوه القبيح وفي الوجوه الحسن، ثم تتعلم من الناس كم نصيب اسمك ونصيب وجهك من حسن ومن قبح. وإن كان قبحا لم يكن لك فيه حيلة. إنك أعطيته يوم أعطيت الجسم والروح، يوم إن لم يكن لك إرادة تقبل أو ترفض. وتكبر وتأخذ تدرك أنك أعطيت من أقسام هذه الحياة، مثل ما أعطيت من وجود، وما أعطيت من قبح وحسن، وما أعطيت من اسم. أقسام لم يكن لك في قبولها أو رفضها خيار. هذا أبوك فقير، وهذه أمك. أو هذا أبوك ثري، وهذه أمك. وهؤلاء إخوتك عشرة أو لا أخ لك. وهذا بيتك كوخ هو أو قصر. وأنت على صغر سنك تقبل كل ذلك، كما تقبل هواء تتنفسه أو ماء تشربه أو لقمة سائغة تأكلها. واللقمة أنت قابلها، كان عليها الملح وحده، أو كان قد غطاها الزبد الكثير. والبيت الذي وضعت فيه قد يكون بيت علم، أو بيت جهالة. وأنت تسقاها جهالة كانت أو علما، وبقدر ما تسقى من علم أو جهالة تسعد، على العادة، في الحياة أو تشقى. وإن أنت أدركت أنه الشقاء يوما، وأدركت أسبابه، ما استطعت أن تعود في الزمان القهقري، وحظك من الزمان قصير موقوت. وتستخبر العلماء، وتستخبر الفلاسفة والحكماء، عن علة العلل، فيقولون لك إنها الحظوظ. وهم بهذا لا يزيدون الفهم إلا إبهاما. فلو أنهم قالوا لا ندري لكانوا أكثر إيضاحا. والناس تكبر النجاح، وتحتفل بالنجاح، وتكرم أهل النجاح، ولا تسأل من كانوا، وكم كانوا، وفي أي بيت نشأوا، وأي الآباء امتلكوا، وأي أسباب الحياة. والناس تحتقر الفشل، وإن احتفلت به فلتفضحه. وهي تسيء إلى أهله، ولا تسأل من كانوا، وكم كانوا، وكم مهدت لهم الحياة من طرقات، وكم من طرقات وعرة بها تعثروا فسقطوا. ويفكر الإنسان، فينبهم له من الكون، ومن الحياة، ما ينبهم، فيشقى. ويشقى لأنه وضع ثقته، كل الثقة، في عقله، ونسب إليه من قوة النفاذ في أعماق الأمور ما شاء، فإذا هو يعجز، وإذا هو يغور ولكن لا ينفذ. وكان خليقا بالإنسان أن يدرك أن العقل له حدود، تقرب عن الناس وتبعد، ولكنها لا تنطلق في فضاء الأمور انطلاقا. إننا نكبر العقل عندما نجوب به في شتى شؤون يومنا. ونحن نكبر العقل عندما نحمله معنا في حل مشكلاتنا. ونحن نكبر العقل حينما يحملنا الآخرون على أشياء هي نقيض ما تدرك افهامنا على قصرها وقلة نفاذها. ولكن يجب أن ندرك اننا إنما أعطينا عقلا بمقدار ما أتيح ويتاح لنا من عيش هنا، وبمقدار ما اتسع لنا ويتسع في هذا العالم من مراح أذن به لنا. ويجب أن ندرك أننا في هذا الكون، حللنا بقعة منه، هي أشبه بفتاتة الخبز، لا خطر لها، وليس لها في شؤون الكون الكبرى ذكر. فلو احترقت، واحترق البلايين من الخلائق الذين هم فوقها، ما درى حتى أقرب أجرام السماء إلينا أن شيئا ما حدث فوقها لنا. إنها الكبرياء. ومع الكبرياء الغباء. قبل القرن الخامس عشر والقرون التي قبله، زعم أهل الأرض أن الأرض أم الدنيا، وأن الأرض أوسط الدنيا، وأجرام السماء كلها حول الأرض تدور. وإذ كانت الأرض أم الدنيا، وجب أن يكون الإنسان أباها. ثم جاء العلماء يصححون، جاءوا يخبروننا أن الشمس لا تدور، وإنما الأرض هي التي تدور. الشمس الأم، والأرض والكواكب التسع ومنها الأرض، كلها تدور حول الشمس. وأن الشمس لها من أمثالها في سماء دنيانا هذه مائة ألف مليون مثل. وأسموها المجرة. وأن في السماء من مثل هذه المجرة ألف مليون من أمثالها مائة مليون مليون مليون شمس في السماء إذن، هي بعض ما عرفنا، رمت بالأرض وأهل الأرض في دَرك من ضياع الذكر وتفاهة القدر عميق. وزاد الإنسان بالذي تكشف له حقارة، وزاد فهمه للكون غموضا. وتحدث الناس عن الله، خالق هذا الكون، وكل أراد أن يختص به ألها، وتخاصموا، وتحاربوا واقتتلوا، وسفكوا الدماء. وهذا كله في سبيل الله أو هكذا زعموا. وأريد أن أستجلي الأمر على حقيقته، وأرى الدنيا، هذه الأرض الدنيا على القدر الصحيح من مقياسها، فأتخيل اني في كوكب آخر، عند شمس أخرى، في مجرة أخرى، في مرصد من مراصد عالم آخر، أحاول أن أرصد الأرض، فلا أجد أرضا. وأحاول أن أرصد شمسها فلا أوفق رصدا. ثم أرتد بعجزي إلى حديث الفلكيين في وصف أفلاكهم، فأعلم أن الأرض لا يمكن أن ترى لصغرها، ولظلمتها لأنها ليست نيرة. وأنه بالسماء على الأرجح ملايين الأرضين مثلها صغرا، ومثلها ظلمة، ولعلها مثلها حقارة، وأنها جميعا أجسام سابحة في السماء تحمل البلايين من القلوب، تحمل البلايين من هموم العيش، وتحملها وحدها، ولا يكاد أحد في هذا العالم الواسع يحس بوجود هذه القلوب. دع أن يحس بوجود هموم بها. إن المقاييس أقدار، والأقدار مقاييس. والقياس يفضحنا، ويفضح كل من رفع رأسه اغترارا وقلة فهم منا. وتحدثنا عن عقولنا، ولم نذكر كم هي بين عقول الخلق. وإذا قلنا الخلق وجب أن نفهم أنهم الخلق، فيمن عرفنا وما عرفنا. الخلق بظاهر هذه الأرض. إن العقل فهم. وأحسب أن القرد يفهم، وأن الفيل يفهم، وكذا الثعلب والذئب والحصان. والكلب يفهم، ويفهم القط. كل يفهم بمقدار. فكل يعقل بمقدار. ولولا هذا الفهم، ولولا هذا العقل، لمات هذا الخلق على سطح هذه الأرض جوعا. الأسد يرصد فرائسه فيعلم أين تطلع من حول الغاب، ومتى تطلع، ومتى يغتال ومتى يُحجم، وهذا فهم وعقل. والقط في البيت يدرك أنه لابد أن يتلطف ويتودد ليحصل على غذائه، أو إن لم يكن له بيت يلمه، فهو يدري ويذكر في أي الأركان يخرج الناس بزبالاتهم، وأي الزبالات أغنى بالفضلات، فترى القط يأتيها في الوقت المناسب فكأنه كان منها على ميعاد. وغير الأسد في عليائه، وغير القط في مهابطه، ألوف الخلق تفهم وتعقل، على درجات، تصغر حتى تكاد أن تكون صفرا، وتكبر حتى تكاد أن تكون ألفا. والإنسان أين يقع بعقله منها ؟. إنه يقع في الدرجة العليا. في القمة. والسؤال الحاسم يأتي الآن: درجة الإنسان هذه العليا، بين العقول، هل هي أعلى الدرجات ؟ بالطبع لا. حتى الناس تتفاوت في فهمها فتتفاوت في قدر عقولها. وقد عهدنا، في علم الحساب، وفي الموسيقى وجود صبية فاقوا الدرجة العادية من التعقل، فأسميناهم عباقرة. وأعجب بعد ذلك لبعض الفلاسفة الذين تعودوا أن يسرعوا في الحكم على ما عنه يعجزون فهما، فإذا بهم يجدون في الجحود والإنكار مخلصا سهلا. وما هو بالمخلص السهل،إنما هو قلة الفهم، فَهْم "إن فهم الإنسان خلق منقوصا محدودا". أن تعجز العقول، فقد تهدي الغرائز. نقول إن الكون غامض. ونقول أن العقول عاجزة. فماذا إذن نصنع بالحياة ؟ نصنع الكثير. ونصنع الكافي، ونصنع لاشك الخير، ونصنع الجميل. والإنسان يعيش بغرائزه، ومع الغرائز التعليم الكثير والتدريب المتطاول. وتعقدت حياة الناس حتى صار علم هذه الحياة إرثا تتوارثه الأجيال جيلا عن جيل. ويرعى الأب ولده، وترعى الأم ولدها، طوال السنين. حتى يبلغ المبلغ الذي ترضاه الحضارة القائمة فينطلق نحوها انطلاقا. وكل يتحدث عن المستقبل ولا يريد أن يفوته الزمان. كل يعلم أن غايات الحياة البعيدة، تنبهم، في العقول، ولكن يحتويها الإيمان. لابد أن تكتمل في الصبي، وفي الشاب، وفي الرجل، وفي الكهل، وفي الشيخ، وتكتمل أيضا بالموت. هذه صيغة اكتمالها. وتكتمل حياة الصغير كما تكتمل حياة الكبير، في المجتمع الصالح. وتكتمل حياة الفقير، كما تكتمل حياة ذي الغنى الوفير، في المجتمع الصالح. فهذا ما أسميه باكتمال الحياة. كون فيه غموض وإبهام. كون فيه عجز عن الوصول إلى الأعماق. وغرائز تعين العقل، في مجال الحياة في حدوده المعقولة. وحياة مكتملة يرضاها الإنسان وترضاه. وتغرب الشمس آخر الأمر، ولابد لكل شمس من غروب. ويُطوى الكتاب طيا. ويُكتب في آخر صفحة فيه، على عادة مؤلفي العرب من القدماء: تم هذا الكتاب في الساعة الثالثة، من ليلة العاشر من محرم، عام أربعة وثلاثين وثلاثمائة خلت من بعد هجرة الرسول الكريم. *-.-/*-.-/*-.- والله الموفق 2014-12-01 محمد الشودري