أما الرشوة فمسألة فيها نظر.... فقد يقدم المندوب لعميله مبلغا من المال أو نسبة مئوية من قيمة الصفقة. وقد وافق رجال البيع على اعتبار هذا رشوة. ولكنهم أباحوا تقديمها ولم يبيحوا قبولها. إن من حق المندوب ان يرشو عميله إذا باع، ولكن ليس من حقه أن يرتشي إذا اشترى... اتجاه غير منطقي ولكنه مطبق. والرشوة في عرف رجال الأعمال غير المجاملة. فالرشوة تكون عن صفقة أو صفقات محددة. والمقصود بها أن يتصرف المرتشي تصرفا محددا يتنافى مع واجبه، فالقصد الجنائي موجود بلغة أهل القانون. أما المجاملة فتكون بالإهداء في الأعياد والمناسبات. وبالدعوات العامة والخاصة، وبتقديم الخدمات كالاستقبال في المطار ووضع سيارة في خدمة العميل أثناء زيارته دون مطلب وخلافه، يخلق جوا من الصداقة يسهل فيه التعامل. ولكن كيف نحدد الخيط الرفيع الذي يفصل بين الرشوة والمجاملة ؟ يحكى أن رجلا أمينا من رجال الحكم ارتشى وهو لا يدري. ذلك أن رجل الأعمال الذي يتعامل معه عرف أنه يبحث عن سكن مناسب لابنته المخطوبة فسارع إلى صاحب عمارة جديدة ودفع له معظم الخلو المطلوب على أن يطالب رجل الحكم بالباقي. وذهب الرجل الأمين مع رجل الأعمال بعد أن ادعى هذا أن صاحب العمارة صديقه وهنالك جعل يمزح معه أحيانا ويغلظ له في القول أحيانا أخرى حتى رضي الرجل في النهاية بأقل القليل وهو الباقي له من الخلو. لم يكن في وسع رجل الحكم أن يرفض هذا الفضل من رجل الأعمال وهو لا يكلفه شيئا. كما لم يكن في وسعه كبشر أن يتجاهل هذا الفضل في معاملاته معه فيما بعد. كما يحكى عن رجل آخر مارس مرة هذا النوع من الرشوة أو المجاملة مع كبير مغرم بالشعر فحفظ له بعض القصائد التي يحبها وجعل يحدثه فيها فكسب مودته وأقنعه بقضاء مصلحته. إن في كل إنسان نقط ضعف. فمن الناس من يؤثر المال. ومنهم من يحب النساء والخمر. ومنهم من يتفانى في حب ابنته الصغيرة. ومهمة رجل الأعمال أن يبحث عن نقطة الضعف في عميله ليشبعها فإذا المفتاح يدور والباب ينفتح. ولكن إلى أي مدى يسير ؟ وما يقال عن رجل الأعمال يقال مثله عن رجل السياسة. فالسياسة زيف في زيف. وهي محاولة مستمرة لإلباس الباطل ثوب الحق في لغة حريرية وقوة حديدية. والسياسة تعتمد على خداع النفس والتجسس والوقيعة بين الشعوب، كما تعتمد على فعل الخير وتشجيع المثل العليا ودعم الحضارة إذا كان هذا أقرب لتحقيق أهدافها. ففي أي نقطة تصطدم السياسة بالفضيلة ؟ أين دور الفضيلة ؟ هل دورها أن تقوم بوظيفة الدجاجة التي تنام على بيضها في جو مقفل، أو أن تعتلي المنابر في المساجد والكنائس عساها تخفف من ضغط المصالح وتعلي من شأن الأخلاق ؟ أليس من الخير أن تفتح أبوابها وأن تنزل من عليائها وتنفتح على الناس لتعايش الواقع الذي يعيشون فيه ؟ إن في وسع الفضيلة أن تثبت وجودها في هذا القرن الواحد والعشرين كما أثبتته في عهود الإنسانية الأولى، وكل ما هو مطلوب منها أن تتنازل قليلا عن مثلها العليا لتتفاعل مع الأوضاع القائمة التي استقرت. ولكن كيف ؟ للإجابة على هذا السؤال يفرق علماء الإدارة بين الأمانة المثالية Ethical Honesty والأمانة العملية Business honesty فيقولون إن من يكتب لأحد أصدقائه خطابا على ورق المؤسسة التي يديرها أو يكلم زوجته في عمل عائلي من تليفون المصلحة التي يعمل فيها فهو سارق، ولكن رجال الأعمال يحفظون مثل هذه القضايا لعدم الأهمية كما يقول رجال القانون. والهدايا التي يقدمها المنتجون لمديري الشركات في المواسم والأعياد يتسامح فيها علماء الإدارة لأن القصد الجنائي ليس موجودا كما تقدم. والصحفي الذي يسرق الخبر من درج الوزير بالاتفاق مع السكرتير يحتمي بسر المهنة إذا قدم للقضاء بل إنه يحاكم أمام نقابة الصحفيين إذا أفصح عن مصدره. والدولة التي تكلف مخابراتها بالحصول على معلومات عن عدوها تسخر ضعاف النفوس عنده وترشوهم ليضروا بوطنهم. إن صاحبا لنا كان يسعى يوما للحصول على دين كبير لمؤسسته فعرف أن للمؤسسة المدينة مجموعتين من الدفاتر إحداهما حقيقية للشركاء والأخرى مزيفة لمصلحة الضرائب وأن الدين مبين في المجموعة الأولى فاستعان بسكرتير خائن ليدل على المجموعة المخفية نظير جعل وبذلك حصل لمؤسسته على حقها. ولكن ماذا فعل صاحبنا بنفسه. إن القراء سيظنون أنه مارس حياته العملية كما يمارسها الأبالسة. وصاحبنا يؤكد لهم جميعا أنه أعطى تلاميذه الكثيرين خير ما عنده من توجيه، وأعطى زملاءه الكثيرين أيضا خير ما عنده من وفاء، وأعطى آلاف عملائه خير ما عنده من خدمة. ولكن التوجيه والوفاء والخدمة كانت كلها تلبس رداء المصلحة العامة ولم تكن من وحي النظريات. والناس يؤيدون في أعماقهم هذا الاتجاه، فهم حين يسخرون من شخص يقولون أنه "كامبو" وحين يثنون على آخر يقولون إنه "عفريت" يريدون بذلك أن الأول لا يعرف ما يريد وأن الثاني ينطلق إلى الهدف. فهل صاحبنا في هذا المقال من النوع الأول أو من النوع الثاني ؟ هل الناس جميعا على الأرض مخطئون والفضيلة في سمائها محقة ؟ إذن فإن صاحبنا يعترف أنه بشر، وبوده لو كان ملاكا فيصعد إلى السماء. -*.-*. -*.-*.-*.-*. والله الموفق 2014-07-08 محمد الشودري