كثيرون نخص بالذكر أولاد موسى، وهم ثلاثة، كلهم عشقوا الفكر، وكلهم تميزوا فيه. ولهم قصة طريفة. جاء أبوهم موسى بن شاكر، أول ما جاء من خراسان. وكان قَطَّاع طريق في شبابه. ثم تاب. واتصل بالمأمون وصار من خاصته. ثم مات عن أبنائه الثلاثة، وكانوا صبية، هم محمد، وأحمد، وحسن. وعهد المأمون بهم إلى بعض خاصته ليرعاهم وأسكنهم مع يحيى بن أبي منصور، في بيت الحكمة الذي كان المأمون أنشأه في بغداد، بيتا للدراسة والعلم. وصف الغربيون بيت الحكمة هذا، قالوا إنه احتوى على مكتبة علمية، ومرصد فلكي، وكان تأسيسه أكبر محاولة من نوعها في سبيل العلم في العالم منذ كان متحف الإسكندرية في القرن الثالث قبل الميلاد. وجَدَّ الصبية الثلاثة في دروسهم، وجدُّوا في تحصيلهم، وتميزوا. وكان أشهرهم محمدا، أبا جعفر، بن موسى. كان عالما غزير العلم، في الهندسة، وفي الفلك. وأما أحمد فتميز في الميكانيكا، في علم الحِيل. أما حسن فتخصص في الهندسة، فكان عالي الكعب فيها. وكان إذا جرى لا يلحقه فيها لاحق. ولم يكن قرأ كل اقليدس، ولكن أغنته ذاكرته، وأغناه منطقه وقوة حجته عن تمامه. دخل مرة على المأمون في مجلسه، فقال أحد جلسائه عن حسن أنه لم يقرأ من اقليدس غير ستة من كتبه. قال الحسن يدفع عن نفسه : يا أمير المؤمنين، إن السائل إذا سألني فيما لم أقرأ لاستنتجت جواب ذلك بالمنطق مما قرأت، دون حاجة إلى قراءة ما لم أقرأ فأجاب المأمون : إني لا أخالف لك رأيا، ومع هذا لا أبرئك كل التبرئة. ذلك أن الناس سوف ترميك وأنت العالم العارف بالهندسة، بأن الكسل قد قعد بك عن إتمام قراءة اقليدس. ولأولاد موسى هؤلاء شهرة في عالم الفكر، في شرق وغرب. أما في الشرق فقد قال عنهم مؤرخوه، إنه إلى جانب جهود المأمون في جمع علوم الروم ومراسلته ملكهم في ذلك، وتأبى الملك عليه أولا ثم رضائه، وإلى جانب إنفاذ المأمون بعد ذلك الرجال ليختاروا من هذا العلم ويأخذوا، إلى جانب كل هذه الجهود قام في عهده جماعة من أهل اليسار اعتنوا كل العناية بنقل هذه الكتب إلى اللسان العربي. ومن هؤلاء محمد وأحمد والحسن، أبناء موسى بن شاكر، بذلوا الرغائب وأنفذوا حنين بن إسحق وغيره إلى بلاد الروم فجاءوهم بطرائف الكتب وغرائب المصنفات في الهندسة والموسيقى والأرثماطيقي (علم العدد) والفلسفة والطب. وقال السجستاني:"إن بني موسى كانوا يرزقون جماعة من النقلة (يقصد المترجمين)، منهم حنين بن إسحق، وحبش بن الحس، وثابت بن قرة وغيرهم، في الشهر نحو 500 دينار للنقل والملازمة". وقال ابن النديم عن أولاد موسى:"هؤلاء القوم ممن تناهوا في طلب العلوم القديمة وبذلوا فيها الرغائب وأتعبوا فيها نفوسهم، وأنفذوا إلى بلاد الروم من أخرجها إليهم، فأحضروا النقلة (المترجمين) من الأصقاع والأماكن بالبذل السني". ومؤرخو الغرب، قالوا في أولاد موسى مثل ما قال مؤرخو الشرق، وذكروا، عدا النقل تآليفهم. قالوا:"إن أولاد موسى لمعوا أكبر اللمع، وكانوا قادة في العلم وكتبوا الكتب والرسائل، في الميزان، وفي الميكانيكا، وفي علم المخروطات وفي قياسات الكرة، وفي تثليث الزاوية، إلى جانب بحوث علمية أخرى. وترجمت كتبهم إلى اللاتينية، في القرن الثاني عشر، فدخلت أوربا. ومنها كتابهم في قياسات الأشكال السطحية والكروية". ومن رجالات العرب الذين برعوا في الهندسة ثابت بن قرة بن مروان ومن الغربيين من يعُدُّه أكبر عالم في الهندسة، في العرب، وبين كل ناطق بضاد. وكان ثابت فيمن أنفذهم أولاد موسى إلى بلاد الروم ليختاروا من علمها، علم الإغريق. وكان ثابت يعرف، إلى جانب العربية، اللغة السريانية، وكان يحسن الكتابة بها. وعرف الإغريقية. وكتب مترجما، وكتب مؤلفا، وعدُّوا له 150 كتابا بالعربية وستة عشر بالسريانية، في الهندسة وفي الحساب وفي الفيزياء وفي الفلك. وإن نحن سقنا خبر ثابت بن قرة لندلل على ما بلغته دولة العرب من حب لعلم، ومن التوغل في الاستزادة منه، وهو خبر مشهور بين رجال العلم معروف، فإنما نسوقه كذلك لندلل على ناحية أكثر خفاء، تلك سعة صدور العرب المسلمين للعلم والعلماء من أي دين كانوا وأي نحلة انتحلوا. وغير الحجاج بن يوسف بن مطر(170ه - 220 ه/786م - 835م ) الذي قام بالترجمة والتعليق على كتاب "الأصول الهندسية" أو"الأركان الهندسية" الذي يسمى باليونانية (Stiocheio) وبالإنجليزية (Elements) لإقليدس مرتين:الأولى سماها "بالهاروني" والثانية "بالمأموني"، وغير أولاد موسى، وغير ثابت بن قرة كان عند العرب أهل علم بالهندسة كثيرون، يضيق المقام عن ذكرهم أجمعين ولكن مع هذا لا أحب أن يفلت ابن يونس فلا يذكر. هو كمال الدين أبو الفتح موسى بن يونس، ولد في الموصل عام 1156، ثم ذهب إلى بغداد، فأتم دراسته بالمدرسة النظامية بها. وعاد إلى الموصل يدرس في مدرسة سميت من بعده بالكمالية تكريما له. كان فقيها، ولكنه جمع إلى الفقه العلم بالرياضيات، وما ترك علما إلا كان له فيه باع. فبينما هو يكتب تفسيرا للقرآن، إذا به يعلق على ابن سينا وما كتب. وألف في النحو وفي المنطق، وفي الفلك وفي الحساب وفي الجبر. ولكنه امتاز في الهندسة امتيازا كبيرا. يحكى أن فريدريك الثاني، ملك صقلية في أوائل القرن الثالث عشر، بعث بأسئلة إلى العرب يطلب عليها الجواب. وكان منها ما هو في الطب، ومنها ما هو في الفلسفة وما هو في الرياضة. أما أسئلة الفلسفة والطب فأجاب عنها السوريون. وأما التي كانت في الهندسة فلم يستطيعوها، وأرسلوها إلى الموصل، إلى المفضل بن عمر الأبهري، علما منهم أنه في الهندسة لا يضارعه أحد. فلما أحس بصعوبتها دفعها إلى أستاذه الشيخ ابن يونس، فحلها. قال الخوارزمي: وكانت في الهندسة مسألة عن خط قطع دائرة، فانحصرت مساحة بين هذا الوتر والقوس. وكان المطلوب رسم مربع مساحته كهذه المساحة. فهذا بعض مجد العرب في الهندسة. ----------------------- والله الموفق 05/06/2014 محمد الشودري