إن الحديث عن المجال الأمني ليس بالأمر اليسير، فقد كان إلى وقت قريب موضوع الأمن من المواضيع الممنوع الحديث فيها وبالأحرى انتقادها، لكن مسلسل الإصلاح الشامل الذي دخل فيه المغرب مع بداية الألفية شمل كل جوانب الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والأمنية ...الخ. ويأتي موضوع إصلاح المنظومة الأمنية انطلاقا من اعتبار الأمن عملية تتطلب الإصلاح بناء على النظرة المتعقلة والرصينة لتوازنات الدولة الشاملة، واعتماد إصلاحات جذرية في مفاهيم السلطة والمواطنة ونقاط التلاقي بينهما ومنها الحكامة الأمنية. فماذا يقصد بالحكامة وما المقصود بالأمن . إن لمفهوم الحكامة ارتباط بالاقتصاد منذ القرن 18 و19 م، والأصل فيه أنه تعبير عن ممارسة السلطة السياسية وإدارتها لشؤون المجتمع وموارده، واليوم أصبح متداولا من طرف المنظمات الدولية ولاسيما صندوق النقد الدولي كمؤسسة موجهة للأنظمة المرتبطة به عن طريق الديون، وأصبح مفهوم الحكامة اليوم يعني التدبير السليم لمؤسسات الدولة، وحكم تقوم به قيادات سياسية منتخبة وأطر إدارية كفؤة لتحسين نوعية حياة المواطنين وتحقيق رفاهيتهم وذلك برضاهم وعبر مشاركتهم ودعمهم. وللحكامة أسس تتمثل في منظومة القيم التي ترسم معالم الهوية الوطنية والموزعة عبر مختلف النصوص القانونية والضاربة جذورها في ثقافة المجتمع وتاريخه، وتجلياتها كثيرة منها نكران الذات والموضوعية والاعتراف بالآخر والايمان بالقيم وتصريف الجهد بالحس القوي والضمير الحي لخدمة المصلحة العامة. إلا أن الحكامة في المجتمعات العربية ليست بنفس المقاييس التي توجد عليها في الدول الغربية نظرا لاختلاف كثير من الأسس رغم أنها تلتقي في البعض منها. إن أساس مفهوم الحكامة تطوقه مجموعة من القيم والعادات والمعتقدات التي تتحكم في فكر وسلوك الحاكم أومن يمتلك سلطة، فكلما كانت منظومة القيم الاجتماعية والدينية والسياسية والقانونية منسجمة إلا وأعطت شخصية سوية نسبيا، كما يسعف ذلك في تحمل المسؤولية والاحساس بأهميتها وبمخاطرها وعواقب الفشل وإيجابيات النجاح. أما مرتكزاتها فهي نوعين إحصائية ورقابية، أي أنها عقلية تعمل بمجموعة من القناعات والآليات كالضبط والتحكم وتوجيه نشاطات المؤسسات الوطنية والمحلية في شتى المجالات، وكذلك تشجيع التسيير التشاركي واحترام الضوابط القانونية وتكامل الأدوار بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، لإثبات حسن التدبير والتوافق واحترام الاستراتيجيات الموضوعة وتحقيق النتائج بالجودة والفعالية المتوخاة، بينما المرتكز الرقابي فيتمثل في الذاتي بالتقييم والنقد والموضوعي بتعليل القرارات من خلال الدراسات والتقارير واستطلاعات للرأي وتتبع المنجزات وجعل الموظف العمومي تحت المراقبة لإبعاده عن الفساد وكل مظاهره والتوجه نحو التصريح بالممتلكات وصولا إلى الإدارة الخدومة أو الإدارة المواطنة. والأمن بمفهومه الواسع يرتبط بحياة الانسان عموما ،كالأمن الغذائي والأمن الروحي والأمن التربوي والأمن البيئي والأمن البيولوجي والأمن المائي والأمن الهوياتي والأمن الصحي...الخ. أما الأمن بمفهوم استعمال القوة من أجل الحفاظ على السكينة والهدوء والأمن العام – ونظرا لارتباطه الواسع بالوطن والدولة والمجتمع والمؤسسات- فإن المقاربة الأمنية مع تطور المجال الحقوقي المدستر والمرتبط بمسار الديمقراطية التي وسعت مطالب الشعوب وهامش الحريات الفردية والجماعية، فرض تعميق الاصلاح تفاديا لتأجيج الأوضاع وخلق اضظرابات وحراك قد يغير الأوضاع إلى الأسوأ كما حدث في بلدان عربية ومغاربية والتي ما تزال عالقة دون أمن ولا ديمقراطية . هذا وتفترض المقاربة الأمنية طرح عدد من الأسئلة في ارتباطها بالحكامة حتى يمكن محاكاتهما بشكل جيد وهي: لماذا وكيف ومتى تستعمل القوة ؟ وما حدود استعمالها؟ وما هي العلاقة بين استعمال القوة والحكامة الأمنية؟ وهل توصيات هيئة الانصاف والمصالحة تعني حكامة استعمال القوة؟ وهل إحداث مجلس أعلى للأمن هو نقلة نوعية من أجل أبعاد أمنية ترقى للمستوى الدولي؟ إن استمرار المجتمع والدولة والمؤسسات سواء المسيسة وغير المسيسة والمدنية يتوقف على الأمن بدرجة أساسية، وتنظيم العلاقة بين مكونات الدولة الواحدة واحترام الحدود يتطلب وجود الأمن، ولا يمكن تحقيق الانتقال الديمقراطي خارج مبدأ الحكامة الأمنية، كما لا يمكن توحيد النظرة والثقافة داخل الدولة لأن الثقافة الأمنية ليست هي الثقافة السياسية أو الأدبية أو الاقتصادية أو الدينية، بل تلتقي نسبيا مع الثقافة الحقوقية، لذا لابد من الاحتفاظ بحدود تسمح بالاحترام الكافي للمؤسسة الأمنية وحتى يبقى المجال الأمني بعيدا عن التسييس والسلطة المنتخبة، وفي المقابل ينبغي تدبير استعمال القوة بما يتماشى مع المنظور الحقوقي دون انحلال المؤسسة الأمنية، بل ينبغي التقيد بالتشريعات حتى لو كلف الاستقرار ضريبته التي تقبلها كل الأنظمة. إن ارتباط عمل المؤسسات بالشرعية يتطلب من الأجهزة الأمنية استعمال القوة بشكل دقيق ووفق القوانين دون المساس بالشرعية التي تمثل كل التوافقات المحددة وفق القوانين المعمول بها والتي تتماشى مع التشريعات الدولية، وهذا ما جاء في توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة حيث دعت إلى ترشيد الحكامة الأمنية عبر عدد من الإجراءات منها المراقبة والتحقيق في مجال الأمن، والمراقبة الوطنية للسياسات والممارسات الأمنية، والتكوين المتواصل لرجال السلطة والأمن في مجال حقوق الإنسان، وتفعيل آثار قاعدة الحكومة مسؤولة بشكل تضامني عن العمليات الأمنية وحفظ النظام العام وحماية الديمقراطية وحقوق الإنسان، وإلزامها بإخبار الجمهور والبرلمان بكل الأحداث المستوجبة تدخل القوة العمومية ومجرياتها ونتائج العمليات والمسؤوليات وكل التدابير التصحيحية التي قد تتخذ في الموضوع. وأيضا تقوية أداء لجان تقصي الحقائق البرلمانية بالخبرة الأمنية، وتوسيع اختصاص البرلمان في مجال المساءلة والاستماع المباشر ليشمل – بالإضافة إلى الوزراء في العدل والأمن- كل المسؤولين المباشرين عن أجهزة الأمن وعمليات الردع على الأصعدة الوطنية والإقليمية والمحلية، ونشر الإطار القانوني للأمن ونصوصه التنظيمية ومسلسل اتخاذ القرار الأمني وطرق التدخل وأنظمة المراقبة وتقييم عمل الاجهزة الإستخباراتية والسلطات الإدارية المكلفة بحفظ النظام العام ولها سلطة استعمال القوة العمومية. ومن جهة أخرى توصيف وتصنيف حالات الأزمة الأمنية وشروط وتكنولوجيا التدخل فيها، وإعداد التقارير عن التدخلات الأمنية ونشرها فورا وبشكل شفاف، والإشراف السياسي على عمليات الأمن وحفظ النظام العام، والمراقبة المحلية والإقليمية من طرف لجنة متعددة التكوين وإعداد تقارير مفصلة. أما بخصوص معايير استعمال القوة فإن هيئة الإنصاف والمصالحة أوصت بضرورة إلزام كل جهاز أو وكيل للسلطة أو الأمن بالاحتفاظ بكل ما يوثق لقرار التدخل أو اللجوء إلى القوة العمومية، وكذلك التقارير والاشعارات والمراسلات المتصلة بها، وإبطال الأوامر والتعليمات الشفوية إلا في حالة الخطر المحدق والتي ينبغي أن تستتبع بأن توثق كتابة لتأكيدها، والمعاقبة الإدارية والجنائية الصارمة في حق كل من أخفى الخسائر البشرية أو المادية والاستعمال المفرط للقوة العمومية أو تزوير أو تدمير أو تستر عن كل حالة تجاوز أو وثائق متصلة بها، ووضع برنامج خاص بالتكوين المستمر في مجال حقوق الانسان وثقافة المواطنة والمساوات لفائدة المسؤولين وأعوان السلطة والمكلفين بحفظ النظام، بالاستناد على المعايير الدولية والتشريعات الوطنية المتعلقة بحقوق الانسان بالإضافة إلى تحسيس مختلف المسؤولين وأعوان الأمن بقواعد الحكامة الجيدة على المستوى الأمني واحترام حقوق الانسان، وحفظ جميع الأرشيفات الوطنية وتنسيق تنظيمها بين كل الدوائر المعنية وسن قانون متعلق بها، ومراجعة محتوى تاريخ المملكة وإدراج مادة الانتهاكات وتطور قضايا حقوق الانسان والاصلاح الديموقراطي، بالإضافة إلى تقوية دور المجلس الاستشاري لحقوق الانسان فيما يخص التصدي التلقائي أو بناء على طلب في مجال التحري وتقصي الحقائق وتتبع سير المحاكمات ورفع درجة تعاون السلطات العمومية فيما يتعلق بتحقيقاته وتمكينه من المعلومات والتقارير. مما سبق يتبين أن الحكامة الأمنية لا تكتمل إلا بتكامل عمل الدولة ومؤسساتها والقطاع الخاص والمجتمع المدني وتكريس ثقافة الحكامة بالمشاركة والمحاسبة في ظل الديموقراطية التي تعمل بالمساءلة السياسية والإدارية للمسؤولين عن سوء تأديتهم لوظائفهم وإدارتهم للموارد العامة وحماية الشأن العام من التعسف واستغلال السياسيين لمواقعهم وحماية الملك الخاص من الاعتداء لضمان حياة كريمة للإنسان والمواطن والجماعات داخل الدولة. إن إصلاح المجال الأمني في الغالب ينظر إليه من مقاربة تقوم على توفير التجهيزات والعتاد والزيادة في الموارد البشرية واللوجستيكية، ويتم تجاهل المقاربة السياسية التي ترتكز على أن الأمن خدمة اجتماعية واعتبار الأمن قضية مجتمعية ذات بعد سياسي تساءل كافة الفعاليات وترتبط في العمق بإرساء دولة القانون وتحقيق التنمية على أساس التصورات التي تضمنتها التشريعات والقوانين والدساتير الممتدة تاريخيا لتصورات رواد العقد الاجتماعي. ومفهوم الحكامة الأمنية يتطلب تأمين حماية الأفراد والممتلكات وخدمة المواطنين وليس الدولة فقط والحد من الجريمة ومحاربة الممارسات المتناقضة مع مفهوم الأمن سواء داخل منظومة الأمن أو داخل المجتمع والخروج من دائرة التسيب والفوضى من تحت مظلة الأمن وكذا مظلة حقوق الانسان وضبط كل التجاوزات، باعتبار الأمن هو أحد خطوط التماس بين الحكومة والمواطن أو الدولة والمجتمع، وهذا يفرض صياغة جديدة لمفاهيم الحق والحرية والواجب والتفريق بينها، وجعلها تتماشا متطابقة مع مضامينها الدستورية، وتغييرها بممارسات تشرح الغامض منها وتكلم المسكوت عنه فيها. فحق الاضراب والتظاهر مثلا، ما يزال غير مقنن بقانون تنظيمي، وأمام هذا الفراغ يعتمد المضرب أو المتظاهر التأويل للتشريعات الدولية وتعتمد المؤسسات الأمنية التأويل المضاد باللجوء للتشريعات والقرارات الوطنية. والحكامة الأمنية هي أسلوب حديث لتأهيل المجتمع والدولة استكمالا لحكامات أخرى تعنى بالجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية... وهي حكامات تختلف من حيث الآليات لكنها تتوحد من حيث القصد والغاية. وقد أحدث المجلس الأعلى للأمن كمؤسسة أمنية أسمى تسند إليها مهمة أعمق بوضع استراتيجية أنجع قوامها الحكامة الأمنية الشاملة ذات الامتداد والاهتمام الوطني والدولي، تبعا للفصل 54 من الدستور المغربي فإن هذا المجلس يرأسه الملك ويضم مدنيين وعسكريين ووزير المالية بالإضافة إلى القيادة المسيرة، ويتولى وضع الاستراتيجيات الأمنية وتدبير الملفات الأمنية الكبرى بجمع المعلومات وتبادلها بين مختلف مكونات الحقل الأمني والعسكري والرفع من مستوى التنسيق من أجل حكامة ونجاعة تدبير الملفات بالإضافة إلى تجاوز سلبيات عدم تدخل المؤسسات الأمنية في شؤون بعضها لكون كل منها لها تنظيمها الخاص وتعمل باستقلالية عن الاخرى. وقد صدر ظهير 23 فبراير الخاص بتنظيم جهاز الأمن شق التدبير الإداري ليضع هيكلة جديدة، بسن نظام أساسي لرجال الأمن استجابة لتطلعات العاملين في سلك الشرطة وتلبية مطالبهم الاجتماعية والوظيفية، بالإضافة إلى القانون الأساسي الخاص بالتنظيم الهيكلي المركزي والخارجي للأمن (لدى الأمانة العامة للحكومة).وهناك مشروع لتكوين رجال الأمن في مجال حقوق الإنسان ، كما قامت المديرية العامة للأمن بتدريب عناصرها على الحكامة الأمنية لإشاعة حقوق الإنسان وحقوق اللاجئ والقانون الدولي الإنساني، وأبرمت أيضا اتفاقية شراكة مع المجلس الاستشاري لحقوق الانسان ووزارة الداخلية وقيادة الدرك الملكي تقضي بإعداد دليل عملي لموظفي تنفيذ القانون مع توضيح تطبيقات حقوق الانسان في المجال الأمني، كما جندت المديرية أطرها وأساتذة مختصين لتكوين عناصرها حول حقوق الانسان وقاية من التجاوزات وجرائم التعذيب والشطط والرفع من مؤهلاتهم. وقد أصبح للمغرب مؤسسة دستورية تشاورية بشأن الأمن الداخلي والخارجي للبلاد وتدبير حالات الأزمات ومأسسة ضوابط الحكامة الأمنية الجيدة، ورئاسة المجلس الأعلى للأمن من قبل الملك وإمكانية إسناد لرئيس الحكومة رئاسة اجتماعاته وفق جدول أعمال محدد، كما منح الدستور لأول مرة للمدنيين فرصة الإسهام في وضع السياسات الأمنية للبلاد حيث يضم المجلس عسكريين ورئيس الحكومة ورئيسي مجلسي البرلمان والرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية ووزير الداخلية والعدل وإدارة الدفاع الوطني ومسؤولين عن الادارات الأمنية وضباط سامين بالقوات المسلحة الملكية وشخصيات مدنية كخبراء متخصصين... ويتولى المجلس الأعلى للأمن الإشراف على تطبيق المخطط الأمني 2013 – 2017 ووضع استراتيجية أمنية في ظل التحديات الأمنية المرتبطة بالإرهاب والجرائم والوسائل المستعملة فيها. وما دام الواقع مفتوح على كل الاحتمالات مثل تنامي التطرف وانتشار الجريمة العابرة للقارات وتنوعها في مقابل نسبية القدرة على التنبؤ والوقاية والقدرة على المواكبة والتحكم في المعلومة، والسرعة التي تتوالى بها الأحداث وحركية التطور العام داخل المجتمع، فإن المغرب يتوفر على خارطة طريق للحكامة الأمنية تعزز المجهود المبذول وذلك باعتماد المسؤولية الحكومية في مجال الأمن بإخراج الحكامة السياسية الأمنية الى حيز الوجود، والعمل بالمراقبة والتحقيق البرلماني في مجال الأمن وتحديث أجهزته، والمراقبة الوطنية والإقليمية والمحلية للسياسات والممارسة الأمنية، وتحديد معايير وحدود استخدام القوة والتكوين الممنهج لرجال الأمن والسلطة والأعوان في مجال حقوق الإنسان... وهذا يدل على أن الدولة المعاصرة تسيست، ولا يمكن تقديم إصلاحات إلا عن طريق استعمال أدواتها المشروعة ووسائلها القانونية. الدكتور احمد الدرداري متخصص في تحليل الخطاب وتدبير السياسات