بعد تناسل التقارير الحقوقية التي تتحدث عن تجاوزات وإفراط في استعمال القوة من طرف القوات العمومية والأجهزة الأمنية والاستخباراتية، وأمام الغموض الذي يلف عمليات التدخل ومختلف تحركات هاته الأجهزة، وصعوبة تحديد المسؤولية المباشرة عن كل عملية أو تحرك، ومع ما يعرفه تنظيم وهيكلة مختلف الأجهزة الأمنية في البلاد من غموض وغياب الوضوح، يُطرح موضوع الحكامة الأمنية بشكل ملح، خصوصا بعد إقرار الدستور الجديد للمملكة، الذي اعتمد مفهوما محوريا وشاملا لمختلف القطاعات والمسؤوليات السياسية والإدارية يقضي بربط المسؤولية بالمحاسبة، بما يفيد بأن كل من يمارس مسؤولية من المسؤوليات يخضع للمراقبة والمحاسبة والتقييم، وأنه ليس هناك من هو، أيا كان، فوق المحاسبة، وما يقتضيه هذا المبدأ من ضرورة الاحتكام إلى قواعد الشفافية والنزاهة والوضوح في الممارسة الإدارية والسياسية، فما بالك إذا كانت المسؤولية مرتبطة بالمجال الأمني الأكثر حساسية والأكثر ارتباطا وتأثيرا على الحقوق والحريات؛ كما أن الدستور عند حديثه عن المجلس الأعلى للأمن أناط به مهمة السهر على مأسسة ضوابط الحكامة الأمنية الجيدة، مما يعني أنه اعتبرها من مستلزمات الدولة الديمقراطية ودعامة من دعامات دولة الحق والقانون. كما تجدر الإشارة إلى أن الدعوة إلى ترشيد الحكامة الأمنية جاءت من ضمن توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة (والتي دعا الدستور نفسه إلى تفعيلها) في تقريرها النهائي والذي حدد مجموعة من الإجراءات، من أبرزها ضرورة إخضاع الأجهزة الأمنية للمراقبة البرلمانية، بما يجعل هذه المراقبة تطال كل الممارسات والتدخلات التي تمارسها هذه الأجهزة ومسؤولوها وأفرادها، وذلك بما للبرلمان من سلطة رقابية على مختلف قطاعات الدولة ومؤسساتها وعلى السياسات العمومية، بما في ذلك السياسات والممارسات الأمنية. إن الحكومة اليوم، وباعتبارها حكومة سياسية ناتجة عن صناديق الاقتراع، مسؤولة بشكل تضامني عن كل العمليات الأمنية وعن حفظ النظام العام وحماية الديمقراطية وحقوق الإنسان، كما أقرها الدستور الجديد الذي خص الحقوق والحريات بباب كامل، إذ إن من شأن إقرار المسؤولية السياسية للحكومة عن قطاع الأمن وأجهزته، سواء من الناحية الرسمية القانونية أو العملية، أن يجعل ممارستها في صلب المراقبة البرلمانية والقضائية، مما يحتم على السلطة التنفيذية ويلزمها، في إطار إقرار مقتضيات الحكامة الأمنية، بإخبار الجمهور والبرلمان بالتوجهات الكبرى للسياسة الأمنية وبالتبعية بأية أحداث استوجبت تدخل القوات العمومية، وبمجريات ذلك بالتدقيق، وبالعمليات الأمنية ونتائجها والمسؤوليات المترتبة عنها. كما أن سبل المراقبة تستدعي وضع تقارير مفصلة عن الوقائع والعمليات ومختلف التدخلات الأمنية والحصيلة الناتجة عنها وأسباب ما يمكن أن يحصل من شطط أو تجاوز، وكذلك إقرار الإشراف السياسي على عمليات الأمن وحفظ النظام العام، وذلك بتحديد الجهة مصدرة الأوامر بشكل دقيق، مع توضيح آليات ومراحل اتخاذ القرار الأمني. كما أن الوضعية القانونية والتنظيمية لمختلف أجهزة الأمن ومسألة توضيح العلاقات في ما بينها وحدود اختصاصاتها، والإمكانات القانونية المتاحة لها للتدخل، ومصادر تمويلها والمسؤولين عنها وحدود الهامش المتاح لهم لاتخاذ القرارات، كل هذا أصبح من الضروري توضيحه ونشر الإطار القانوني والنصوص التنظيمية المتصلة به في ما يتعلق بصلاحيات وتنظيم مسلسل اتخاذ القرار الأمني، وطرق التدخل أثناء العمليات، وأنظمة المراقبة وتقييم عمل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، والسلطات الإدارية المكلفة بحفظ النظام العام أو تلك التي لها سلطة استعمال القوة العمومية. ورغم الإقرار المسبق بالإمكانية القانونية المتاحة للأجهزة الأمنية لاستعمال القوة عند الحاجة إليها وفق الضوابط القانونية، فإنه وجب تدقيق الكلام بخصوص معايير وحدود استعمال هذه القوة التي يفرض القانون والمعايير الدولية لحقوق الإنسان تناسبها مع الهدف الأمني الضروري لحفظ النظام، الأمر الذي يقضي بإلزامها بالاحتفاظ بكل ما يوثق لقرار التدخل أو اللجوء إلى القوة العمومية، فضلا عن الإمساك بالتقارير والإشعارات والمراسلات المتصلة بها، وإبطال الأوامر والتعليمات الشفوية، إلا في حالة الخطر الحال، على أن تستتبع الأوامر الشفوية بأخرى مكتوبة وموقعة توثق وتؤكد الأمر الشفوي المستعجل. ولتجنب الكثير من القرارات الفردية في المجال الأمني أو ما يحدث في كثير من الأحيان من إفراط في استعمال القوة، في مخالفة للأوامر الصادرة أو للقرار السياسي الأمني، وجب التنصيص على المسؤولية الإدارية والجنائية الصارمة للعناصر الأمنية المتورطة، هذه المسؤولية التي تستتبع الجزاء والمعاقبة. إن ما يحدث من تجاوزات أمنية، سواء عند اتخاذ القرار أو عند تنفيذه، يمكن تجاوزها أو التقليل منها باعتماد تكوين متواصل لمسؤولي وأعوان السلطة والأمن في مجالات حقوق الإنسان، وذلك بالاستناد إلى ما أقره الدستور من مبادئ في هذا المجال، وكذا التشريعات الوطنية المتعلقة بحقوق الإنسان والمعايير الدولية. وفي الأخير، يبقى أن نشير إلى أن تحسين صورة الأجهزة الأمنية لدى المواطن وتغيير كل ما يرتبط بها من تمثلات سلبية لدى المجتمع، يقتضي العمل على تقنين وإتاحة حق الولوج إلى المعلومات المتعلقة بالعمليات الأمنية وحفظ النظام العام، وإقرار مراقبة سياسية وقانونية وإدارية على كافة السلطات الأمنية.