تقديم: يرتبط وعي الأمم بمقدار ما يقرأ أفرادها, كما يرتبط تقدم الشعوب وانفكاكها من مخالب الجهل والظلام بمقدار ما تقرأ, ويرتبط نضج المجتمعات بمقدار ما تقرأ, وأيضا يرتبط رقي الأفراد بمقدار ما يقرؤون, ومن زاوية أخرى فإن انحطاط الأمم وتخلف الشعوب وسذاجة الأفراد ترتبط ارتباطا كليا بالمقدار الذي يُقرأ. ومن أراد أن يبني حضارة فليقرأ, ومن أراد أن يشل أركانها ويهدمها هدما ويجعلها في خبر كان ولم يبقى هنا فليُطلّق القراءة وليغضَّ الطرف عنها. إذن فالعملية كلها مرتبطة بالقراءة, لأنها السلاح الأكبر للانتصار في معركة ضد الجهل والتخلف, كما أنها المفتاح الوحيد الذي يمكن من الدخول إلى عالم الحياة بدل الموت, لأن الشخص الذي لا يقرأ هو شخص ميت بكل المقاييس, والفرق بين من يقرأ ومن لا يقرأ كالفرق بين الحي والميت, لأن وجوده مثل عدمه, لا ينفع ولو بالقليل, بل يضر, وأقل ما يضر به هو استهلاكه لمتطلبات العيش من طعام وشراب ومسكن…., فلو مات لاستراحت منه البلاد والعباد, أما من يقرأ فهو انسان حي بكل المقاييس, كيف لا؟! وفيه المفكر والمبدع والخطيب والأستاذ والمربي….. وفي كل معاني الإنسان, لأنه عرف كلمة السر وآمن بها, ألا وهي : "إقرأ". وبالرجوع إلى مجتمعنا المغربي, نجد الوضع في حالة يرثى لها, فما عاد الإقبال على القراءة بنهم وشراهة كما يجب أن يكون, فقد صام الأفراد بل صامت الجماعات الكثيرة عن القراءة وعزفت عنها. لكن, ولله الحمد والمنة, لازال الأمل معلقا بقلوبنا وآن لشمس الحضارة أن تبزغ وتظهر إرهاصاتها مع شباب يحملون في قلوبهم الغيرة على الوضعية الثقافية والعلمية التي تشهدها بلادنا, مما جعلهم يحدثون ثورة في الكتابة بمختلف أنواعها (أبحاث ودراسات – إبداعات أدبية – تنمية بشرية – كتب دينية….). تعريف بالكاتب: ولما كان من الجميل إصدارهم للكتب بكل حماس وتفاؤل, ارتأيت أن أشاركهم هذه الثورة المعرفية بتقديم كتاب ما إلى القارئ الكريم , ووقع اختياري الأول مباشرة على كتاب "إنما أعظكم..خمسون مجلسا من مجالس بيت الدعوة". ولعل صاحبه هو الأستاذ عبد الباري الحساني, من مواليد مدينة طنجة شمال المغرب سنة 1978, ترعرع هذا الأخير في حي شعبي عرف بالتزامه بتعاليم الدين الحنيف, فامتاح من أهله الأخلاق الحميدة والمعاملة الحسنة منذ صباه. بدأت قصته مع طلب العلم منذ أن التحق بمدرسة -إدريس الأول- الابتدائية, لكن توجه أسرته الديني جعله يتحول عن الدراسة العمومية لكي يلتحق بمدرسة -عمر بن الخطاب- لتحفيظ القرآن الكريم وتدريس مبادئ العلوم الشرعية سنة: 1989, وفي سنة 1993 حصل على شهادة حفظ القرآن الكريم من المجلس العلمي بطنجة, ثم واصل دراسته للعلوم الشرعية بمدرسة – خندق الزرزور العتيقة- التي التحق بها سنة 1995, وفي الأخير أنهى مسيرته الدراسية بتخرجه من مدرسة -المنار العتيقة للعلوم الشرعية- سنة 2005. ولم يكن عبد الباري يطلب العلم إلا على يد كبارشيوخ فترة دراسته, ولعل أبرزهم: الشيخين سي ميلود و سي عبد الله شتيوي في حفظ القرآن الكريم وتجويده. إلى جانب الشيخ عبد العزيز المرابط رحمه الله_ والشيخ محمد مرصو في علوم الشريعة الإسلامية. مع الكتاب: ولم يكن الكاتب ببخيل في الكتابة, فمنذ أن بدأ بمزاولة الخطابة, وهو يحرر مقالات ذات بعد ديني أحيانا وفكري أحيانا واجتماعي أحيانا أخرى, وبما أن واقع النشر ليس بالمحمود, فإنه جعل بعض المواقع ملجأ له كلما دعته الحاجة للنشر. لكن, وبعد أن لعبت الأقدار لعبتها, قدر له إصدار أولى كتبه, وهو الموسوم ب: "إنما أعظكم..خمسون مجلسا من مجاس بيت الدعوة". ويقع هذا الكتاب في أكثر من مائتي صفحة من الحجم الصغير, ويبدأ بإهداء الكاتب كتابه لمن شاء أن يهديهم إياه, ليضع بعده مقدمة عامة للموضوع, كما تعد مقدمته نقطة مفصلية بالنسبة للمؤلف, لأنه يختزل فيها كل ما قاله وكل ما تغاضى عنه وأبى ذكره ولم يرد الإفصاح عنه. ليأتي الحديث في المرحلة التالية عن بيت الدعوة وأهدافه وببضع نفحات من ثقافة الموعظة الحسنة. ومعلوم عند عموم المسلمين أن بيت الدعوة تلبية لنداء رباني أساسه الدعوة إلى الله والارتقاء في سلم العبادة والطاعة, وهذا إن دل على شيئ فإنما يدل على أننا أمام كتاب يعنى بترتيب أمور العبادة, إنه كتاب ديني بامتياز. ولعل القارئ الكريم, سيلاحظ ذلك من خلال المحاور الواحدة والخمسون التي يتشكل منها هذا المؤلف الصغير, والكاتب لم يعنونها بالمحاور أو الفصول, بل جعلها باسم "المجلس" مثل (المجلس الأول – المجلس السادس عشر…), وكأنه يقول لنا :{إن كل محور من الكتاب يمثل مجلسا من مجالس بيت الدعوة}, لينهي في الأخير كتابه بخاتمة محشوة بالعديد من التعليقات وكذا النصائح والوصايا. وإن كان لكل كتاب أفكار وقضايا متعددة, فإن قضايا هذا الكتاب متنوعة ما بين الحديث عن التذكير بالموت والآخرة والارتباط بالله الذي هو قانون الحياة, وكذا الدعوة إلى تطليق الشهوات الدنيوية باعتبارها فانية في القريب العاجل, وكذا الدعوة إلى تعجيل التوبة والهجرة في رحلة طويلة نحو الله …. هكذا جعل الكاتب أولى مجاس كتابه, لينتقل بعدها إلى خطوة أخرى في المجالس التالية كي يجعل حديثه عن الاستعداد ليوم البعث بالاجتهاد في الصلاة وما يستتبع ذلك, حتى يخصص خمسة مجالس يذكر فيها ما طاب له من عن حب الرسول صلى الله عليه وسلم, كيف لا؟ وهو الرحمة المهداة والنعمة المزداة,ولولاه ما عرفت البشرية طريق الصلاح ولا رأت معالمه, ثم يعود المؤلف للغوص في أعماق العالم الروحاني الأكبر بحديثه عن حب الله وربط القلب به والتقرب إليه والشوق إلى لقائه والالتزام بعهده في أكثر من عشرة مجالس. ثم يعود صاحب الكتاب ليربي القارئ ويهذب نفسه بالإلحاح عليه بضرورة الالتزام بالصلاة وحثه على تعلم قيمة من أروع القيم الأسلامية, ألا وهي الحب في الله والصحبة الصالحة, مع العلم أن هذه الأخيرة هي المفتاح الأول للنجاح في كل الأمور الدينية والدنيوية, ولما أحس الكاتب بتوقف قلمه هنا, وجهه مباشرة للتحدث عن شهر رمضان المبارك في أربعة مجالس, ولما كان مسك الختام غاية المُؤلف, فقد ختم كتابه بحديثه عن انتصار الحق بالارتباط بالله. ولقد جاء أسلوب الكاتب متنوعا ما بين الكلام المنضوم والمنثور, كما أنه حشا نصوصه باستشهادات قرآنية وأخرى من الحديث النبوي الشريف, إلى جانب بعض من أقوال العلماء والحكماء. ولم يرفق نصوصه بالإحالات والهوامش والحواشي حتى تكون القراءة سهلة ولا تثير للقارئ أية ملاحظات توقظه وتخرجه من العالم الروحاني. ولعل حجم نصوصه لم يكن كبيرا مقارنة مع مؤلفات أخرى, بل هي مقالات صغيرة الحجم إلى متوسطة, تشبه إلى حد قريب الخواطر التي تجود بها قريحة الملهم, أو بالأحرى هي خواطر خطرت على خاطر الكاتب. وبالرغم من قلة النصوص المندرجة في هذا الإطار وقصرها النسبي, فإن الكاتب أبان عن وعي ديني كبير في التعبير عن المعاني الروحية التي تخالجه بلغة واضحة ومشحونة بدلالات عميقة تعكس ارتباط الكاتب بالهم الديني والتربوي على وجه الخصوص, الأمر الذي جعل هذه النصوص تنحو منحى صوفيا سواء من حيث المعنى أو المبنى.