أجل لقد حرصت خلال نهاية الأسبوع الذي ودعناه على استغلال بعض اللحظات التي توفرت لي لزيارة المعرض الدولي للنشر والكتاب في الدارالبيضاء، وقد كان بودي ان يتاح لي وقت أكثر للتجول في أروقة المعرض مع ما يوفره ذلك التجول من الفائدة والمتعة، ولكن رغم هذا الوقت القصير فقد كونت فكرة عن المعرض وعن الكتاب المعروض، لقد كان موضوع الكتاب المرغوب فيه عرضا من لدن المسؤولين سابقا موضوع اخذ ورد ونقاش ساخن، ولكن هذه السنة والسنة التي قبلها عرض العارضون دون ضجة ودون ما كان يسبق هذا كله من ذلك النقاش حول الكتاب التراثي ومكانته في المعرض والعرض، ولعل المسؤولين الحاليين استفادوا من السابقين في العمل في صمت دون ضجة مع نهج نفس الأسلوب والسياسة في الانتقاء والاختيار، أو ان هناك بالفعل اختلاف في الرؤية وفي السياسة، واياما كان فان دور العرض التي اعتادت العرض في معرض الدارالبيضاء كانت موجودة وان الرواد أمامهم فرص الاختيار بين ما يسمى بالكتاب الحداثي وما يدعي بالكتاب التراثي، ولا اعرف ما إذا كان مستساغا لمن يعشق القراءة والمعرفة ان يستنكف عن قراءة ما هو ممتع ومفيد، سواء كان تراثيا أو حداثيا فكم من كتاب يمكن اعتباره حداثيا أو متجاوزا للحداثة إذ هو ربما يمكن اعتباره مما بعد الحداثة ويرجع تاريخ وضعه وانجازه عَصْرَنا بقرون، وكم من كتاب لم يجف حبر قلم كاتبه وهو موغل في الماضي السحيق، فالعبرة بما يتضمنه الكتاب من المتعة والفائدة وليست العبرة بمن كتب فكم من حداثي تجده فارغا من شروط الكتاب المرغوب: المتعة والفائدة، وعلى أي حال فقد حرصت شخصيا نظرا للوقت الضيق على زيارة أجنحة دور عرض الكتاب المنعوت بالحداثي وقد لاحظت ان عناوين هذه السنة هي عناوين السنة الماضية، مما جعل خاطرا يلح علي ولم اتعب نفسي في اقتناء هذا الكتاب أو ذاك أو هذا العنوان أو ذاك فلعل السنة المقبلة إذا كان الأجل فيه متسع أجد نفس العنوان وفي نفس طبعته معروضا، وهذه هي مأساة الكتاب وإنتاجه في البلاد العربية، فالكتاب يعرضه ناشره في كل المعارض التي تقام في البلاد العربية وخلال الشهور الأخيرة تم تنظيم عدة معارض للكتاب ولكن مع هذا أو ذاك فإن الكتاب تبقى سوقه كاسدة في عالمنا العربي وإذا كانت المؤسسات الدولية المعنية بوضع مقياس متوسط استهلاك الورق مؤشرا على تقدم البلد أو تؤخره فإن البلاد العربية مع كامل الأسف تأتي في مؤخرة القائمة في هذا الصدد فالكتاب وبالأحرى الصحيفة أو المجلة لا تجد لها مكانا أو رواجا في وسطنا، لا فرق في ذلك بين وسط ووسط فالشريحة المفروض انها ترافق الكتاب أو الصحيفة أكثر من غيرها لا تجدها تتحدث عن الكتاب أو الصحيفة، فالتلاميذ و الطلبة وهم من سيصبح أساتذة وأطر الغد لا يتدربون على القراءة ولا يرافقون الكتاب، فالوسط وسط غير قارئ ولا يشتري الكتاب الا إذا كان مفروضا في المنهاج وحتى في هذه الحالة فإن الاستعارة أو التصوير يقومان مقام الاقتناء أو الشراء، لقد مضى الوقت الذي كانت فيه الدور و المنازل في العالم العربي والعالم الإسلامي تحتفل بالكتاب قراءة ونسخا وشراء ووقفا فمن ألف كتابا أو أعجبه يقتنيه لنفسه أو يستنسخه ثم يفعل نفس الشيء لوقف الكتاب على مسجد أو زاوية أو مدرسة لقد قضى ذلك الزمان الذي قال فيه القائل: اعز مكان في الدنى سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب لقد كان جهاد السيف والقلم توأمين، وكان العمل الفكري والمقاومة الميدانية متلازمين ويوم أضعنا الكتاب واضعنا العلم والفكر أضعنا معه النضال و الجهاد و المجاهدة لقد كانت حضارتنا حضارة علم وأدب وفكر فهي حضارة «اقرا» والقراءة قبل كل شيء ومع كل شيء وبعد كل شيء، كان علماؤنا يقرأون وكان تجارنا يقرأون وكان مجاهدونا يقرأون، كان الكل يقرأ وانك لتعجب لأناس يتحدثون عن ابن رشد وعن حداثة فكره وقدرته على استيعاب الأفكار وهضمها واستحالتها فكرا جديدا إبداعا وخلقا، وتجد آخرين يهتمون بابن تيمية وقدرته العلمية الفائقة وإنتاجه الغزير مع الدقة والأصالة ثم لا تجد أولئك الرشيدين يتيحون لأنفسهم فرصة القراءة والمتعة الا في حدود كما تجد الآخرين يفرون من قراءة مخالفيهم شكلا وليس في الجوهر أو المضمون فهم لا يقوون على قراءة لاشاعرة مثلا ليلا تفسد عليهم قناعاتهم وان تكن معوجة، ولو سجن ابن رشد نفسه في قراءة معينة وفي موضوعات محدودة ما كان ليكون هو ابن رشد الطبيب الفقيه الأوصولي الفيلسوف ولاستحضار كيف كان الرجلان ابن رشد وابن تيمية مولعين بالقراءة فإن التاريخ يحدثنا ان الأول ما ترك القراءة والكتاب في حياته إلا ليلة واحدة وهي ليلة البناء على أهله أو ليلة (الدخلة) بتعبير إخواننا المصريين، اما ابن تيمية فلشدة شغفه بالقراءة كان إذا ادخل الكنف قال لأحد طلابه اقرأ لي وأنا أسمع حتى اخرج هكذا كان شغف هؤلاء الناس بالكتاب وهو ما أهل المسلمين لاحتلال المكان الذي احتلوه في الحضارة والعلم والثقافة . ولا أتحدث عن الجاحظ الذي دفع به حبه للكتاب والمعرفة إلى أن يسقط ميتا تحت ركام المجلدات التي يشتغل بها وعليها و قبل ذلك كان يتضور جوعا أثناء التعلم حتى قيل ان أمه كانت تضع له على الخوان آنية فيها كراريس وتقول له هذا غذاءك وتجده مع كل ذلك ومن أجل ذلك يتحدث عن الكتاب حديثا ممتعا. فالكتاب كان حداثيا أو تراثيا يكون كتابا هاما وممتعا إذا كان على غرار ما وصف به الجاحظ أحد كتبه حيث قال: وهذا كتاب تستوي فيه رغبة الأمم، وتتشابه فيه العرب والعجم، لأنه وإن كان عربيا أعرابيا، وإسلاميا جماعيا، فقد أخذ من طرف الفلسفة، وجمع بين معرفة السماع وعلم التجربة، وأشرك بين علم الكتاب والسنة، وبين وجدان الحاسة، وإحساس الغريزة. ويشتهيه الفتيان كما تشتهيه الشيوخ، ويشتهيه الفاتك كما يشتهيه الناسك، ويشتهيه اللاعب ذو اللهو كما يشتهيه المجد ذو الحزم، ويشتهيه الغفل كما يشتهيه الأريب، ويشتهيه الغبي كما يشتهيه الفطن. (ص 11 الجزء 1.) وقال في الذين يعيون الكتاب لسبب أو لأخر كما يفعل الحداثيون أو التراثيون وهذا كتاب موعظة وتعريف وتفقه وتنبيه. وأراك قد عبته قبل أن تقف على حدوده، وتتفكر في فصوله، وتعتبر آخره بأوله، ومصادره بموارده، وقد غلطك فيه بعض ما رأيت في أثنائه من مزح لم تعرف معناه، ومن بطالة لم تطلع على غورها، ولم تدر لم اجتلبت، ولا لأي علة تكلفت، وأي شيء أريغ بها، ولأي جد احتمل ذلك الهزل، ولأي رياضة تجشمت تلك البطالة، ولم تدر أن المزاح جد إذا اجتلب ليكون علة للجدِّ، وأن البطالة وقار ورزانة، إذا تكلفت لتلك العاقبة. ومرة أخرى رحم الله الجاحظ حيث قال في الذين يعيبون الكتاب من حيث هو لأنه لا يحقق لهم رغبة ولا يدخل إلى جيوبهم مكسبا وإلى مناصبهم ترقية ولا إلى أرصدتهم ما ينميها ويرفع رقمها قال: ثم لم أرك رضيت بالطعن على كل كتاب لي بعينه، حتى تجاوزت ذلك إلى أن عبت وضع الكتب كيفما دارت بها الحال، وكيف تصرفت بها الوجوه. وقد كنت أعجب من عيبك البعض بلا علم، حتى عبت الكل بلا علم، ثم تجاوزت ذلك إلى التشنيع، تم تجاوزت ذلك إلى نصب الحرب فعبت الكتاب، ونعم الذخر والعقدة هو، ونعم الجليس والعدة، ونعم النشرة والنزهة، ونعم المشتغل والحرفة، ونعم الأنيس لساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والدخيل، ونعم الوزير والنزيل. والكتاب وعاء ملىء علما، وظرف حشى ظرفا، وإناء شحن مزاحا وجداًّ إن شئت كان أبين من سحبان وائل، وإن شئت كان أعيا من باقل، وإن شئت ضحكت من نوادره، وإن شئت عجبت من غرائب فرائده، وإن شئت ألهتْك طرائفه، وإن شئت اشجتْك مواعظُه. ومن لك بواعظ مله، وبزاجر مغر، وبناسك فاتك، وبناطق أخرس، وببادر حار. هذه خواطر ساقنا اليها الحديث عن الكتاب ومعرضه واما الكتاب الذي أريد أن أحدث القراء حوله اليوم فهو لكاتبة أديبة وباحثة فريدة آتاها الله ايمانا فهي تكافح من اجل صيانته وحمايته وحيث انها بنت نشأت في مدارس البعثة الفرنسية بمصر ونالت شهاداتها وألقابها العلمية في اللغة الفرنسية والحضارة الفرنسية وهي قائمة بتدريسها في جامعة القاهرة، وسبق لي الكلام عن كتابها حول نقد ترجمة القرءان لجاك بيرك والكتاب بعنوان (ترجمة القرءان إلى أين وجهان لجاك بيرك) حيث فضحت أساليب التلاعب والتزوير التي قام بها هذا المستشرق المراقب المدني ببلادنا سابقا وكان نقدها دافعا لتهيئ التقرير العلمي والفني الذي هيأته جامعة الأزهر حول تلك الترجمة وفي سياق الدفاع عن عقيدتها وإيمانها بدينها الإسلام كتبت مجموعة قيمة من الكتب منها: (الفاتيكان والإسلام) (هدم الإسلام بالمصطلحات المستوردة) (حرب صليبية بكل المقايس (محاصرة وإبادة: موقف الغرب من الإسلام) (تنصير العالم). ولا يمكن في هذه العجالة حصر مؤلفاتها ولكن تبقى الإشارة إلى أنها أول امرأة مصرية في التاريخ تترجم معاني القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية ولعلها ان تكون المرأة المسلمة الأولى إن لم تكن الوحيدة، وهي كما تقول أول ترجمة نقية ومنصفة للكتاب العزيز وصدر الكتاب عن جمعية الدعوة الإسلامية في ليبيا 2002. الغزو الفكري وانعدام الهوية وهكذا فنحن نرى ان هذا الكتاب الذي استكملت باقتنائه التوفر على باقة من كتب هذه المرأة العاملة في حقل الدعوة وجهاد الكلمة والتي تسجل في تاريخ الفكر الإسلامي انها من النساء العالمات الفضليات اللواتي آتاهن الله علما وبسطة في الفكر وتزود من لغات الغرب بما يكفي من المعارف في الذوذ عن القيم الإسلامية وعن ارض الإسلام التي ابتليت في هذا الزمان وأصيبت بما لم تصب به من غزو فكري وانهزام نفسي لدى جزء كبير ممن يحسبون على الثقافة والمعرفة لقد كان المفروض ان تقع هذه المرأة ضحية تلك الأسلاك الشائكة التي قرر دهاقنة الاستعمار ان يضعوا أبناء الأمة الإسلامية داخلها وان تتم عملية المسخ في حدود تلك الأسلاك التي هي أسوار المدارس الاستعمارية التي أنشأها الاستعمار في البلاد الإسلامية و قرر ان أسلاكها شائكة ومانعة للناشئة بين جدرانها ان تكون نفسها أو ان تكون غيرها بمعنى انها لا تكون على شكل الإنسان الأوروبي لأن الأوروبي لا يريد ان تكون له ندا فهو في هذا الجانب فرعوني النزعة «انا ربكم الأعلى» ولكنه كما قرر (شاتليو) في (غارته) على العالم الإسلامي يجب ان يبقى المسلم إنسانا ممسوخا لا هو أوروبي ولا هو مسلم ولا هو مسيحي أي إنسان بدون هوية وهو مع كامل الأسف ما وصل إليه فنحن في المغرب مثلا نعيش بدون هوية فلا نحن فرنسيون لغة ولا نحن عرب لغة ولا نحن امازيغ لغة ولكننا من بقايا برج بابل حيث تبلبلت الألسن عند سقوطه كما تقول الأسطورة فالزائر لبلادنا ولإدارتنا يستغرب من وضعنا ومن بقائنا بدون هوية محددة في زمان تتناسق فيه جميع الأمم والشعوب لصيانة هويتها والحفاظ عليها، والفضل كل الفضل فيما نحن فيه يرجع إلى تلك الخطة المعبر عنها في الغارة والمبنية على الأسلاك الشائكة ورحم الله الشهداء الأبرار والمجاهدون الأحرار الذين قاوموا تلك الأسلاك ولم تهزمهم ولكننا نحن هزمنا جنود ذلك السجن ذي الأسلاك الشائكة أو المدرسة الاستعمارية. ونعود للكتاب الذي نريد الحديث عنه فهو يحمل عنوان من حائط البوراق إلى جدار العار ولاشك أن القارئ من العنوان يدرك أن الكاتبة تتحدث عن ذلك الجدار الذي أقامه الصهاينة في فلسطين في السنوات الأخيرة لسجن الفلسطينيين وفصل قراهم ومدنهم بعضها عن بعض وللسطو على جزء مهم من الأرض الفلسطينية وهو ما سنتحدث عنه في الحديث المقبل بحول الله.