بقلم: حمزة البحري تنوعت كتابات الأديب والمفكر محمد صادق الرافعي بين ما هو شعر ونثر ونمادج أدبية فبدأ بديوان الشعر وانعرج لتاريخ آداب العرب ثم عرج لإعجاز القرآن والبلاغة النبوية، فعرف الحب وأبدع في ذلك فغاص في جواهر المعاني الضارب على أوتار مثالثها والمثاني. وقال إن هذا الحب يحوّل المرّ حلواً، والتراب تبراً، والكدر صفاء، والألم شفاء، والسجن روضة، والسقم نعمة، والقهر رحمة، وهو الذي يلين الحديد ويذيب الحجر، ويبعث الميت، وينفخ فيه الحياة، ويسوّد العبد، و هو الجناح الذي يطير به الإنسان المادي الثقيل في الأجواء ويصل من السمك إلى السمّاك، ومن الثرى إلى الثريا، وهو إذا سرى في الجبال الراسيات، ترنحت ورقصت طرباً: "فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً". وأضاف أيضا أن الحب غني عن العالمين إن كان الشغف بالمحبوب ونفي ما سواه جنوناً فهو سيد المجانين، إنه ملك الملوك تخضع له أسرة الملوك وتيجانهم، ويخدمه الملوك كالعبيد، وهو كامن كالنار، ولكن الحيرة بادية، ومتواضع ولكن نفوس الملوك الذين يملكون النفوس له خاشعة. وقال إن جميع المرضى يتمنون البرء من سقمهم، إلا أن مرضى الحب يستزيدون المرض، ويحبون أن يضاعف في ألمهم وحنينهم، لم أر شراباً أحلى من هذا السم، ولم أر صحة أفضل من هذه العلة، وأضاف: إنها علة ولكنها علة تخلّص من كل علة، فإذا أصيب بها إنسان لم يصب بمرض قط، إنها صحة الروح، بل روح الصحة، يتمنى أصحاب النعيم أن يشتروها بنعيمهم ورخائهم. وقال إن هذا الحب البريء السامي يصل بالإنسان إلى حيث لا توصله إلا الطاعات والمجاهدات، لم أر طاعة أفضل من هذا "الإثم" عند من يسميه إثماً، إن الأعوام التي تنقضي بغيره لا تساوي ساعة من ساعات الحب. وقال في المحبين، إن المحبين الذين بذلوا مهجهم وأحرقوا قلوبهم لا تنفذ عليهم القوانين العامة، ولا يخضعون للنظم السائدة، ثم إنه يفضل حيرة المحبين على حكمة الحكماء الباحثين، ويحث على الحرص عليها والتنافس فيها، لأن الحكمة ظن وقياس، والحيرة مشاهدة وعرفان، ليس لكل أحد أن يكون محبوباً، لأن المحبوب يحتاج إلى صفات وفضائل، لا يرزقها كل إنسان، ولكن لكل أحد أن يأخذ نصيبه في الحب وينعم به، فإذا فاتك أيها القارئ العزيز أن تكون محبوباً، فلا يفتك يا عزيزي أن تكون محباً، إن لم يكن من حظك أن تكون يوسف، فمن يمنعك من أن تكون يعقوب؟ وما الذي يحول بينك وبين أن تكون صادق الحب دائم الحنين؟، إن لذة المحب لا تعدلها صولة المحبوب، فلو عرف المحبوبون ما ينعم به العشاق المتيمون، والمحبون المخلصون، لتمنوا مكانهم، وخرجوا من صف المحبوبين السعداء إلى صف المحبين البؤساء، ولكن ليس للمحب الطموح أن يشكو قصوره ويحتقر نفسه، متعللاً بسمو المحبوب وعلو مكانته وغناه عن العالمين، فما للتراب ورب الأرباب؟. إن المحبوب الحقيقي هو الذي يحب أن يحب، ويجذب إليه من انجذب، "الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب" يقول مشجعاً: لا تقل لا سبيل إلى ذلك الملك الجليل، فأنا عبد ذليل، لأن الملك كريم، يدعو عبده، ويسهل له السبيل. إن الحب منشؤه انكسار القلب، وجرح الفؤاد، إنه علة لا تشبهها علة، إن علة المحب تختلف عن كل علة، إن الحب اصطرلاب الأسرار الإلهية. إن الحب خالد لا يجدر إلا بالخالد، خالد بكتابات الرافعي فقد أبدع في تصويره وحمله أجمل المعاني وأروعها، إنه لا يجمل بمن كتب له الفناء والأفول، إنه حق الحي الذي لا يموت، الذي يفيض الحياة على كل موجود. إن هذا الحب يجري من صاحبه مجرى الدم يجري مجرى دم الرافعي، فقل ما قرأت كتابا وأحسست أن صاحبه يفيض حبا وأحاسيس يعجز اللسلن عن قولها ويعجز القلم عن التعبير عنها، إن وضع في محله وصادف أهله، فإنه شمس لا ينتابها الأفول، وزهرة ناضرة لا يعتريها الذبول، عليك بهذا الحب السرمدي الذي أبدع الرافعي في تصويره، ويفنى كل شيء، عليك بهذا الحب الذي ساد به الأنبياء وحكموا !