بسم الذي علم الانسان بالقلم من قبل أن يطأ البيداء بالقدم
الحمد لله في سر وفي علن
والشكر لله حال الصحو والسقم
حمدا له خلق السما، برأ الخلائق منعما، حمدا يوافي ذا الكرم، من فضله وذي النعم. وصلى وسلم على المبعوث بالخيرات والرحمات سيدنا محمد : صلى عليه الله ما وطئ الثرى
عبد وما أدى الفريضة مسلم
وصلى على آله وصحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: أعزك الله ورفعك ، وإلى طريق الخير دفعك، وعن السوء وأهله منعك. فلا عدمت رحمته، ولا حرمت جنته، ولا سلبت فضله ومنه وبره ورضاه. قال علي كرم الله وجهه: واحذر مؤاخاة الدنيء لأنه
يعدي كما يعدي الصحيح الأجرب
واختر صديقك واصطفيه تفاخرا
إن القرين إلى المقارن ينسبُ
ودع الكذوب ولا يكن لك صاحبا
إن الكذوب لبئس خلا يصحب
وذر الحسود وإن تقادم عهده
فالحقد باق في الصدور مغيبُ
واحفظ لسانك واحترز من لفظه
فالمرء يسلم باللسان ويعطب
وزن الكلام إذا نطقت ولا تكن
ثرثارة في كل ناد تخطب
والسر فاكتمه ولا تنطق به
فهو الأسير لديك إذ لا ينشب
واحرص على حفظ القلوب من الأذى
فرجُوعها بعد التنافر يصعب
إن القلوبَ إذا تنافر ودها
شبه الزجاجة كسرها لا يشعب
واحذر عدوك إذ تراه باسماً
فالليث يبدو نابه إذ يغضب
لا خيرَ في وُدّ امرىء متملق
حلو اللسان وقلبه يتلهب
يعطيكَ من طرفِ اللسان حلاوةً
ويَروغ منكَ كما يَروغ الثعلب
يلقاكَ يحلف أنه بكَ واثق وإذا توارى عنك فهو العقرَب
وقال آخر: وكل خليل ليس في الله وده
فإني به في وده غير واثق
وقال أبو بكر الخالدي : وأخ رخصت عليه حتى ملني
والشيء مملول إذا ما يرخص
ما في زمانك من يعز وجوده
إن رمته إلا صديق مخلص
أي أخية : حياك الله وأحياك في طاعته، ورضي عنك وأرضاك في ما سألت ورجوت. فقد كان ما كان من الصداقة كما رأيت وسمعت وعشت،إذا يصير من تراه صديق العمر في طرفة عين عدوا دون أن يخبرك، ويتحول من أخ ودود إلى امرئ لا يعرفك، وكأنما كنت مناجزه أيام حرب البسوس. فكان منك ما كان من هم وغم، حتى خشيت عليك من نفسك. وقد كنت قلت في أمر الصداقة والأخوة والمحبة من قبل، فما تهيأ لي أن أقول فيه ما أرى كما أريد وأرتضي. فلما رأيت ما كان عن لي أن أكتب عن ذاك. ومضيت كذا تروادني الأفكار ثم تغيب ، حتى إذا صليت الصبح وأنهيت أمرا كنت أدرسه وأقيد شوارده وأنتقي جواهره وقلائده طيلة الليل، فزعت إلى القلم، وحملته فلم يكن الأمر إلا أن سال مداده على أوراقي، وانطلق يخط والعقل يملي حتى كان هذا الذي ترين.
أما بعد: فإني تأملت في الصداقة والأصدقاء، ورأيت من الناس ضروبا وأصنافا، كلهم يدعي أن الصداقة ما يرى، و أن ليس في الأمر إلا ما يقول ويعتقد. ولكن الناس أنواع وأشكال مختلفة متنوعة. فوجدت أن جوهر الأمر كله في مسمى الصداقة وما تعني لكل صنف من الناس، لأنه إذا اتفقنا على تعريف معين ، فمن البديهي أن نتفق أيضا على الشكل والمتن. وإن اختلفنا ، فلن نزيد على أن نكون على طرفي نقيض، كل يغني لليلاه، ولا يبصر غيرها، ولا يرى أبعد من أنفه. ونظل على أمرنا متوهمين أننا نختلف، وإنما الجوهر أننا لم نحدد بعد الموضوع الذي سنعالجه فنتفق أو نختلف. فاعلمي أن الصداقة عندي مصافاة و ارتقاء بين النفسين في علاقة أحدهما بالآخر بشكل يتفاوت من صداقة إلى أخرى. وإذا كان هذا فلا بد أن نفرق في هذا بين الصداقة والمرافقة والمصاحبة، فالرفيق والصاحب في السفر، كلاهما تنقضي علاقتنا بهم إذا انقضت الدواعي، وتنتهي العهدة إذا وصلنا المبتغى. أما الصداقة فهي علاقة ذات بداية ثم لا تنتهي، لأنها تنمو وتتشعب وتسمو حتى تبلغ عنان السماء، حتى إذا مات أحد الصديقين، لم يتوقف النبض بل يزداد . لأن الراحل يكون قد ترك في ما ترك لأبنائه الوفاء لصاحبه، والسير على خطى مرسومة لا يزيغ عنها إلا ظالم نفسه، أو من لا يقدر حق الصداقة. وهذا الأمر قد تبلغه المرافقة والمصاحبة إذا كان العهد على السير في الحياة إلى آخر أيامها ، لكنها علاقة غير مورقة، وغير مورثة، تزول بزوال أحد أسبابها. وإذا عرفت هذا، فاعلمي أن الذي أعني من الصداقة لا فرق بينه وبين المؤاخاة، و أن هذه إذا كانت في عظيم بلغت عنان السماء واستمتع بها الطرفان في الدنيا والآخرة. وليس ثمة شيء أكبر من المحبة في الله والمؤاخاة فيه. وما أحلاها إذا تذوقت، وما أعذبها إذا تمشت في العظام وفي المفاصل، وما أبقاها وأدومها، لأنها لا تقوم على شيء من متاع الدنيا الفانية، إنما تقوم على الفضيلة. و تقوى كلما ارتبط طرفاها بالله تعالى، فيرتفع المتحابان عن مرتبة البشر، ويصيران في رتبة أعلى. فإذا رأيتهما رأيت مخلوقين من نور يمشيان على الأرض، فما تشك أنك ترى رجلين من أهل الجنة.فما تملك إلا أن تغبطهما على النعيم الذي يترفان فيه فيه في انتظار نعيم الآخرة. ثم ما تشك في أنهما لم يخلقا كما خلق سائر الناس لمتحنا ويبتليا؛ إنما أرسلا إلى الدنيا ليتعلم الناس منهما كيف الحياة في الجنة، وكيف الأخلاق وكيف السعادة. ولست أزعم أن كل صداقة هكذا، وإلا لكان الناس في الدنيا معروفين ، أمن أهل الجنة هم، أم من أهل السعير. وهناك أنواع أخرى مما يسمى صداقة، وما هي منها إلا بقرابة الاسم، وإلا فهي أبعد منها بعد الشمس عن أرضنا. ولا مناسبة بينهما، ولكنها تعمي علينا الحقيقة فلا يبصرها إلا قليل من الناس، وتوهم الناس كي لا يظهر أهل الخير إلا لماما ، ويختلطوا بالأشرار فلا تكاد تفرق، لولا أن السيماء توضح لذي النور في قلبه، حتى ليرى الخيِّر مكتوبا على جبينه: خَيِّر ، والشرير محفورا في جبهته: شرير، فما تراه إلا رأيت رجلا من أهل النار. وإن من فضل الله علينا أن قلة قليلة من الناس من يدرك هذا وإلا لصرنا في دنيا لا وقت فيها لأحد، ولا مكان فيها للراحة، إن أدرك المرء أنه هالك ، أو عرف آخر أنه ناج ، فتزول مهمة الإنسان في هذه الدنيا. فمن الصداقة – في زعم البعض، ولو عرفوا ما الصداقة ما سموا أمرهم كذلك - ما يبنى على اللذة والمتعة، فما تستمر إلا بقدر استمرار سببها فإذا انقضى زالت الصداقة. فالواحد منا يرى المرء فيعجبه جماله فيتعلق قلبه به، ويحدث نفسه أنه يحبه، فيتقرب منه وينشئ علاقة بينهما تبدو من ظاهرها قوية جذابة، لكنها جوفاء لا خير فيها. فإذا حدث محبوبه أقسم أن ليس في الأرض مثله، وأن خليله نسخة فريدة في الوجود لن تتكرر، وأنه يملك عليه قلبه وجوارحه، ويسكن كيانه فما يستطيع أن يفارقه، لأنه لو فعل لأودى به الشوق، ويظل يظهر له ويوهم نفسه أيضا أنه سيفديه بنفسه لو اقتضى الأمر، وأنه مستعد ليضحي من أجله حين الشدة. فينخدع المحبوب ويسقط بين يدي محبه ظانا أنه لا يمكن أن يكذب عليه وعلى نفسه، لأن أثر ما يقوله يظهر في وجهه جليا، فإذا نظرت رأيت عاشقا ولهانا يكاد من الغرام يذوب. وما به إلا أنه يعشق جمال محبوبه لا شخصه، ويسكنه حب وجهه لا قلبه، ولا يستطيع مفارقته لأن شهوته لا تسكن إلا إذا أخذت من المحبوب ما تريد قولا وفعلا. ولكن هذا المحب نفسه لا يدري أنه يكذب، لأنه يظن نفسه مصيبا، وما هو إلا مصيبة تمشي على الأرض كما يمشي البشر. فما بني على شهوة انقضى بانقضاء الشهوة. ومن هذا الذي يسمونه صداقة نوع آخر لا يقل عن سابقه فضلا، ذلك ما بني على مصلحة في سبيلها يتذلل المرء ويظهر الود والأخوة، وينفق من ماله ووقته وكلامه بقدر ما يريد ، وبقدر ما يطلب، إنه يصير امرءا صالحا إن كانت مصلحته في يد عالم داعية، ويصير طالحا إن كان ما يريد في فاسق، فيصبح في اليوم مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي كافرا، فيصبح منافقا.وما ذاك من فتنة آخر الزمان ، وكثرة الشر وغلبته، ولكنه الفتنة نفسها. فهو يوهم نفسه أن الذي يقوم به شيء طبيعي لا نفاق فيه ولا فسوق. ويظهر من نفسه ما يريد أن يراه منه من يطلبه لمصلحته، ولو انكشف عن حقيقته لبدا ثعبانا يستدرج فريسته، حتى إذا قضى منها وطره، انسل كأن لم يكن يعرفها من قبل. وهذه الأصناف كلها تتزيى برداء الصداقة، فما تعلم الصادق من الكاذب، والوفي من الخائن إلا بمشقة الأنفس. وإنك لترى ممن حولك وجوها لا تدري فيها من يحبك ممن يبغضك، ومن يجلك ممن يستغلك، ومن يريد لك الخير ممن يسعى ليوقع بك، ثم لا تملك إلا أن تنتظر وتختبر، فإذا جاء اليوم الذي تعرف فيه أحدهم، زادك ثقة في الآخرين أو شكا. لأنك إن رأيت منه الخير وثقت وقلت : ما ينبغي أن يكون هؤلاء يسعون إلا لما يسعى إليه هذا. وإن رأيت منه ما يسوؤك، شككت فيهم جميعا، وقلت: ما يكون أمر هؤلاء إلا كأمر هذا. ولكنهم لم ينزعوا عنهم رداء الشر بعد فينكشفوا. فتسود الدنيا في عينيك وتود لو خُلقت شيئا آخر لا يحس، فلا تحمل هما ولا يحمل عليك أحد ضغنا. ولكن الدنيا هكذا. ثم إن الناس في اختيار أصدقائهم لأنواع، فمنهم من يقبل من هب ودب، ومنهم من لا يصادق واحدا حتى يطوف الدنيا سائلا عنه، باحثا عن سيئاته قبل حسناته. وكلاهما لا يحسن أن يختار ولا يستطيع أن يجد الصديق إذا طلبه كما يريد. وإن العاقل لرجل لا يشك في أحد من مقربيه، ولكنه لا يثق إلا في من خبره، وعرف صدقه. لأن مناط الصداقة كله الثقة المتبادلة، فإن بدأ الشك فتلك بداية النهاية. ولكن العاقل قبل أن يدخل في تلك الصداقة يرى المرء فيحذر منه، ثم لا يظهر له أنه غير واثق به، ولا يظهر أنه واثق به تمام الثقة. لأنه إن فعل لم يعد أن يكون منافقا. فمن الناس من صادق على غير هدى، حتى إذا ظهر له من صاحبه شيء منكر صعب عليه أن يستسيغ الأمر، وشق عليه أن ينسى ما كان من ود بينهما- ولو تأمل لرأى أن الأمر كله لم يكن صداقة، إنما كان شيئا آخر- وصار يأتيه صاحبه في أحلامه، ويظن بنفسه الظنون أن يكون فهم صاحبه على غير الحقيقة فيخطئ في حقه. وهو في ذلك يحس بما جناه الآخر، وعظيم ما فعل به، وأنه شيء لا يغتفر. فما يزال مترددا يقدم رجلا ويؤخر أخرى في أمر لو بدأه سليما ما انتهى إلى تلك الحيرة. وإن المرء ليصادق، ثم يفرق الزمان بينه وبين صاحبه، فيكون في حيرة من أمر تلك الصداقة، أ يمسكها على هون أم يدسها في التراب؟ وإن من الأصدقاء من يعرف بسرعة وينسى بسرعة، ومنهم من تعرفه على مهل حتى إذا أردت أن تنساه يتطلب منك الأمر مدة لتسلو عنه، ومنهم من لو جاهدت نفسك وأرغمتها على نسيانه ما فعلت، فذلك الصديق، وذلك الأخ الذي إن أردت أن تسلو عنه فلم تستطع، فاعلم أن المخطئ أنت. و مقام الأصدقاء من القلب في مراتب، فمنهم من يقيم على الشغاف لا يبرحه، وآخر في مجرى الدم يدفع من القلب ثم يعود ليدفع من جديد، ومنهم من هو من القلب ركن إن فارق الجسد فارق المرء مع فراقه الحياة. فهذا هو الأخ وهذا هو الصديق حقا. فإن وضعت الكل في مرتبة واحدة إن حبا أو كرها،لم تأمن أن تفقدهم جميعا أو تفقد حياتك إن كانوا من قلبك في مأمن. فأما الذي على الشغاف فهو رب المتعة ورب المصلحة، مهما ارتفع أمره فلن يدخل القلب، ومهما حاول أن يوهم أنه يستحق لم يقبل، لأنه جنس غريب عن هذا الفؤاد، وأما الذي يجري في الدم فخل لا غنى لك عنه، خلق ليصحبك شئت أم أبيت، فهو كالغذاء لا غنى لك عنه، ومع ذلك فربما كان فاسدا فأفسد عليك جسمك وعرضها للسقم، ولكنه يقضي حاجياتك، لأنك تعرفه ويعرفك ليس صدفة، بل لأنك خلقت معه ونشأت معه، وأنت تراه كل يوم، ولكنهم كثر، فربما دفع الدم يوما في العروق، فجرح المرء في يده أو رجله، فنزف الدم و كان ممن خرج. فما تأمل أن يعود، وما تأسف عليه كثيرا إلا بقدر ما تحس بالألم الذي صاحب خروجه، ولكنه سرعان ما يندمل الجرح فيرجع كأن شيئا لم يكن.وأما الذي هو من القلب ركن، فذاك الذي يفني عمره من أجلك وتفني عمرك من أجله، وإذا شكوت يوما شكا، أو بكيت بكا، أو مرضت كان لك يدا تحن عليك ويجاهد ألا يأتي الوهن من تلقائه. فذاك الصديق الصفي الوفي والأخ الذي يصلح لك وتصلح له. وذاك لا يمكن أن تنساه يوما لو حدث بينكما ما يتوجب التفكير في السلو عنه، إلا أن تفكر في أن تفارق هذه الدنيا. لأنك به وهو بك. وإذا كان حبك على النحو الذي قلنا في الصداقة الحقة، فإنك تلمس ذلك من نفسك إذا رأيت صاحبك أو فارقته، إنك تحس أنه صورة لك تراها في عالم الناس، صورة ترى فيها نفسك بكل صفاء ونقاء، لا شيء يكدر عليك ذلك الصفو، فإذا فارقته حسبت قطعة من جسدك قد نزعت منك، فما تملك إلا الجزع. ثم إنك لا تحب في صديقك ذاك جمال وجهه، أو ماله أو حسبه. فكل ذلك أقنعة، لا تزيد حقيقة المرء إلا غموضا و إبهاما. إنما الجمال قلبه الذي تراه قلبك وعقله الذي لا تشك أنه عقلك، فإن ضم إلى ذلك كله جمالا في الصورة وفتنة في الخلق كان أحرى أن يحب أكثر فيصير الجمال جمالين؛ ظاهرا وباطنا ، فيزداد أخوك جمالا في فؤادك على ما هو عليه من قبل. وليس ثمة شيء أحسن من أن تجد الخيرين مجتمعين في إنسان واحد، وما أقل من هو جميل القلب وحده، أما الاثنين فشيء نادر إن وقع عليه المرء فقد اكتشف كنزا عليه أن يظفر به قبل أن يشاركه فيه أحد. وإنما يضل من أحب الظاهر فشغله عن الباطن، حتى إذا خبره وجده خربا لا طير يشدو به ولا فنن يعجب منه ولا ثمر . فما يزيد على أن يكرهه، فيسقط من عينيه ، ولكن بعد أن يكون قد علق به، فيصبح غير مستطيع فراقه ولا العيش معه، فكأنه مات قبل أن يأتي الأجل. فإذا رأيتهما لم تر غير تمثالين لا يملكان لنفسهما ضرا ولا نفعا، وقد أثرت فيهما حوادث الدهر ونوائبه، ويستمران كذلك رغما إلى أن يهلك أحدهما فيذوى الآخر بعده ليموت أكثر من مرة قبل ا، يلقى مصرعه. فإن رأيت أن لا تغتر بالمظهر فافعل، فإنه ليس يغني عن الباطن شيئا، وإن الظاهر ليراه الجميع كما تراه، ولكن الباطن إن خرب فما يراه غيرك. وإنك لا ترى في الذي تحب إنسانا كما يراه غيرك، إنما هو ملك أو حور إن كانت أنثى عجلها الله لك في الدنيا، فما تحب أن ترى منه إلا الخير. وتريد منه ألا يكون كغيره يعرف الشر والخير، فإنك لا تريده إلا للخير وللخير فقط. فإن بدر منه ما لا يرضيك قلت في نفسك: لا حول ولا قوة إلا بالله ، قد تحول إلى بشر. ثم تنتظر منه أن يرتفع من جديد. فيرى منك أنك تقسو عليه ، وما بك إلا أنه يشق عليك أن تراه بشرا بعدما كان ملكا. و ما يرقى كل صديق محبوب لهذه الدرجات، إلا بحبل من الله وسنته، وإلا فلن يعدو أن يكون - إن لم يكن الله ناصره – امرءا عاديا أحب وصادق فارتفع في نظر محبوبه، ولكنه عند الله وعند الله وضيع. أما من أحب في الله ولله فإنه ما يزال يعلو في نظر محبوبه وفي نظر الناس من حوله، وهو عند الله وجيه قد نادى ملائكته إني أحببت فلانا فأحبوه، فيحبه من السماوات ومن في الأرض. وما المتحابان في الله إلا رحمة من رحمات الله نزلت على الناس ليروها يتأملوا رحمة الله كيف هي. فهما يعيشان في جنة على الأرض، فإن غفل أحدهما عن الله ذكره الآخر، وإن فتر أيقظ فيه العزم والهمة من جديد. وإنها لصداقة وأخوة ومحبة تدوم أبدا لا يقطعها الموت إلا ليبدأها على نحو جديد لا يبلى ولا يفنى، ولا يقطعها إلا ليوزع تلك الرحمة على قلوب العباد ممن هم أحق بالإرث إذا مات المحب، فتصبح صدقة جارية، فيصبح الميت كأن لم يمت، لأن خيره مستمر والثواب يأتيه من كل جانب، وهو آمن في جنب الله ، لأنه أمن الفزع يوم يفزع الناس، وأمن حر الشمس يوم تقترب من رؤوس العباد. فهو في ظل الرحمن ينتظر خليله ليلحق به حيث الأخلاء بعضهم لبعض يومئذ إلا المتقون فينعما. ألا إن الحب ذاك، وإن العشق في هذا، وإن الصداقة إن لم تكن من هذا الصنف كانت بلاء. فيا ليتنا نحب بعد أن نعرف ما هو، ونصادق على علم ليستمر الخير والفضل في هذه الأرض ما دامت السموات والأرض. وإني لأرى في الناس ملائكة تمشي في أثواب بشر، فما أملك إلا أن أدعو أن أكون منهم ، أو أن أتقرب منهم عل رحمة الله تطالني إذا صار في الناس شقي وسعيد. فيا ليت قومي يعلمون. هذا وإن ذا الحديث، ليس يكون قد بلغ ما في نفسي، ولكنه يبلغ بعضه على الأقل. وأرجو أن يبلغ من نفسك ما يكون جديرا بأن يخفف عنك شيئا مما تحسيه بسبب ما حدث. وإن للحديث بقية، ولكل كلمة أثر ، فانتظروا وإني لمنتظر .