يخوض عمال المناجم التقليدية ببني تجيت رحلة مغامرة خطيرة من أجل كسب قوت يومهم، بعدما ألفوا العمل بجبل «بوظهر» الذي لم ينضب معدنهمنذ عهد الاستعمار. كل من ليس له تجربة سابقة في الدخول لمنجم أشبه بمغارة حالكة الظلام، سيتملكه الرعب والخوف إن هو رغب في الولوج . وحدهم رجال المنطقة والضواحي الذين يعملون داخل المنجم يدخلون دون أن يتسرب إليهم إحساس الخوف، لكنهم يدعون الله أن يعودوا سالمين إلى أسرهم في آخر كل يوم. استمد اسم بني تجيت، وهي جماعة قروية تابعة لإقليم فكيك، من اسم القصر الذي يوجد عند قدم جبل بوظهر، وهناك رواية تقول إن بعض السكان كانوا منشغلين ببناء القصر فإذا ببقرة تائهة أمامهم، فكان أحدهم يرغب في استعادتها فقال كبيرهم «بني تدجيت» أي «ابن واتركها»، ولعل أصل التسمية ينطبق على سكان المنطقة، الذين ترك عدد منهم مع توالي السنوات العجاف تربية الماشية واستقروا بالقرب من جبل بوظهر، الذي يعتبر خزانا لمعدن الرصاص والزنك، ومن أمثال هؤلاء السعيدي بوعلام، أحد سكان المنطقة، الذي كانت مهنته تربية الماشية ليتحول إلى «مياوم» داخل المنجم، فكان قدره أن توفي إثر حادثة داخل المنجم، فترك أرملته ميمونة الرحاوي رفقة أربعة أطفال. تردد على المحاكم تضطر ميمونة الرحاوي في الساعة السادسة والنصف من كل يوم إلى التوجه نحو جبل بوظهر، وهي تحمل زادها من الخبز والشاي. تمشي زهاء ساعة من أجل الالتحاق برفيقاتها لتمضي ثمان ساعات من العمل في تنقية الرصاص من التراب، مستخدمات مطارق تزن كل واحدة منها حوالي كيلوغرام. لم تكن ميمونة تعرف طريق المنجم إلا بعدما توفي زوجها السعيدي بوعلام نتيجة حادث منجمي وقع يوم 16 أكتوبر من سنة 2007. لم تقترح شركة التأمين أي تعويض لها، مما جعلها تعرض قضيتها على المحكمة التي لم تبت في الملف لحدود لقائنا بها بصفة نهائية. ما زاد من معاناة ميمونة هو تحمل مصاريف التردد على المحكمة الابتدائية ببوعرفة، التي تبعد بما يزيد عن 200 كليومتر من بني تجيت، وبعدما أصدرت حكمها الابتدائي قامت شركة «كاديطاف» باستئناف الحكم، وهو ما يتطلب التنقل إلى مدينة وجدة من أجل مواكبة أطوار القضية. وقد قضت المحكمة الابتدائية يوم 28 دجنبر من سنة 2009 بأداء المدعى عليها إيرادا سنويا قدره 6574 درهم، وبالنسبة للأطفال الأربعة أداء إيراد عمري سنوي قدره 10 آلاف و975 درهما، إضافة إلى المصاريف الطبية والجنازة وقدرها 18 ألفا و100 درهم. ومازالت الأرملة تنتظر توصلها بمستحقاتها، وهي تعيش ظروفا صعبة من أجل تأمين مصاريف أولادها، وزاد من حجم معاناتها ظروف السكن الصعبة، فمنذ مدة فقط تركت بيت قريب زوجها، الذي كانت تسكنه مجانا بعدما رغب في السكن به، لتكتري بيتا متواضعا بمبلغ 200 درهم. لم تكن ميمونة المرأة الوحيدة التي دفعتها الظروف إلى الخروج إلى العمل بعدما كان عملها يقتصر على عمل البيت، فهناك نساء أخريات مثل التالية، امرأة في عقدها الخامس، التي بدأت تعمل «مياوم» منذ سنة مقابل 30 درهما في تنقية معدن الرصاص بعد وفاة زوجها. استغلال بشع تلتحق ميمونة كل يوم بعملها في أكبر منجم بالمنطقة، لتعمل إلى جانب حوالي خمسين امرأة، حسب قولها، وزادهن اليومي هو «الخبز والشاي»، تعاني هذه المرأة إلى جانب نساء أخريات من أمراض تنفسية ناتجة عن طبيعة العمل. إن كان حظ هذه المرأة العمل بالجبل، فهناك نساء يعملن داخل منازل أشبه بمخازن، كما هو حال خمس نسوة لا تظهر من وجهوهن إلا العيون، ويضعن قفازات تبدي أصابعهن الخشنة. تعتبر هؤلاء النسوة ظروف عملهن الأفضل مقارنة باللواتي يعملن في الجبل، فهن على الأقل لا يقطعن مسافة أطول، علما أن المقابل الذي يتقاضينه واحدا هو «30 درهما». تعمل ليلى تسع ساعات متواصلة ولها الحق في نصف ساعة للغداء. هذه الشابة شرعت في العمل منذ أن كان سنها 15 سنة. تقول ليلى إن «المرأة في هذه المنطقة مهمشة وتعيش ظروفا صعبة، وهو ما يجعلها تعمل ساعات طويلة مقابل الحصول على مصاريف تساعد أسرتها». وفي الوقت الذي نجد هؤلاء النسوة يفترشن بعض الأسمال البالية وهن منهمكات في تنقية الرصاص من التراب، هناك نساء أخريات يجتهدن في وضع كل أنواع الزينة، ومنها الكحل الذي تسهر العاملات على تنقية الحجر الذي يحتوي على أصل الكحل «الرصاص». وترصد الجمعية المغربية لحقوق الإنسان ظروف اليد العاملة في المناجم، خاصة النساء، إذ يقول إدريس بوسنينة، رئيس فرع الجمعية ببني تجيت، «إن النساء بالمنطقة يتعرضن لأبشع استغلال، وضمنهن قاصرات، لأنهن يعملن في ظروف تغيب فيها أدنى الضمانات الصحية وفي تغييب تام لتطبيق مدونة الشغل».يشتكي الصناع المنجميون من ارتفاع تكاليف استخراج المعادن المتعددة والمتنوعة، إضافة إلى أن المحصول يباع بأقل ثمن، وهو ما يؤدي إلى خسائر خاصة في مجال الرصاص، الذي يعرف ثمنه انخفاضا على المستوى الدولي. بدون تغطية صحية توجد عدد من المناجم الصغيرة ببوظهر، وهي عبارة عن حفر داخل الجبل، وتتنوع ما بين مناجم أفقية وأخرى عمودية. هذه الأخيرة أقل خطرا لأن الولوج إليها يتطلب مسيرة 800 متر عبر عربة صغيرة ذات عجلات يسوقها أحد العمال. المنظر أشبه بنفق مظلم وحتى وسائل الإنارة ما زالت تقليدية، أما المناجم العمودية، فإن الدخول إليها يتطلب النزول عبر حبل في مكان أشبه بالبئر يبلغ طوله حوالي 40 مترا ثم الدخول حوالي 40 مترا. يبدأ العمل من أجل استخراج المعادن بشكل يدوي عبر حفر أماكن ووضع المتفجرات، وبعد ذلك يتم نقل ما استخرج من الجبل خارجا لتتم عملية تنقية المعدن. تعرف المتفجرات حراسة مشددة، فهناك شخص واحد هو المكلف بها في كل منجم. كما يمنع حضور عملية استعمال المتفجرات على باقي العمل، كما أن دخول المرأة إلى هذه الأماكن ممنوع، ويقتصر ذلك على الرجال، الذين يتقاضون ثمن عملهم في الداخل ما بين 50 و60 درهما، في حين يتلقى العمال خارج المنجم أقل من خمسين درهما عن كل يوم عمل. «قدور» رجل في سن الستين تبدو عليه علامات الإجهاد والإرهاق بسبب عمل مضن يتلقى مقابله 40 درهما مقابل ثمان ساعات من العمل. لا يرتدي خوذة مثل مثل الباقي لتحميه من كل خطر محتمل. يبدو المسكين، غير قادر على نقل ما يستخرج من المنجم، لكن الرغبة في الحصول على دراهم لتأمين قوت أسرته يدفعه لتحمل مشاق عمل يصعب وصفه، عندما اقتربنا منه سألنها عن مهامه بالمنجم، فأجاب بابتسامة «الحال يغني عن السؤال. إنها «تمارا»، لكن الحمد لله فهذا العمل ضروري بالنسبة لي لأنني المعيل الوحيد لأسرتي». لم يكن قدور وحده من تجاوز الستين سنة، بل هناك زملاء له يواصلون مسيرة العمل التي انطلقت منذ مرحلة شبابهم، ولم يعرفوا من مدن المغرب سوى بني تجيت، ويتقنون رسم خط مستقيم نحو جبل «بوظهر». إكراهات مادية لا تعرف هذه الفئة معنى التقاعد أو وثائق إدارية، فجميع العمال داخل المناجم الصغيرة، التي يملكها صناع منجميون بعدما ورثوها عرفا أبا عن جد إبان خروج المستعمر الفرنسي، لا يتوفرون على التغطية الصحية وغير منخرطين في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، حسب شهادات استقتها «المساء». يقول أحد العمال: «هناك من يُشغل أزيد من 100 شخص، رجالا ونساء، مقابل 30 أو 50 درهما، لكن العمال محرمون من حقوقهم». ورغبة في معرفة خلل عدم تمتع العمال بحقوقهم، يأتيك الجواب من الصناع المنجميين بأنهم لا يتوفرون أيضا على هذه الحقوق. يقول سعيد السعدي، نائب رئيس جمعية بوضهر للتنمية المعدنية بني تجيت،: «يوجد بالمنطقة حوالي 220 صانعا منجميا، إلى جانب اليد العاملة، ولا أحد منهم يتوفر على تغطية صحية ولا على عقود عمل، بل إنهم يعتبرون مجرد مستخدمين عند مركز الشراء والتنمية للناحية المعدنية لتافيلالت وفكيك «كاديطاف». ويؤكد السعدي أن تكاليف الاستغلال مرتفعة، مما يؤدي إلى معاناة الصناع من ضعف التسويق، في غياب دعم حقيقي لهم، ويشير إلى وجود إكراهات مادية وغياب أبحاث بالمنطقة وفشل البرنامج الوطني لتنمية المنجم الصغير الذي أطلقه الوزير السابق. ويقترح الفاعل الجمعوي، وهو صانع منجمي، أن يعود المركز إلى نشاطه كما كان خلال مرحلة الستينيات، والقيام بواجبه كما رسمه له القانون . أما السليمان السليماني (صانع منجمي) فيعتبر أن قطاع المعادن حيوي وهو مورد للعملة الصعبة بالنسبة للاقتصاد الوطني، وأنه في ظل العولمة والتطورات العصرية وجب أن ينعكس ذلك على المنطقة التي لم تعرف أي تغيير. كما أن انخفاض ثمن الرصاص دفع بعض الصناع إلى التوقف عن استغلال المناجم، يقول لحسن بلغود، صانع ومنجمي ورئيس جمعية بوظهر، باستياء: «حنا ريضنا» (أي توقفنا) عن العمل لأنه من الصعب الإنفاق على استخراج المعادن وتكون النتيجة الخسائر». وإلى جانب أوضاع العاملين هناك مشاكل رخص الاستغلال، التي يتم استغلالها من آخرين لا حق لهم. وفي هذا الصدد يقول الحسين اعبوبو، مشغل معادن، إن «هناك غيابا لأي إصلاح إداري يهدف إلى التنمية المحلية»، معبرا عن شكواه من الترامي على ملك الغير، إذ أنه الوكيل الوحيد المفوض عن ورثة المرحوم جميل، الذين يملكون رخصة استغلال المعادن الموجودة بجبل «سكنديس» بقيادة تالسينت، غير أن هناك من ترامى عليها واستغلها بالقوة، حسب تعبيره. لم يتوقف اعبوبو عن مراسلة الجهات المعنية من أجل النظر في تظلمه وإعادة الأمور إلى نصابها، لكن لم يجد آذانا صاغية تعيد لكل ذي حق حقه، حسب رأيه. نحو التأهيل لم نتمكن من معرفة رأي الجهات الرسمية رغم محاولتنا ذلك، فلم تفض زيارتنا لمندوب وزارة الطاقة والمعادن ببوعرفة إلى شيء، إذ اعتذر عن مدنا بأي معطيات تذكر. غير أن الجميع يتذكر أنه إثر الزيارة الملكية لبني تجيت خلال السنة الماضية قام الملك محمد السادس بتوزيع حوالي 570 وحدة من وسائل الحماية الفردية على العمال المنجميين (وهي لباس خاص بالعمال من بينها الخوذات الواقية). وقتها كان الحديث عن برنامج تأهيل الاستغلالات المعدنية الصغيرة القائمة قصد تحويلها إلى مناجم صغيرة مهيكلة، وإنعاش التشغيل في مختلف المناطق المعدنية. وتم إبرام اتفاقية شراكة مع وكالة الإنعاش والتنمية الاقتصادية والاجتماعية لعمالات وأقاليم الجهة الشرقية بقيمة مليون و500 ألف درهم تهم اقتناء معدات خاصة بالاستغلال المعدني ولوازم الوقاية الفردية والتكوين بالمدارس التابعة لوزارة الطاقة والمعادن، من طرف مختصين وتوفير البنية التحتية من ماء وطاقة ومسالك. مؤسسة «كاديطاف» والأدوار المنوطة بها لمساعدة الصناع المنجميين إثر الأبحاث التي قامت بها فرنسا خلال فترة الاستعمار من طرف المصلحة الوطنية الفرنسية للمسح الجيولوجي 1878 خلصت إلى أن منطقة فكيك وتافيلالت من أغنى المناطق المعدنية وأخصبها من حيث الكم والجودة خصوصا معادن الرصاص والزنك والبارتين. وبعد حصول المغرب على الاستقلال أصدر الملك الراحل محمد الخامس ظهير فاتح دجنبر سنة 1960 تم على إثره إحداث مركزية الشراء والتنمية للناحية المعدنية لتافلالت(كاديط) كمؤسسة عمومية تتمتع بالاستقلال المالي، وتمت توسعتها سنة 1975 لينضم إليها إقليم فكيك لتصبح كاديطاف لتصبح مركزية الشراء والتنمية للناحية المعدنية لتافيلالت وفكيك فاتخذت مدينة الرشيدية مقرها الاجتماعي، حسب معطيات واردة في تقرير خاص بجمعية بوظهر ويهدف ظهير 1960 إلى اعتبارات اقتصادية واجتماعية بالمنطقة ويراعي جميع جوانب المنطقة خصوصا فك العزلة وتنمية المنطقة والحفاظ على استقرار عمال الشركة الفرنسية (بينارويا) بعد خروجها في مقاربات تنموية مستديمة تخص ساكنة المنطقة عامة، وذلك بموجب رخص استغلال تسلمها الكاديطاف قصد التنقيب عن معادن الرصاص والزنك ثم البارتين، من أجل البحث والاستكشاف عن ثروات معدنية باطنية تستفيد منها المنطقة, وحدد المشرع اختصاصات المؤسسة سواء في جمع المحصول المعدني من المنجميين بالمقابل وتسويقه مع توفير كافة أشكال الدعم من توجيه وتأطير والمساعدة التقنية والاستفادة من الآليات ومعدات الحفر ثم تحليل العينات في المختبر ومساعدتهم بالمتفجرات ودعمهم بقروض قبل جمع المحصول إضافة إلى تزويد أوراشهم بالماء ومدهم بالشحن فكانت النتيجة جد إيجابية اقتصاديا واجتماعيا على ساكنة المنطقة. وعرفت مؤسسة كاديطاف أزمة مالية خانقة خلال الثمانينات نتيجة سوء التسيير ولم تعد تقوم بدورها فأصبحت حقوق المنجمي الصغير مهضومة وسدت أبواب التشغيل الذاتي في وجه الشباب.