إن كلمة المواطنة هي صيغة صرفية أمكنت منها اللغة العربية لتدل بها على معنى المشاركة في الانتساب للوطن وفي أداء حقوق ذلك الانتساب. وصيغة المفاعلة في الوضع اللغوي تدل غالبا على مشاركة فردين أو أفراد في أداء الفعل مثلما تدل عليه مصادر المجادلة والمناقشة والمعاشرة والمصافحة. وكلمة المواطنة من هذا القبيل، وهي تفيد وجود ثلاثة مكونات هي الوطن, وسكان الوطن، وممارسة الاشتراك الشعوري والفعلي في الانتساب إلى الوطن وفي القيام بحقوقه وبمتطلبات حمايته والنهوض به. والمواطنة هي بالأساس قيمة راقية من قيم التعايش تقوم على الإحساس بمسؤوليات وتبعات الوجود في الوطن، وهو شيء يتجاوز معنى مجرد الإقامة والسكن فيه. والوطن في الاستعمال الإسلامي هو مكان الوجود والانتماء، وهوقد يتسع بحيث يستوعب الشعب أو الأمة، وقد يضيق بالقدر الذي لا يساوي إلا موضع إقامة العشيرة الواحدة, وقد قالت امرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تدافع عن أرض قومها إنها وطني وداري. والحديث وارد في سنن أبي داوود في كتاب الخراج والإمارة. وفي الاستعمالين القرآني والحديثي يرد ذكر كلمة المَوْطن وهو لفظ يعبر عن عموم المكان الذي يستقر فيه الإنسان أو تحدث فيه الوقائع، ومن ذلك قوله تعالى: " ولقد نصركم الله في مواطن كثيرة...." [ التوبة 25] ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من امرئ يخذل امرأ مسلما عند موطن تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله عز وجل في موطن يحب فيه نصرته، وأي امرئ ينصر امرأ مسلما في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته ". وقد يعبر عن الوطن بالدار وبالبلد، ويعبر عن المشارك فيها بالبلدي فيقال هو بلديه مثلما يقال هو مواطنه، كما يقال لمن يشارك المرء في زمن الميلاد هو لدته. والموطن أيضا هو المَباءة وهي المكان الذي يرتبط به الإنسان شعوريا ويبوء إليه. أما عن المواطنين الذين يشتركون في الانتساب إلى الوطن فقد دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم أهله في أول خطاب وجهه إلى أهل مكة وهم مخالفون له في الدين لما قال: " إن الرائد لا يكذب أهله و لو كذبت الناس جميعا ما كذبتكم". و لقد كان حب الوطن راسخا ومتجذرا في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي شعوره. فحينما اضطر إلى مغادرة مكة مهاجرا بعد أن تآمر قومه على حياته التفت إليها مودعا بعد أن صارت خلفه وقال: "ما أطيبك من بلد وما أحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك" . الحديث أخرجه الترمذي في كتاب المناقب. ولما استقر عليه السلام مع أصحابه بالمدينة أصابهم من ألم الفراق شيء غير يسير, فلما رأى عليه السلام ذلك دعا للمهاجرين وقال: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد" . [الحديث أخرجه البخاري في كتاب فضائل المدينة] وهذا دعاء يشير إلى أن قلوب المهاجرين كانت مفعمة بحب كبير للوطن. ولقد ظل حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لمراتع صباه قويا متوهجا في نفسه فلما عاد إلى مكة بعد الفتح كان يدل أصحابه على مواضع شهدت وقائع في صباه فكان يشير إلى أحد المياه ويقول هنا تعلمت السباحة، وأشار إلى أطم وذكر أنه كان في صباه يطير طائرا كان عليه. وبعد تجاوز هذا المدخل اللغوي الذي يقتضيه التعريف، فإن صلة الإسلام بالمواطنة يجب أن تطلب في مقاصد الإسلام الكلية وفي تصوره لطبيعة العلاقة المجتمعية، كما يتعين أن تطلب في نصوص الإسلام وأحكامه الجزئية المتعلقة بحركة الفرد ضمن المجتمع. ومما تجب الإشارة إليه أن سعي الإسلام إلى إشاعة ثقافة المواطنة ينسجم تماما مع أسلوبه الخاص في تثبيت كل القيم وفي توجيه السلوك، وهو أسلوب يقوم على جعل ما يرشد إليه ممتزجا بالعبادة لتكون استجابة الفرد طاعة لله، وليكون إهمال المطلوب معصية لله، وهذا يعطي أحكام المواطنة إلزامية أقوى مما لو جردت عن معنى العبادة، وهذا ما يتميز به الإسلام في توجيهه للمجتمعات. ومن أجل تقديم علاقة الإسلام بالمواطنة فإنه يحسن جلب الشواهد التالية: لعل أكثر الشواهد وضوحا وجلاء في إفادة اهتمام الإسلام بصياغة مجتمع المواطنة ما يروى من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استحسن حلفا شهده في صباه وهو حلف عقدته قريش قبل الإسلام سمي حلف الفضول وحلف المطيَّبين، فقد لاحظ بعض زعماء قريش أن منهم من أصبح يجور ويظلم الناس مستندا إلى مكانته الاجتماعية ، ومن ذلك أن العاص بن وائل اشترى بضاعة من أحد التجار الغرباء الوافدين على مكة. ورفض أن يسلمه الثمن، فتداعت قريش إلى دار عبد الله بن جذعان وتعاهد الحاضرون على أن يكونوا يدا واحدة مع كل مظلوم على الظالم فردوا للبائع الغريب حقه ، وتأصل في تقاليدهم مقتضى هذا الحلف، وقد أثنى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال في تأييده له لو دعيت به في الإسلام لأجبت. وقد كان حلف الفضول معاهدة مجتمعية مبكرة واتفاقا على مناهضة الظلم وإيقاف الظالمين أمام سلطة المجتمع، وإن لم يكن للدولة حضور أو وجود. وقد مثل المتحالفون حقيقة المجتمع المدني الحي اليقظ، الحامي لقيم العدل والمناهض للظلم والعدوان. ومن الأحكام التي تبرز حرص الإسلام على تركيز ثقافة المواطنة والارتباط بالمجتمع، أنه قرر أن العبادة وإن كانت في أصلها عملا يتوجه به الإنسان إلى الخالق، فإن لها مع ذلك صلة وتعلقا بأفراد المجتمع, ومن ملامح هذا الاتصال أن العبادة قد لا تكمل ولا تقع على الوجه الأمثل إلا إذا أديت ضمن جماعة بشرية, فيكون الآخرون شرطا من شروط كمالها, ومن ذلك أن الصلاة يضاعف أجرها سبعا وعشرين ضعفا إذا أديت في جماعة. ومن الأمثلة على توقف أداء بعض العبادات على التواصل مع الآخرين أن الإسلام حدد بعض الكفارات للتصالح مع الله بعد الوقوع في بعض المعاصي، وتتم هذه الكفارات بالإحسان إلى أفراد من المجتمع، وذلك بإطعامهم أو كسوتهم أو تحريرهم من العبودية, والمعنى المستفاد من الكفارة هو أن العبور إلى التصالح مع الله يتم عن طريق الالتحام ببعض أفراد المجتمع وبالتخفيف من آلامهم ومعاناتهم. ومن غير الكفارات فإن استحضار الآخرين وارد في الكثير من العبادات والقربات، ومنها الزكاة وكل النفقات التطوعية التي تبلغ بأنواعها من الكثرة ما لا تبلغه في أي ثقافة أخرى. وكل النفقات التطوعية هي في واقعها تعامل رحيم مع مكونات المجتمع الفقيرة والهشة. ومن الصور المعبرة عن منحى الإسلام في الإلزام بممارسة المشاركة المجتمعية ما يقرره من حكم القسامة, وصورته أنه إذا وجد في محلة أي في تجمع سكني قتيل لم يعرف قاتله, فإن المطلوب أن يختار من أهل المحلة خمسون رجلا يقسمون بأنهم لم يقتلوا القتيل وأنهم لا يعرفون قاتله، وحينذاك يلزم أهل المحلة بأداء دية القتيل متضامنين. فإن قيل لماذا يتحمل الدية من لم يتسبب في القتل, فإن الفقه يجيب بأن أهل المحلة كانوا مقصرين بعدم توفيرهم للأمن ولو عن طريق استئجار حراس خواص. وبهذا يتبين أن المشاركة المجتمعية في توفير الأمن تظل واجبا قائما لا يعفى منه أن هنالك أجهزة رسمية متخصصة في حفظ الأمن. ولهذا السبب وتجنبا للمواخذة الشرعية كان المسلم يقوم بواجبه المجتمعي فلم يكن من الميسور أن يبسط اللصوص سلطتهم في المدينة الإسلامية في وضح النهار، فضلا عن أن يشكلوا عصابات منظمة تمارس فعلها في الأسواق، والناس مع هذا متمسكون بسلبيتهم لا يملكون أكثر من الشكوى وتحميل الآخرين آثار سلبيتهم وتخاذلهم. ومن الأحكام التي أصل بها الإسلام ثقافة المواطنة والمسؤولية الاجتماعية تقسيم الإسلام الفرائض إلى تكاليف كفائية وأخرى عينية، فإذا كانت الفرائض العينية تكاليف تتجه إلى الأفراد, فإن الفرائض الكفائية تتجه إلى الهيئة الاجتماعية، ومتى قام بها بعض المكلفين ارتفع التكليف عن الباقين، وإذا تقاعس الجميع كان الجميع آثما. وعلى هذا فيكون أداء الفرض الكفائي نيابة عن المجتمع.وهو يشمل كل الوظائف الاجتماعية المتطلبة للاستجابة لحاجات المجتمع إلى الأمن وإلى الصحة والعلم. ومن صور الفرائض الكفائية نشر العلم وتكوين الأطر الطبية والإعانة على إقامة العدل وعلى توفير متطلبات الحياة الكريمة في التجمع الإسلامي. وإن من المؤسف أن يكون المسلمون قد حصروا الفرض الكفائي في وظائف تقتصر على أداء أعمال تتصل بأحكام الجنائز وما يستحقه الأموات من غسل وتكفين وتشييع، وبهذا التضييق فات المسلمين أن يرتقوا بالفرض الكفائي إلى مستوى تنظيم أدائه قطاعيا وجماعيا عن طريق تشكيل منظمات للمجتمع المدني تمارس الفرض الكفائي في صورة حركة مجتمعية تتقاسم التكاليف الكفائية. ومن التوجيهات التي شكلت خصوصية من خصوصيات الإسلام في إشاعة ثقلفة المواطنة ما ألزم به الإسلام المسلمين من ضرورة النهوض بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وقد جعل القرآن هذه الوظيفة في الأمة سبب خيريتها فقال: " كنتم خير أمة أخرجت للناس تامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" . [ آل عمران 110] والآية تعلق الخيرية بهذه الوظيفة وتجعلها وظيفة ذات بعدين بعد ديني وبعد إنساني. والمعروف الذي يجب أن يدعو إليه المسلمون يشمل تحقيق كل المصالح الفردية والجماعية , ومنها الدعوة إلى القيام بالواجب وإلى الاهتمام بالمعرفة وإلى أداء حقوق الوطن و إلى إلتزام الأخلاق، ويشمل النهي عن المنكر كل المنكرات الدينية وكل المحرمات شرعا كما يشمل المنكرات الدنيوية، ومنها كل أنواع الفساد الإداري والأخلاقي والاقتصادي، وكل صور الإضرار بالمجال، وكل تدمير لمكونات البيئة وغير ذلك مما قام به المسلمون فرديا وجماعيا من خلال أدائهم للعمل التطوعي ومن خلال تنصيبهم للمحتسبين ولأمناء الأسواق والحرف. وبعد هذا الاستعراض فإنه تجب الإشارة إلى أن تأسيس الإسلام لثقافة المواطنة في مفهومها الصحيح لا يعني الانغلاق على الذات أو التقوقع حول الكيان. فمع أن الإسلام يؤسس مجموعته المترابطة بعلاقة الإيمان أساسا, فإنه مع ذلك ينفتح على كل المكونات الدينية والثقافية الأخرى، و يدعو المسلمين إلى التعامل الإنساني معها، وإلى التعاون معها على تحقيق المصالح المشتركة. فلقد التفت النبي صلى الله عليه وسلم بعد مقدمه إلى المدينة إلى اليهود الذين كانوا يساكنونه فأبرم معهم وثيقة للتعاون وللدفاع المشترك، فكانت معاهدة المدينة أول وثيقة حددت ملامح التعامل الإيجابي مع الآخر وطبيعة الشراكة والمواطنة والتعايش في نطاق البلد الواحد. فإذا كان هذا هو هدي الإسلام في توجيه الإنسان المسلم إلى ممارسة المواطنة الإيجابية فكيف أصبح الإنسان المغربي المسلم مثالا وأنموذجا للانسحاب من المجتمع وللاكتفاء بمتابعة ما يحدث في وطنه عن بعد؟ وكيف أصبح هذا المواطن يسحب نفسه شعوريا وعمليا من الوطن خصوصا حينما تحدث في الوطن تجارب من الإخفاق والفشل، فيتوجه إلى وطنه وإلى مواطنيه بالتقريع والتوبيخ على اعتبار أنه ليس ليس مسؤولا عما حدث وأنه هو أنموذج آخر متفرد، وأن ما نال الوطن لا يعنيه هو أيضا؟ وكيف أصبحت صلة المواطن بوطنه صلة ربوية فهو مع الوطن في حالة تألقه ونجاحه وانتصاره، وهو منسحب عن الوطن ومتنكر له حالة هبوطه وانهزامه، فهو لهذا لا يريد الوطن لذاته وإنما يريده حينما يحقق له رغباته ويلبي حاجاته؟ بل كيف أصبح العزوف عن ممارسة الواجب الوطني سمة من سمات السلوك الفردي والمجتمعي, سواء تعلق الأمر بالممارسة السياسية أو بالمشاركة في التنمية الاجتماعية أو في مكافحة الآفات الاجتماعية والفساد والتردي الأخلاقي، وقد أصبح المواطن يبرر سلبيته وعزوفه بقوله إن الآخرين هم الجحيم كما يقال. وأخيرا كيف انتهى الأمر ببعض المواطنين إلى أن يرتبطوا بأطروحات أجنبية جائرة تعمل على هدم الوطن وعلى تجزئته وتفكيكه واستقطاع كيان مصطنع من أرضه ومجاله، منفذة لمقولة يقطع الشجرة فرع منها، ومغرية بصنع زعامات فارغة تستمد مشروعها وبرنامج عملها ومواردها ومصادر تغذيتها من أعداء الوطن؟. وإن من المؤسف حقا أن يضعف الإحساس بروح المواطنة في بعض المواطنين ويتبدى ذلك الضعف في طريقة أداء الموظف لواجبه إزاء المواطنين، وفي ممارسة السرقات والاختلاسات المجحفة بحق المواطنين وفي المتاجرة بصحة الناس وفي تعمد تدميرالبيئة وفي تزييف الوعي وفي تحريف الدين وفي هدم الأخلاق، وفي تفكيك الأسر، وفي الإساءة إلى سمعة الوطن، وفي اللامبالاة في التعامل مع قضايا الوطن، وفي تدمير مكاسب الوطن ومنجزاته، وفي تحطيم المرفق العام . والذي أراه أن هذا الوضع من اللامواطنة قد تظافرت في صنعه وإنتاجه عوامل وأسباب ثقافية وتربوية واجتماعية متعددة انتهت به إلى هذه الدرجة من التردي. وهي عوامل ستستمر آثارها حاضرة ما لم يتم تحديدها والتعرف عليها واقتلاعها وصياغة وعي وطني بديل يؤسس لمستقبل جديد. وهذه العوامل متعددة تكفي الإشارة إلى بعضها في هذا الحيز. ومن أهم تلك الأسباب والعوامل سبب ثقافي يكمن في تحييد الدين عن الإسهام في صياغة قيم السلوك الاجتماعي، كما يكمن في الإلحاح على الإبقاء على الدين بمنأى عن الحياة في مربع الاكتفاء بالتوجيه الروحي وبالإرشاد إلى كيفية أداء العبادة بمعناها التعبدي الضيق. وقد أصبح اعتناق هذا الرؤية الناشئة عن الجهل بحقيقة الإسلام وعن إلحاح الفكرالذي يسعى جاهدا إلى فصل الدين عن كل شرايين الحياة سببا مباشرا في إبعاد القيم الدينية وإقصائها عن نشر ثقافة المواطنة وعن دعم وجودها ومنحها إلزامية التدين. وقد كان بالإمكان الوصول بالإنسان إلى مستوى أرقى من الإحساس بضرورة المشاركة لو أن قيم الإسلام قربت إلى الناس وشخصت في صورة قيم للمواطنة فعرف المواطن أن عزوفه عن المشاركة في الانتخابات مثلا هو تقصير في القيام بواجبه الشرعي في أداء الشهادة التي يلزم بها قول الله تعالى: " ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه" [ البقرة 283 ]. فمن ثم يشارك المسلم وجوبا في أداء هذه الشهادة، فيشهد بما يعرف ولا يتخذ سلبيته دليلا على سموه هو وعلى هبوط الآخرين. ولو أن معطى الدين وظف مثلا في الإقناع بأن المواطن قد أعطى عهدا موثقا باحترام قانون السير حينما طلب رخصة السياقة وأجاب عن الأسئلة التي وجهت إليه من أجل الحصول عليها، فكان بذلك مكلفا بالوفاء بالعهد على احترام قانون السير بموجب قول الله تعالى: " وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا" [ الإسراء 34]. وحينذاك تسير عملية مكافحة حوادث السير مسارا آخر. ومن الأسباب المؤدية إلى فشو ثقافة السلبية وإلى الانسحاب وجود ثقافة رسختها منذ زمن طويل عدة مقولات كان السلبيون يضخونها في المناخ الثقافي وقد عبرت تلك الثقافة عن نفسها بأقوال ناصحة من مثل قولهم: " سبََّق الميم ترتاح" " ما شفتش وما نعرفش" وقولهم : " سد فمك الكوشة يدخلها النار من فمها" " ادخل سوق راسك" " كل شاة تتعلق من كراعها" وتوجد في منظومة المأثورات الشعبية ترسانة قوية من مثل هذه النصائح الداعية إلى السلبية وإلى الانسحاب والهروب من المجتمع. وقد كانت هذه المقولات التي نشأت وانتشرت في زمن التراجع الحضاري والتخلف الفكري والجهل بحقيقة الدين نقيضا ثقافيا لما عرفته الأمة من تضامن قوي أفرز مجموعة من العادات والتقاليد في التآزر والتواصل. وإلى جانب هذه الثقافة الشعبية المتخاذلة ثقافة أخرى حديثة ليست أقل سلبية من سابقتها، وهي ثقافة اتجهت إلى تركيز الفردانية وإلى الاستعلاء على المجتمع وإلى احتقار ثقافته وقيمه ومفاهيمه وإلى مخاصمة تاريخه، فخرجت عليه بمفاجآت وسلوكات صادمة من شأنها أن تحدث القطيعة بين الأجيال وتحدث فجوة تعوق انتشار ثقافة المواطنة. ومن الأسباب التي أفضت إلى توهين صلة المواطن بوطنه ما خلفته البرامج التعليمية والتربوية من فراغ معرفي ومن جهل فظيع بتاريخ الوطن, وما تعرض له من أطماع ومن محاولات للاستحواذ عليه، وما بذله أهل هذا الوطن من تضحيات جسيمة في الدفاع عنه ، وما أنجزه أهله من منجزات حضارية وعلمية وما له من خصوصيات علمية وحضارية وماله من إمكانات وموارد طبيعية، وما يتمتع به مواطنوه من حس جمالي ومن ذوق فني رفيع تجلى في مهاراتهم الفنية وفي منجزاتهم في البناء وفي التخريم وفي النقش والطبخ واللباس والفراش وفي الأدب والفنون الجميلة. ومن شأن المعرفة بهذه الجوانب أن توثق الصلة الشعورية بين المواطن ووطنه بعد أن يعلم أن الانتساب إليه هو انتساب مشرف لأنه انتساب إلى الحضارة وإلى العلم والفن والأدب. ومن الأسباب القوية التي أوهنت صلة المواطن بوطنه تلك الممارسات الخاطئة التي ركزت الإحساس بالهامشية والإقصاء وأقنعت المواطن بأن الحياة لا تتأتى في الوطن إلا من خلال الاستظلال بأحد الاستقطابات السياسية أو الفئوية أو بالقبول بوضعية التبعية والاستلحاق لإحدى دوائر النفوذ الاقتصادي أو الاجتماعي، ومن ثم لا يكون للكفاءة والمقدرة وللإيجابية أي معنى ولا حظ اللاستفادة من إمكانات الوطن. ومن الأسباب الموهنة لصلة المواطن بوطنه إلحاح كثير من الجهود التعبيرية على إبراز كل سوءات المجتمع والحرص على ذكر تفاصيلها مع التغيب الكامل لكل الجوانب الإيجابية ولكل الإنجازات التي يحققها الوطن، فلا يتحدث الناس إلا عن مظاهر الرشوة والإخلال بالواجب والفساد الإداري والأخلاقي والتخلف المجتمعي. ويغفلون عن قصد أو عن غير قصد مقابلة الظاهرة بنقيضها فلا يذكرون أنه إن وجد في الوطن موظفون مرتشون، ففيه موظفون نزهاء يعانون الخصاصة، ويعانون أكثر من ذلك من عدم الاعتراف لهم بفضيلتهم وتضحيتهم، ولئن وجد في الوطن فساد أخلاقي ففيه أيضا من مظاهر الإيمان والتقوى والصلاح شيء كثير. ولئن وجد في الوطن تخلف مادي فإنه توجد في مقابله إنجازات اقتصادية وعمرانية عملاقة ومشاريع تنموية واعدة ، ومنجزات بنيوية وهيكلية بارزة وشبكات للتواصل جوية وبرية وموانئ ضخمة ومشاريع كثيرة أحدثت نقلة واضحة وجلية. إننا لا ندعو إلى تزييف الحقائق ولا إلى تجميل التشوهات الاجتماعية ولا إلى بيع الوهم أو إلى إحراق البخور لتغطية الرائحة الكريهة، وإنما ندعو إلى التزام التوازن والعدل في التشخيص، وإلى إبراز الصورة الواقعية للمجتمع بما فيه من إيجابيات وسلبيات. إن الواقع الذي تعيشه بعض الدول الكبرى أنها تتوفر على مؤسسات متخصصة تعمل على تحسين صورة تلك الدول وتجميلها في أعين الناس، وهو إجراء يدل على أهمية إبراز صورة جميلة للوطن حينما يريد الوطن أن يدخل في منافسة الاستثمار، وحين يريد أن يكون له عنوان جميل يرتب به في سلالم العلم والتقدم والارتقاء. إن شأن الاقتصار على استعراض السلبيات أنه لا يمكن من الرؤية الصحيحة المتوازنة من جهة، كما أنه يعمل في نهاية المطاف على تسريب روح اليأس ويعمل على قتل الأمل في المستقبل من جهة أخرى، وكل هذه ظروف نفسية تشكل مناخا ملائما لإنجاح مشاريع خصوم الوطن. إن مشكلة الوطن أن من أهله نوعين من الناس، أناسا يرتبطون ارتباطا حنينيا بالماضي، فإذا تحدثوا عنه تحدثوا بإعجاب كبير ومدحوا الماضي بإطلاق، لأنهم سلموا من شره كما يقال، وهم بالتأكيد لا يهتمون كثيرا بالتحولات الكبرى التي طرأت على أوضاعهم المعيشية والسكنية والغذائية وغيرها. ولا تقع أعينهم على الإنجازات التي تتحقق يوميا لأنهم يعيشون خارج الحاضر. وأمام هذه الشريحة البشرية شريحة لا تنظر إلى الخلف ولا تلوي عليه، وإنما تنظر إلى الأمام الأبعد وإلى أوضاع شعوب أخرى، لكنهم لا يهتمون بتقدير الشروط الموضوعية والتاريخية التي صنعت واقع تلك الشعوب، فهذه الشعوب قد طورت اقتصادها وصنعت نهضتها بعد أن استفادت من سواعد أبناء البلاد المستعمرة، وبعد أن استنزفت مواردها الطبيعية، وهي إلى الآن لا تكف عن استنزافها حينما تستقطب كفاءاتها العلمية والتقنية فتلحقها بآلتها الاقتصادية بعد أن توهمها بأن وطنها لا يقدر كفاءاتها ولا يستطيع استيعابها، فينشأ بسبب ذلك لدى هذه الفئة العالمة رؤية تستخف بالوطن، وتجنح إلى الانصهار في حياة الدول التي تجتذبها. وبعد، فهذه مساهمة مختصرة أتاحت رؤية من زاوية دينية لقضية المواطنة وكشفت عن بعض الإمكانات المعنوية القوية التي يمكن أن يسعف بها الإسلام ويشارك بها في بناء ثقافة المواطنة وفي ترسيخها، وأنا أظن أن مجرد عقد مثل هذا اللقاء الهادف الذي يحضره النسيج الجمعوي ويشارك بالنقاش فيه. يشكل خطوة مهمة في السير على طريق تأسيس ثقافة للمواطنة الإيجابية. الدكتور مصطفى بن حمزة