تطور مخيف ومستقبل لا يبشر بالخير؟! نتيجة التحول الكبير في القيم المجتمعية والخلل في المنظومة التربوية بين الحين والآخر تفاجؤنا الصحف والمجلات والقنوات بقصص مثيرة ومشاهد غريبة ومزعجة، عن مظاهر العنف والاصطدام داخل فضاء المؤسسة التربوية الذي أضحى يتخذ منحى خطيرا وتزايدا مستمرا، بل ووصلت حدته أبواب القضاء و ردهات المحاكم للفصل بين الأطراف المتنازعة، وتقول الإحصائيات الصادرة عن المؤسسات الحكومية، أن معلما كل شهر يتعرض للعنف، أي تسع حالات خلال الموسم الدراسي كل سنة،كما أعددا كبيرا من التلاميذ يتعرضون بدورهم للتعنيف من قبل مدرسيهم، فمن الجاني ومن البريء؟ ومن المسؤول عن الظاهرة؟ فهل تغيرت القيم الثقافية في المغرب لهته الدرجة حتى ألقت بضلالها على المدرسة المغربية التي فقدت جزءا كبيرا من دورها التربوي والثقافي؟!. جدل كبير وإشكال عميق هو ذلك الذي أثارته ظاهرة العنف المدرسي داخل المؤسسات التربوية في السنين الأخيرة ببلادنا، وفتحت بذلك ملفا جديدا على عاتق اهتماماتنا ومشاكلنا المجتمعية العويصة، ففي دائرة العنف المتبادل بين التلميذ وأستاذه يبرز منطق الكيل بالمكيالين، بعدما كان التعنيف أو الضرب مقتصرا على المعلم تجاه تلميذه لثنيه عن أي عمل مشين أو تحفيزا له على الدرس والتحصيل وتبوئ المراكز الأولى في سلم النجاح والتألق المعرفي ضمانا لمستقبل أجيال من حسن العلم والمعرفة لبناء وتشييد صرح البلاد وضمان رقيها بعدما تكبدت الدولة كما الآباء والأولياء مجهودات مضنية ومكلفة، وميزانيات كذلك جد محترمة في سبيل التربية والتعليم، كيف لا وهذا الأخير من أهم الحقول، وأكثرها حساسية على الإطلاق، باعتباره اللبنة الأولى و المنطلق الأساس لأية عملية تنموية شاملة سليمة ومثمرة، كالجسد الواحد إن اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. فإن كان بالأمس القريب دعاة الضرب أو بالأحرى العنف داخل المؤسسة التربوية كثر مقتنعين بكون المصلحة العامة تقتضي ذلك وأن العصا من شأنها تقويم أي اعوجاج أوتمرد، على أساس منطق العصا لمن يعصى، إذ لم يكن يتوانى المدرس ولو لوهلة في التنكيل بتلميذه ضربا وجرحا وحتى تكسيرا، ناهيك عن العنف الكلامي المعنوي الذي هو أشد بأسا وتأثيرا، ظنا منهم أنها الوسيلة والطريقة المثلى للنتائج الدراسية الجيدة والجيل المتعلم الطيع، حتى الآباء وأولياء الأمور لم يترددوا يوما في التشجيع عن ذلك فالكل يطمح أن يكون ابنه أحسن دفعته والناجح بين خلانه غبطة وتنافسا، فالمدرسة تربي وتعلم والأسرة كذلك، فإن حدث واشتكى أحدهم تعنيف أو ضرب معلمه، فلن يجد المناصفة والتأييد! بل المزيد من العنف واللوم وفي الكثير من الأحيان يعمد الآباء إلى اصطحاب أبنائهم إلى المدرسة من جديد ليشجعوا معلميهم على ما أقدموا عليه من تعنيف في حق كل تلميذ خالف القاعدة العامة والضوابط المعمول بها داخل المؤسسة التربوية، أو سولت لأحدهم نفسه مجابهة تصرفات أستاذه، فكان هذا الأخير ذو هبة كبيرة وشخصية قوية، لايجرؤ عليها إلا لماما. لكن سرعان ما تغيرت الأمور وتبددت هباء فالكثير منا إلا ويختزن في ذاكرته مشهدا من العنف مورس عليه في طفولته وبقي موشوما فيه إلى يومنا هذا فمنا من يستحسنه ويعتبره سببا في نجاحه وبفضله تبوء المراكز المشرفة في حياته حاليا، ومنا من هو ناقم على ذلك ويشتهي عودة السنين إلى تلك الأيام التي يعتبرها عصيبة مجحفة، للثأر من ذلك المعلم أو المعلمة، وإفراغ كل غله وعتابه بعدما ولد لديه ذلك العنف معاناة كبرى أليمة شكلت له العديد من العقد ومركبات النقص واهتزاز قوي في شخصيته المريضة. لم يعد الزمان نفسه، ولا العقليات نفسها وانقلبت الآيات، وتشابكت الأمور فلا الطفل صار يقبل بأساليب العنف ولا المدرس يملك من سعة الصدر مايلزم ولكل طرف همومه وماشكله التي يتخبط فيها بعدما عرف المجتمع تقلبات وتغيرات جذرية عميقة ساهمت فيها العديد من العوامل ولعل أهما العولمة والتقدم التكنولوجي العجيب هذا الأخير الذي فتح الأعين والأبصار على جملة من الأشياء كانت بعيدة عنا لانمث لها بصلة، أو متخفية نفض الغبار عنها، لتخلق البلبلة والصراع في مجتمعنا الذي أضحى أكثر عنفا واصطداما، لتثير بذلك ظاهرة العنف في المؤسسات التربوية نوعا جديدا من الجذل، بعدما تكررت المآسي وارتفع عدد المعنفين من متعلمين ومعلمين، الواحد صوب الآخر، فتكاثرت الشكاوى من يعنف من؟ ومن يستفز من؟، وهذا ما ألقى بضلاله على العملية التربوية ككل في المدارس التعليمية المغربية، وقد تطلب ذلك من الحكومة الإسراع بوضع برنامج عاجل للحد من الظاهرة، شارك فيه العديد من الخبراء التربويون، وقد أكدت آراء الباحثين في المجال التربوي والنفسي على أن المدارس المغربية بدأت تشهد بعض المتغيرات المرتبطة أساسا بمحيطها الخارجي، وهذا ما انعكس سلبا على المؤسسات التعليمية خاصة منها الثانوية والإعدادية، فالتلميذ لم يعد يلج المؤسسة للدرس والتحصيل في جو من الهدنة وتقبل الملاحظات والتعليمات التي تملى عليهم من طرف الأساتذة، بل أضحى التمرد عنوانا عريضا للسواد الأعظم منهم، ولم تفهم قوانين حقوق الطفل بالشكل المطلوب الذي يراهن على الواجبات قبل الحقوق، كما أن المؤثرات الخارجية التي يعيش تحت رحمتها أطفالنا اليوم من مشاهد التعنيف خصوصا في القنوات والأفلام التي تروج للعنف كمظهر من مظاهر القوة والرجولة، احتفاء بالحرية الشخصية حسب معتقداتها، فيما تلعب المخدرات وأقراص الهلوسة ورواجها بالغ الأثر في غرس التو ثر وبذرات العنف في نفوس متعاطيها من التلاميذ الذين يصبحوا مرشحين في أية لحظة لارتكاب شتى أنواع التعنيف خاصة في مرحلة المراهقة، ويكون الأستاذ في مقدمة المواجهين بالعنف في الحجرات الدراسية حتى وإن نبس بأدنى كلمة، ليفقد بذلك كل قيمة معنوية يتمتع بها وجدار الاحترام والهيبة سرعان ما يتحطم ليفتح المجال لسلسلة من المشادات والتنابزات وأشكال متنوعة من التعنيف التي لاتليق بحرم الفضاء المعرفي كما تؤثر بالسلب المخل بالمنظومة التربوية بكاملها، وبالتالي على النتائج والتحصيل الدراسي وما الانحطاط الذي وصل إليه مستوى التعليم ببلادنا والأرقام المتزايدة المسجلة بالهذر المدرسي، لخير دليل وأبلغ تعبير ينبئ بأسوء الاحتمالات التي لم تشهدها من قبل مجتمعاتنا وبالأخص مؤسساتنا التربوية ، بعدما انزاحت عن القيام بدورها الأساسي في التربية والتكوين وتأهيل الأجيال خدمة للبلاد ورقيها إلى مرتع للخصام والمشاكل التي لاحصر لها في مسلسل الفعل ورد الفعل من الحزازات وأسلوب المشادات العنيف الذي يشد الخناق بعنقه ويطوق أي تطور ملموس في العلاقات بين الطرفين. من يحمل وزر من؟ ومن هو الجاني من البرئ؟. العنف إذن أصبح يتزايد بشكل كبير، من قبل التلاميذ سواء ضد مدرسيهم أو حتى فيما بينهم وصار كظاهرة تتفشى بسرعة كبيرة، حتى أنها تسببت في بعض الأحيان بعاهات جسدية مستديمة، فإن حدث ونبس المعلم بأدنى كلمة عتاب أو توبيخ في وجه أحدهم حتى تجده متربصا به في كل لحظة وحين لنيل منه والكيل له انتقاما لكرامته التي يعتبرها أهينت من جهة وتلبية لغروره وطبعه الخشن القابل في أي وهلة للممارسة العنف من جهة ثانية. فإن كان كلا الطرفان غارق بما يكفي في بحر من المشاكل والضغوطات، فإن أصابع الاتهام مصوبة تجاه كل مكونات المجتمع المغربي سواء داخل فضاء المؤسسة التعليمية أو خارجها، بيد أن الكثير من الآراء المتعلقة بذوي الاختصاص في الحقل التعليمي تلقي بجام غضبها صوب المناهج التعليمية الجديدة المستوردة، التي هي في نظرهم بعيدة كل البعد عن بيئتنا وخصوصيات مجتمعنا الذي لايقبل ببعض المفاهيم والقيم، وكأننا بصدد غرس بذور لن تلائم البثة تربتنا لأن بيداغوجياتهم لا تصلح لنا ولاتناسب وثيرة تطورنا، أما بعض الإداريين فيرون أن الأستاذ هو المحدد الأول لمدى احترام التلميذ له أم لا، فإن كانت شخصيته قوية فلن يقوى أو يجرأ أحدهم على التطاول عليه أو التفكير في المشادات معه درجة العنف والعنف المضاد، فمساحة الاحترام الواجبة هي لوحدها كفيلة، بوضع متنفس معقول من الهدنة بين الطرفين. وبين هذا وذاك حري بنا أن نعي بحرص وتمعن ظروف العيش والاشتغال التي يعيش في ظلها الطرفان معا، فمن العنف أيضا أن يقطع التلميذ عشرات الكيلومترات للوصول إلى حجرة الدرس في قمة جبل أو سفح واد دون أدنى شروط للعمل والتحصيل، ليجد في أغلب الأحيان الأستاذ أو المعلمة غائبين عن الحضور، فتلك مريضة منهكة لطول المسافة التي تقطعها، وهي مثقلة بحملها مستاءة من وضعيتها ومعاناتها اليومية بعيدة عن أسرتها وكنف زوجها، وما إن تصل حتى تتقطع أنفاسها ومزاجها السيئ يذوي من بعيد والمجال الوحيد والفرصة السانحة لتفريغ كل مشاكلها وعقدها هو حجرة الدراسة مع التلاميذ الذين يشكلون لها سببا في معاناتها، وكم من مرة أدى اصطدامها بهم إلى حوادث لاتحمد عقباها تتمثل في الضرب المبرح، الشئ الذي يؤدي إلى احتقان أكبر في العلاقات والمعاملات، خصوصا وأن للتلاميذ أيضا ما يكفي من المعاناة والمشاكل كالتفكك الأسري، والفقر والطلاق…، وكأننا إذن بصدد حلقة مفرغة من العنف الممارس تباعا، فالنظرية العلمية تقول بأن كل من مورس عليه العنف يمارسه هو بدوره على الآخرين وهكذا على التوالي، وهذا ليس بغريب على ثقافة العنف المتجدرة أصلا في عقول المغاربة.