مرة أخرى يعود العنف المدرسي الى الساحة مثيرا من حوله ردود فعل واجراءات من مختلف الأطراف المتدخلة. حالات عنف متجددة منذ العودة المدرسية سجلت أرقاما تعتبر هامة قياسا بالفترة وبما سبق وتثير استنفار سلطة الإشراف. وقد أشارت مصادر نقابية إلى أن وزارة التربية لوحدها أقرت بحدوث 29 حالة عنف في الإعدادي والثانوي في أقل من شهر ونصف دون الحديث عن الحالات غير المعلنة. مؤكدة أن هذه الأرقام دليل على أن «العنف» المدرسي تحوّل إلى «ظاهرة» وليس «حالات معزولة» معربة عن خشيتها من اتساع دائرة هذه السلوكات. كما أشارت ذات المصادر إلى أن الأرقام المسجلة والمصرّح بها في هذا الظرف القصير الذي تلا العودة المدرسية دليل على أن «العنف» المدرسي تحوّل إلى ظاهرة ولا يمكن الحديث عن حالات معزولة كما أكدت مصادرنا أن الظاهرة مرشحة للاتساع والانتشار مع اقتراب مواعيد الامتحانات. ولمزيد تسليط الضوء على المسألة، اجرت «الشروق» تحقيقا حول تتالي العنف على المربين من الأولياء والتلاميذ واستفسرت لدى الاطراف المتدخلة والاخصائيين أسباب هذه «الظاهرة» وطرق معالجتها. ٭ سلطة الإشراف: « سنقاضي كل من يعتدي على حرمة المربي والحرم التربوي» تواترت في الآونة الأخيرة الإضرابات والوقفات الاحتجاجية على ضوء أحداث العنف في الوسط المدرسي. ففي معهد الزهروني نفذ الأساتذة احتجاجا على دخول غرباء الى المعهد مسلحين بالسكاكين والعصي واعتدائهم على بعض التلاميذ. كما تكرر المشهد ذاته في المدارس الابتدائية فمنذ العودة المدرسية تم تسجيل 25 حالة عنف مدرسي (سب وشتم وتعنيف للمعلمين بحسب معطيات نقابية) منها حالة بالمدرسة الابتدائية بصفاقسالمدينة لمعلمة جرتها وليّة من شعرها أمام التلاميذ والمدرسين (تمت إحالتها على القضاء). ونفذ أعوان التأطير والإرشاد التربوي بمعهد 7نوفمبر بسليانة وقفة احتجاجية اثر اعتداء ولي تلميذ بالمعهد على مرشد تربوي. وقد أكدت مندوبية التربية بالجهة رفع قضية عدلية في شأن المعتدي. كما دخل معلمو صفاقس يوم 19 أكتوبر في إضراب في عدد من مدارس الجهة على خلفية تعرّض ثلاثة من زملائهم للاعتداء بالعنف من قبل أولياء في مدرسة بئر علي بن خليفة وغيرها من مدارس المدينة. وغير بعيد عنها، سجلت حالة عنف أخرى في مدرسة الشعانبي بقفصة تمثلت في اعتداء بالعنف على معلم من قبل ولي. أما في القيروان فقد نفذ الإطار التربوي بإعدادية أبي زمعة البلوي وقفة احتجاجية اثر اعتداء ولية تلميذة على قيمة بالمدرسة. وعبر المواقع الاجتماعية على شبكة الانترنيت أنشئت عدة صفحات(فايس بوك) تندد بالعنف المسلط على الاطار التربوي وتدعو الى إيقاف موجاته وتدعو الى تحسين العمل بالمؤسسات التربوية. الوزارة تقاضي وفي مقابل هذه التحركات الاحتجاجية وامتداد حالات العنف الى مختلف المؤسسات التربوية دون استثناء. تسعى الإدارة الى فض النزاعات وتسوية الخلافات باعتماد الصلح تارة واتخاذ الإجراءات الترتيبية اللازمة أحيانا. بينما تشهد المراكز الأمنية بين اليوم والآخر شكاوى أمنية ضد المعتدين. وقد شدد السيد وزير التربية حاتم بن سالم أن الوزارة ستقاضي كل من يعتدي على حرمة المربي والحرم التربوي... وذلك في إشارة إلى الأحداث الأخيرة التي تعرض خلالها عدد من المربين لاعتداءات من قبل أولياء وتلاميذ موضحا أن الوزارة لن تسمح مستقبلا لأي كان أن يتطاول أو يعتدي على المربين الذين ستقف الوزارة إلى جانبهم مهما كان الأمر. الجهات النقابية: مراجعة منظومة التعليم والنظام التأديبي السيد سامي الطاهري كاتب عام النقابة العامة للتعليم الثانوي، بين ان اسباب العنف المسلط على المربين متعددة. واوضح انها نتيجة عوامل اجتماعية واقتصادية إضافة الى أسباب مرتبطة بالمنظومة التربوية وهي الاهم برأيه ومنها موقع المعرفة والتعليم في القيم الاجتماعية والذي تراجع واصبح لدى الناشئة في المقابل مثلا عليا أخرى متأثرة بالمحيط وببعض ما تروج له وسائل الإعلام مضيفا ان عنف التلاميذ مرتبط بتنامي ظاهرة الفشل وتدني المستوى التعليمي ويتحول ذلك الى ردود فعل موجهة الى المربي الذي يراه الولي والتلميذ المتسبب فيه. كما اوعز هذا العنف الى حالة التسيب داخل المؤسسات التربوية نتيجة سوء اختيار الهياكل العاملة وسوء التنظيم بما يوحي بحالة التواطؤ غير المعلن. من جهة ثانية اكد الطاهري ان النظام التأديبي الحالي تقادم وتآكل ولم يواكب ما برز من ظواهر جديدة بالمدرسة (العنف) وشدد على عبارة ظاهرة مؤكدا توفر عناصرها وخاصيات التوسع والتكرار والتنوع والانتشار في القرى والمدن والتكرر والتواتر بشكل يومي حسب قوله «في اليوم أكثر من مرّة». عاجل! ومن بين الحلول التي يقترحها الطرف النقابي لمعالجة المشكل، شدد كاتب عام نقابة التعليم الثانوي على ضرورة المراجعة الجذرية للمنظومة التربوية في ابعادها القيمية وفي تحديد الأهداف وآفاق التعليم وفي البرامج والمحتويات. ومن الحلول العاجلة دعا الطاهري الى ضرورة تدعيم التأطير التربوي بانتداب القيمين والمرشدين الاجتماعيين والمؤطرين النفسانيين الى جانب توفير الفضاءات لاحتضان التلاميذ (قاعات مراجعة ومكتبات) قصد حماية التلميذ من الاحتكاك بالشارع في وقت الفراغ. كما شدد على ضرورة اختيار الكفاءات لتحمل مسؤوليات الادارة والاشراف. كما شدد الطاهري أيضا على ضرورة مراجعة النظام التأديبي وتحيينه الى جانب تقليص الاكتظاظ بالاقسام والمؤسسات. وختم الطاهري قوله بأن جميع هذه العناصر لا تتحقق سوى بتشريك المربين وهياكلهم النقابية والاستماع الى مشاغلهم. ما هي أسباب العنف المدرسي حسب علم النفس وما الذي جعل التلميذ أو الولي يتجرأ على انتهاك حرمة المربي وحرمة المدرسة؟ الأخصائي النفسي الأستاذ علي المحمدي، أكد بداية ان العنف بأنواعه هو تعبير لغياب الحوار مبينا وجود عدة أسباب، أهمها هو فقدان المؤسسة التربوية» لهيبتها من خلال الدروس الخصوصية التي أصبح فيها المدرس مثل «التاجر». وبين انه في مثل هذه الحالة يشعر الولي والتلميذ اللذان يدفعان المال للمدرس أن يحاسباه وبالتالي لا يجدان حرجا في»تعنيفه» من أجل النتائج المدرسية. هذه الصورة الجديدة «للمربي» أصبحت متفشية بين الناس الى جانب انتشار فكرة «من يدفع أكثر ويصرف أكثر على الدروس تكون نتائجه أفضل وحظوته أكبر». وبناء على ذلك يرى الاخصائي أن العلاقة التربوية بين الأستاذ والتلميذ والولي فقدت عنصر العفوية ولم تعد صورة المدرس الذي يعلم ويربي أجيالا بل صورة «التاجر» الباحث عن الربح وأصبحت العلاقة «ربحية» بالأساس. وهذا ما يفسر بحسب رأيه تطاول التلميذ والولي على حرمة المؤسسة التعليمية وعلى هيبة الأستاذ. أما السبب الثاني فيعود الى التلميذ الذي يلجأ الى العنف في غياب الحوار وإلى التعبير عن انفعالات ومكبوتات متعددة المصادر ناتجة عن مراهقة صعبة ولو أحصينا حالات العنف ضد الأساتذة لوجدنا اغلبها لمراهقين لم يتجاوزوا 16 سنة وتتميز هذه المرحلة العمرية بتغيراتها الجسدية الكبيرة وبالرغبات الجنسية الباحثة عن التحقق والتي بدورها تؤثر على الجانب النفسي للشاب الذي يبدأ في تشكيل شخصيته ويبحث عن مرجعيات وأطر تحدد شكل الشخصية المستقبلية. بينما يعود السبب الثالث الى الولي الذي يبرهن من خلال تعنيفه للأستاذ على اعتراف ضمني بعجزه عن أداء دوره كولي. فهو يقضي أغلب أوقاته بين العمل والمقهى والتبضع أو أمام التلفاز وأجهزة الكمبيوتر تاركا المراهق يعالج مراهقته بنفسه. وفي خضم الضغوطات اليومية يشعر الأولياء بتقصيرهم في حق أبنائهم وهو ما يولد لديهم إحساسا بالذنب يترجمه الولي مباشرة بالعنف ضد المربي عندما يأتيه ابنه يشتكي من أستاذه برواية مغلوطة وقصص مختلقة. وختم الأخصائي تدخله بتوجيه الدعوة إلى تشكيل لجنة تضم أخصائيين في علم النفس وعلم الاجتماع ومربين لدراسة وضعيات العنف وتحليلها تشمل عينة من التلاميذ المعتدين والمربين الذين تعرضوا للعنف وتحديد المستوى التعليمي للأولياء ووضعيتهم الاجتماعية، ويتم على ضوئها وضع خطة عمل مستقبلية لمقاومة هذه السلوكيات الشاذة والغريبة عن مجتمعنا وعن تقاليدنا. «قم للمعلم ووفّه التبجيلا، كاد المعلم أن يكون رسولا». أين نحن من هذه المقولة، التي كان لها وقع في أذهاننا والتي أصبحت في أيامنا هذه لا معنى لها مثل العديد من المبادئ والقيم في هذا الزمن الذي طغت عليه المادة وانقلبت فيه جميع الموازين. تتساءل الأخصائية البيداغوجية وسيلة قيقة (مرشدة في الاعلام والتوجيه بالمنستير) مؤكدة أننا أصبحنا الآن نقوم للمعلم ونوفه قلة الاحترام ونمطره بوابل من الشتائم ويصل الأمر في بعض الأحيان إلى التعنيف الجسدي. مضيفة أن المربي في زمننا هذا عرضة للعنف اللفظي والجسدي من طرف التلاميذ والأولياء أيضا. وبينت الأخصائية أن العنف أصبح ظاهرة مجتمع بأكمله، مجتمع انفجرت فيه موجات عدوان مكبوتة في عائلاتنا وفي شوارعنا وفي ملاعبنا وللأسف في مدارسنا. من المسؤول؟ تؤكد الأستاذة المرشدة أن المسؤولية مشتركة بين العائلة والمدرسة والمجتمع بأكمله. وعليهم مجابهة هذه الآفة والتصدي لها بجميع الوسائل خاصة في الوسط المدرسي. وأوضحت انه يمكن التماس الأعذار للتلاميذ في بعض الأحيان إذا اعتبرنا أنه يمر بفترة المراهقة التي تتسم بتحولات فزيولوجية تصاحبها اضطرابات نفسية وسلوكية عميقة. فهو يعيش صراعات وتناقضات بين طموحاته الشخصية ويعتبر اي سلطة مضطهدة سواء كانت سلطة الأب أو سلطة المربي. وبذلك يكون توجهه عدائيّا نحو هذا الواقع الذي يرفضه ويعيش في صراع دائم الى جانب عدة أسباب اجتماعية تدفع بالمراهق إلى الأسلوب الجانح منها تأرجح العائلة بين نزعتين متضاربتين وهما النزعة المحافظة التي تتسم بالحزم المبالغ فيه والقسوة والعنف في تعامل الآباء مع الأبناء والتي يغيب فيها التواصل والحوار واحترام الآراء. والنزعة التجديدية التي جعلت الاباء يتصفون بالتساهل والتدليل وإعطاء الحرية المفرطة للأبناء دون مراقبة وهوما ادى الى تفكك العائلات نتيجة غياب التوازن بين هاتين النزعتين. وأشارت الاخصائية الى غياب الأب وتملصه من المسؤولية، وعدم قدرة الأم على السيطرة على أبنائها في غياب السلطة الأبوية. كما أكدت على مسؤولية المدرس عن ظاهرة العنف التي يتعرض لها من طرف التلميذ. فالعمل التربوي يضع المعلم والتلميذ وجها لوجه في تفاعل يقوم على أدوار وانتظارات للأدوار. فحق التلميذ على المدرس هو تربيته وتعليمه وغرس القيم والمبادئ في ظل الاحترام والنزاهة والموضوعية ودون المساس بحرمته الجسدية والمعنوية. واضافت انه إذا اختل التوازن في العلاقة بين التلميذ والمدرس أصبح الجو العام للدراسة يشوبه التوتر وأصبح التواصل بين الطرفين شبه مستحيل ويصل بالتالي الأمر إلى حد التصادم. عنف الأولياء: «حاسبني بالجلد»... لكن وشددت الأخصائية على أهمية الحوار لتفادي هذه الوضعية المحرجة، وتجرد المربي من كل انفعالاته وأن يتحكم في سير الأمور وأن يمتص أي توتر يحدث بينه وبين أي تلميذ سواء كان تلميذا عاديا أو تلميذا مشاكسا وأن يتبع أسلوب الحوار وأن يبتعد عن أسلوب الاستفزاز والتصعيد. وعليه التصرف برصانة وترو حتى لا يتأزم الموقف. ما هو غريب وغير مقبول، بالنسبة إلى الأخصائية هو لجوء بعض الأولياء إلى أساليب عنيفة ضد المدرس. كان الولي في السابق يقول للمعلم «حاسبني بالجلد « المهم هو نجاح ابنه في مساره الدراسي. أما في الوقت الحالي فيساند بعض الأولياء أبناءهم «ظالمين أو مظلومين» وهذا التصرف غير لائق إذا اعتبرنا أن الولي هو أيضا طرف فاعل في العمل التربوي ويشارك في تربية الناشئة وغرس القيم والمبادئ لديهم. فهو والمدرس على حد السواء يمثلان قدوة للتلميذ فإن تصرف هذا أو ذاك بعنف فلن نلوم التلميذ إن فعل بالمثل. خلاصة القول إن للعنف عدة وجوه وعدة أسباب. ولذا وجب على جميع الأطراف الفاعلة في العملية التربوية إيجاد الحلول الملائمة للتصدي لهذه الظاهرة التي استفحلت في مؤسساتنا. وأيدت الأخصائية مبدأ ضرورة تلقي المدرس تكوينا مسبقا في علم نفس المراهقة وتقنيات التواصل والإصغاء والإرشاد قبل مباشرة التدريس وذلك حتى يتسنى مجابهة المصاعب والعراقيل التي تواجهه عند التعامل مع تلميذه. وختمت تدخلها بالتأكيد أن التصدي لظاهرة العنف عموما وخاصة في الوسط المدرسي يتطلب تدخل ومشاركة جميع الأطراف الفاعلة في المحيط المدرسي وفي المجتمع ككل وعبر عديد القنوات الأخرى مثل وسائل الإعلام والجمعيات والفضاءات الخاصة بالطفولة والشباب كما يمكن التفكير في بعث نواد للسلوك الحضاري يشارك فيها أخصائيون في التربية، وأولياء، ومدرسون وتلاميذ مع تكثيف عدد مكاتب الإصغاء والإرشاد في المؤسسات التربوية التي تساند التلميذ على حمايته من الانحرافات السلوكية والتكيف مع محيطه المدرسي والاجتماعي وذلك بالإحاطة به والإصغاء إلى مشاكله ومرافقته حتى يتابع مسيرته الدراسية بنجاح. أزمة علاقة الأستاذ لطفي التلاتلي وفي تحليله لظاهرة العنف التي تصدر عن التلاميذ بين أن الأزمة في بعض معاهدنا هي أزمة علاقات بالأساس وأوضح أن التلميذ سئم التأنيب والزجر ولغة الوعيد بالعقاب التأديبي فيلجأ إلى العنف اللفظي وأحيانا إلى العنف المادي كشكل من أشكال التعبير. مضيفا أن مفهوم السلوك الحضاري غاب عن بعض التلاميذ داخل المدرسة وفي الشارع وحتى في البيت كما طالعتنا به آخر استطلاعات الرأي التي أجريت على الشباب المدرسي في بلادنا. كيف نتصدى بحسب الأستاذ التلاتلي تكون مكافحة العنف المدرسي علميا وتربويا و نفسانيا و إداريا وأمنيا. فعدم اتخاذ إدارة المؤسسة التربوية الإجراء التربوي المناسب ضد العنف في حينه قد يساهم برأيه في استفحال ظاهرة العنف و تطورها. كما أن مقاومة العنف المدرسي تكون بتطوير البيئة التربوية بشكل يسمح بمراقبة التفاعل بين التلميذ و المدرس والعاملين والأقران وتحسين العلاقة بين الأستاذ والتلميذ. كما أن تحسين الظروف المادية والاجتماعية للمربين والرفع من مكانتهم الأدبية في المجتمع قد يساهم في الحد من العنف والتوتر والصدام داخل المؤسسة التربوية. وبين ان الحد من عدد التلاميذ داخل الفصل وداخل المؤسسة التربوية قد يساهم في انحسار ظاهرة العنف المدرسي الى جانب تخفيف التوتر داخل الأسر الناتج عن القلق من الامتحانات. الشروق القيروان