لايتوقف الحراك السياسي بمدينة جرادة جراء الوعي المتقدم لعمال المناجم وصراعات نقابية طويلة لم تتوقف في يوم من الأيام. صراعات تترجمها صراعات وصلت صداها إلى المحاكم المغربية. بين منتخبي الحزب العمالي وحزب الإستقلال من جهة و11 عضوا معارضا من حزب الأصالة والمعاصرة ومابين الفريقين احتجاج لاينتهي. وفي قلب مدينة جرادة أوراش جديدة لتغيير صورة المدينة ومنحها صورة المدينة التي تستحقها، صورة المدينة المناضلة. بعد عشرين سنة من إغلاق معمل الفحم الحجري بمدينة جرادة وتسريح ألاف العمال والعاملات وجدت جرادة نفسها تئن تحت البطالة المقنعة والدعارة والتهريب والموت القادم في غفلة عن العيون والنفوس. ''مغرب اليوم'' تنقل تفاصيل حياة مدينة استبدل نضال عمالها ببؤس يومي يغلف الوجوه والأمكنة. أطفال الحلفاء والفحم: في الطريق الوحيدة، المؤدية من مدينة العيونالشرقية في اتجاه جرادة حوالي 50 كليومترا، حيث مرتفعات النجود العليا تغطيها غابات كثيفة من الحلفاء. نتوقف أكثر من مرة ونقترب من ثلاث طفلات لايتعدى سنهن 12 سنة وهن يحصدن رزما صغيرة من الحلفاء. إحداهن قمر(9 سنوات) تشتغل في مرح طفولي تحدثت ل ''مغرب اليوم'' :''ينقسم عملي في حصد هذه الرزم الصغيرة من الحلفاء، فكل ربطة تساوي درهما نبيعها في السوق الأسبوعي بمدينة جرادة وما تبقى تعمل عائلتي على حياكته لنماذج من الصناعة التقليدية''. نبتعد قليلا عن قمر لنجد يحيى 12 سنة يرعى بعضا من قطع الماعز والأغنام بمحاذاة ذات الطريق،لم يفهم لغتنا بشكل جيد وكل ما قاله ''واش أنتما من الداخلية'' (يقصد المغرب الأطلنتي)، بينما يتابع بانتباه حراسة أغنامه. نتقدم رويدا رويدا لنصل إلى مدينة جرادة، ركامات الفحم الحجري تحيط بالمدينة كسياج يحرسها،وفي قلب المدينة، يقبع ''المعمل الحراري للطاقة الحرارية'' وبالقرب منه ما تبقى من شركة استخراج الفحم الحجري التي أغلقت أبوابها سنة 1990 والتي كانت تشغل 7000 عامل وتم الاستغناء على هذه اليد العاملة بمجملها. تبدأ مشاكل مدينة جرادة مع قصة استخراج الفحم الحجري وتنتهي بمآسي عائلات بأكملها تئن تحث مرض ''السليكوز'' وهو مرض يصيب رئة المشتغل بالفحم الحجري ويصبح المريض يقذف من فمه قطعا صغيرة مكبدة من الدم وأجزاء من الرئة. أيمن ، طفل لايتعدى سنه 13 عاما ،تبدو النحافة ظاهرة على جسده الضعيف ،يتحرك بصعوبة، اشتغل في أبار استخراج الفحم الحجري، يحمل منديلا أبيضا به بقع من الدم من جراء إصابته بمرض السيليكوز، لايفتئ يردد'' أبي توفي بنفس المرض ، وأمي تشتغل بدورها في غربلة الفحم الحجري وكل ما نالته عائلتي هو هذا المرض اللعين''. في إطار تسريح العشرات من العمال من شركة الفحم الحجري ،التجأ الكثيرون من سكان جرادة البالغ تعدادها 60 ألف نسمة إلى الاشتغال بأنفسهم في استخراج مادة الفحم الحجري معتمدين على تقنيات بدائية ومخاطرين بأنفسهم بالارتماء في أبار عميقة تتعدى 40 مترا تحث سطح الأرض دون وقاية أو رعاية صحية أو ضمان اجتماعي في تسابق محموم بحثا عن رغيف العيش المر. شعار جرادة: ''الموت مقابل العمل'' تشتق كلمة ''سندريا'' من الفعل الفرنسي '' نزل'' ، والنزول هنا يعني الهبوط إلى أبار في المرتفعات الجبلية المحيطة بمدينة جرادة . والسندريا كلمة شائعة بين سكان المدينة،تعني الاشتغال بشكل عشوائي في أبار الفحم الحجري المنتشرة في المناطق المجاورة لها. خلف إعدادية '' سيدي محمد بن عبدالله'' ركام هائل من بقايا الفحم الحجري وعلى بعد مسافة قريبة منها تنتشر أبار لاستخراج الفحم . بين البئر والأخرلاتتعدى المسافة عشرة أمتار. البئر عبارة عن متر مربع يبلغ عمقه ما بين 30 إلى 40 مترا تحث سطح الأرض تم يتم النحت في اتجاه عمودي لايتعدى نصف متر، يشتغل العامل تحث رحمة ضربة الحظ من انهيار ركائز البئر الخشبية والمياه التي تباغت العاملين في كل حين. يحكي حميد مصطفى (24 سنة يشتغل حاليا رصاص) بنبرة حزينة ل'' مغرب اليوم''،حكايته في الإشتغال في استخراج الفحم الحجري من الأبار التي يتم حفرها في إطار تكتل لايتجاوز أربعة أشخاص :'' يمتد العمل على أربعة مراحل، أولى هذه المراحل حفر البئر هو (المينور) وهو الشخص الذي يغامر بحياته في أسفل البئر ويحفر تحث دعامات خشبية، تم (شكو) أو (الطبك) المصنوع من الحلفاء أو البلاستيك ويتم ملؤه بحوالي 20 كيلوغرام من الفحم الحجري تم المرحلة الثالثة الوصل وفي الأعلى شخصان(مول البهيمة) يقومان بعملية الجر بشكل يدوي''. يضيف قائلا والأسى يخيم على حديثه : ''تعرض العديد من الأشخاص للموت الحتمي مقابل 60 درهما وهو الأجر اليومي والذي يبتدئ من الساعة الخامسة صباحا إلى الثالثة زوالا''. تتعدد الأخطار ويحصرها الشاب سعيد الصالحي(30 سنة) مستشار في بلدية جرادة ل''مغرب اليوم'': ''إلى جانب مرض السيليكوز القاتل ،يتعرض العاملون في أبار الفحم الحجري إلى الإصابة بالعاهات المستديمة وبالموت المفاجئ إثر انهيار دعامات الأبارأو فيضانات المياه المباغثة. ففي كل سنة هناك ضحايا وقتلى ومع ذلك تستمر وثيرة العمل بحثا عن الخبر''. يزاوال هذا العمل الشباب والنساء والأطفال ولكل واحد نصيبه في الإصابة بالمرض كما تنال المدينة حظها من تلوث يومي يجبر الأمهات على غسل الملابس أكثر من مرة في اليوم. حراس الموت: الكلاب بدورها تموت يعمل لبيض البشير(72سنة) حارسا لأبار الفحم الحجري أي في السندريات منذ توقف شركة استغلال الفحم الحجري سنة 1990 مقابل أجر أسبوعي من الإثنين إلى الجمعة، يقدر ب200 درهما متحدثا ل''مغرب اليوم' وتجاعيد الزمن الموحش بادية في كل أركان جسده':''في أحد الأبار التي انفجرت بالمياه والتي تم تجفيفها ، في اليوم التالي وجد أربع كلاب ميتة جراء شربها لمياه البئر'' يضيف قائلا: ''بعد هذا العمر ،هاذيك هي الحقيقة البشعة التي يغمض المسؤولون أعينهم عن رؤيتها''. في نفس الجبل الواحد يوجد أكثر من 13 حارسا، كل واحد يحرس بئرا ويتحدث الحارس سعيد حمودي من مواليد1966 بصوت جهوري على عدم رضاه لما لسوء أحواله '' هناك معطلون حالصين على الإجازة وهناك تجار تعطلت بهم السبل، الأطفال، النساء بل الأدهى هناك مهاجر من اسبانيا يشتغل معنا في حفر الأبار مقابل 70 درهما في اليوم في أحسن الأحوال''. ويعمل الحراس على المساعدة في انقاد المصابين أثناء انهيار دعامات الأبارالفحمية، كما ينتشلون العديد من جثت المتوفين تحث أنقاض الحجر الفحمي. ويشتغلون بدون رعاية صحية أوضمان اجتماعي . إلى جانب الحراس هناك أناس يتجارون بموت العاملين حيث يملكون قطع ومعدات الحفر وكرائها مقابل200 درهما في اليوم. في حين أن ثمن الكيس الواحد من الفحم الحجري أي''الخنشة'' هو 60 درهم يتم بيعها لوسطاء بين المعمل والعاملين في الجبل ويتم بيعها مجددا للمعمل بثمن 150 درهم من طرف مقاولات محتكرة. جرادة:نساء بلون الرماد لايكاد يظهر من السيدة رقية(55 سنة ) ورفيقتها زينب(48 سنة/أرملة) سوى أعينهن وهما يقمن بتكسير أحجار الفحم الحجري بواسطة مطرقة وبغربلته ووضعه في كيس يساوي 15 درهما يتم بيعه لوسطاء بدورهم يبيعونه للمعمل الحراري بجرادة بثمن 45 درهم. تشتغل الأرمل والمطلقات والمتزوجات لإعالة أسرهن وهناك أطفال صغار يرافقون أمهاتهن المشتغلات في تكسير أحجار الفحم الحجري. وتتعرض الكثير من النساء لمرض السيليكوز وأمراض التنفس وإصابات بأمراض العيون وتشقق في الأيادي من جراء دقيق الفحم الحجري الذي يخترق بسهولة مناطق في جسد العاملات يصعب معالجتها. وتتحدث زيبب السابقة ل''مغرب اليوم'' دون أن تتوقف عن العمل وغبار الفحم يملأ المكان:'' بعدما أصيب بزواجي بعاهة مستديمة هنا في الجبل ،اضطرت إلى العمل من أجل إعالة عائلتي ،قولي أنت أشنو غادي ندير يرحم باباك''. وتستطرد نصيرة موساوي(33سنة) مستشارة ونائبة رئيس لجنة الثقافة بمجلس البلدي لجرادة:''أش غادي نقوليك، من الناحية الإنسانية هناك اضطهاد وحيف وقسوة في حق نساء جرادة، هذا العمل هو عمل استعبادي من أجل أباطرة أخرين يغتنون على حساب العاملين والعاملات في الجبل''. ثياب نساء ورجال وأطفال العاملين في أبار استخراج الفحم الحجري، متسخة وسوداوية تحمل في طياتها الإهمال الذي طال شريحة من سكان جرادة لم يجدوا بديلا عن أبار الموت مفرا لهم. جرادة :الترباندو والدعارة وجها لوجه لايفصل مدينة جرادة عن الحدود الجزائرية سوى جبل عصفور وعمليات تهريب السلع أمر عادي في ظل بطالة تحنق المدينة بكاملها. هشام عليلي(25 سنة/ جباص) تحدث ل''مغرب اليوم''جازما:'' جميع الأشياء والسلع هنا جزائرية،دقيق ،ملابس، العطرية،العصير ، القهوة... هي مواد مهربة ولكن باستطاعة الفقير اقتناؤها''. بدوره يحفل سوق مليلية والأسواق الأسبوعية يومي السبت والأحد بجرادة بالعديد من المنتوجات الجزائرية المعروضة للبيع في مقدمها البنزين والقرقوبي. قريبا من سوق مليلية يوجد حي ''الطوبية'' حيث تنتشر الدعارة ،فيما يطلق السكان على نساء الحي ب ''بنات الطوبية'' في إشارة قوية لتجارة اللذة بأسعار تتراوح بين 10 دراهم و20درهم . وقد سعت مجموعة من الوداديات السكنية لمحاربة ظاهرة الدعارة داخل البيوت وانتقال أغلبهن تحث ضغط الشكايات المقدمة للسلطات المحلية إلى ''برغم''( عين بني مظهر). وتتحدث ابتسام(23سنة) صاحبة محل لمواد التجميل ل''مغرب اليوم'' منتشية :''ما كاينش البديل وفرص العمل نادرة في المدينة ومن أجل تغيير الروتين تقبل النساء للعمل في أي شيء مقابل إعالة أسرهن،الوقت هنا خايب بزاف والعمل شاق.'' جرادة الشهيدة: المقبرة المهملة لايتوقف الحراك السياسي بمدينة جرادة جراء الوعي المتقدم لعمال المناجم وصراعات نقابية طويلة لم تتوقف في يوم من الأيام. صراعات تترجمها صراعات وصلت صداها إلى المحاكم المغربية. بين منتخبي الحزب العمالي وحزب الإستقلال من جهة و11 عضوا معارضا من حزب الأصالة والمعاصرة ومابين الفريقين احتجاج لاينتهي. وفي قلب مدينة جرادة أوراش جديدة لتغيير صورة المدينة ومنحها صورة المدينة التي تستحقها، صورة المدينة المناضلة. ونحن نهم عائدين يستوقفنا منظر جماعات من أطفال المدارس يقطعون مسافات طويلة مشيا على الأقدام للوصول لإحدى المدارس في إحدى المداشر القريبة من مدينة جرادة.تتوقف السيارة بالقرب منهم يعلق أحد الصغار:'' كيف جاتكم جرادة؟، راها مدينة الشهداء والمناضلين''. يعلق طفل أخر''بحال هاذ المقبرة المهملة في جنب الطريق''.