أعلن اتحاد الجامعات الوطنية لسائقي ومهنيي النقل بالمغرب تعليق الإضراب الذي كان منتظرا خوضه يوم 20 شتنبر الجاري، وبرر القرار -حسب مضمون البيان الصادر عنه- ب«وضع المصلحة العليا للبلاد فوق كل اعتبار»، وتضمن البيان إشارة إلى أن الأطراف المعنية ستواصل الحوار حول الجوانب الاجتماعية المرتبطة بفئة مهنيي النقل. وتثير المسافة الفاصلة بين إضراب أبريل 2009 وتعليق إضراب شتنبر 2010، مساحات رمادية لا يتضح فيها أن هناك طرفا يقدم تنازلات ما، مما يعني أن المفاوضات تنتهي ببلاغات مشتركة لا يتنازل فيها أي طرف، إلى درجة أن قواعد المهنيين لا تعرف لماذا يعلن عن الإضراب ولماذا يعلق؟ وما هي المكاسب والخسائر؟ بل أكثر من ذلك أن العديد من مهنيي قطاع النقل لا يعرفون، إلى حدود ليلة الأحد (19 شتنبر)، أن الإضراب تم تعليقه. وقبل إثارة الأبعاد السياسية لحالات التعاون والصراع حول مدونة السير، دعونا نتفق، أولا، على أن هذه المدونة من أكثر القوانين التي أثارت صراعات واحتجاجات في تاريخ المغرب، وأنها أعطتنا لأول مرة نمطا جديدا من الاحتجاجات هو الاحتجاج على التشريع، في وقت كان يعتقد فيه أن المجتمع لا ينتبه إلى ما ينتجه البرلمان والحكومة من قوانين. ثانيا، على القاعدة القانونية كآلية للضبط والتنظيم تحكمنا لما تكون قادرة في لحظة ميلادها على خلق تصور أو تمثل، وأن القاعدة التي تفتقر إلى هذا الشرط تولد ميتة، وهو شرط غائب في مدونة السير، وأن الخلل مرتبط بمنهجية إعدادها وغياب التشاور حولها في المرحلة الأولى من إعدادها، فلا أحد يمكن أن تقنعه بسهولة بحجة مفادها أن المدونة جاءت للحد من حوادث السير. وثالثا، على أن هذه الفئة (مهنيو النقل) هي جسم له خصوصيته في علاقته بالنقابات، مادامت النقابات في المغرب قد أطرت الموظفين والعمال، ولكن هذه الفئة ظلت بعيدة عن التأطير نظرا إلى طبيعة مطالبها وطريقة إنتاجها للحركات المطلبية التي لا تشتغل بأشكال الدهلزة أو الاحتجاج منخفضة التكلفة بشكل يزود الفاعلين السياسيين بمؤشر موثوق يساعد على فهم مطالبها وتكلفة الاستجابة أو عدم الاستجابة لها. فإذا كانت الأجسام المهنية من موظفين وعمال منخفضة نوعا ما -لأن أعضاءها يكونون على استعداد للانخراط في أشكال خاصة منخفضة الكلفة، مثل الكتابة إلى نائبهم البرلماني أو ربما الضغط عليه شخصيا- فإن الجسم المهني للنقل يشعر أعضاءه بقوة، وبالتالي يكونون مستعدين، كما أظهر ذلك إضراب أبريل 2009، لاتخاذ إجراء أكثر كلفة، مثل تنظيم حملة عامة ضد مقترحات تتعلق بالسياسات، أو اللجوء إلى إعداد اجتماعات احتجاجية محلية ووطنية بسرعة، أو الإضراب أو مظاهرات سريعة الانزلاق، رغم صعوبات التواصل بين مكوناتها التي تظهره أحيانا. وإذا كان من الممكن أن نتفق حول هذه العناصر، فإن المسافة الفاصلة بين إضراب أبريل 2009 وتعليق إضراب شتنبر 2010، في شقها السياسي، تطرح السؤال حول كيفية تعامل الفاعلين السياسيين مع المدونة، هل زودت الأحداث المرتبطة بالمدونة الفاعل السياسي بمؤشر موثوق يبين أنه فهم مطالب مهنيي النقل؟ وهل نجد في سلوك طرفي الصراع السياسي حول مضامين المدونة، والمتمثلين في حزب الاستقلال وحزب الأصالة والمعاصرة، ما يوحي بتزودهما بمؤشر موثوق يبين أنهما فهما مطالب مهنيي النقل؟ فداخل المسافة الممتدة بين أبريل 2009 وشتنبر 2010، وظف حزب الأصالة والمعاصرة ثلاثة سلوكيات مختلفة في تعامله مع ملف مدونة السير: التوظيف الأول هو التدخل لحل الأزمة بين المهنيين والحكومة أثناء إضراب أبريل لسنة 2009، وهو تدخل جاء في آخر عمر الأزمة، وتبدو الضمانات التي قدمها الحزب إلى المهنيين غامضة إلى حد الآن. والتوظيف الثاني هو التعاون لحل أزمة الحكومة داخل البرلمان بالتصويت على نص المدونة في البرلمان. أما التوظيف الثالث فهو الانسحاب من إحدى جلسات مجلس المستشارين احتجاجا على غياب النصوص التطبيقية للمدونة، وداخل هذه التوظيفات الثلاثة ليست هناك مسافة ما بين معارضة الأداء والعمل الحكومي ومعارضة حزب الاستقلال. مقابل ذلك، اعتمد حزب الاستقلال على جناحه النقابي (الاتحاد العام للشغالين) ليلعب دورا داخل «فرضية الحمل الزائد»، بعكس مسارات الأزمة والتخفيض تدريجيا من توقعات المهنيين من الحكومة. ويبدو حاليا أن المدونة، بعد فترة التعاون بين حزب الاستقلال وحزب الأصالة والمعاصرة الممتدة من إضراب أبريل 2009 إلى حدود التصويت عليها في البرلمان، ستكون مدخلا للصراع بين الحزبين في الفترة الزمنية الممتدة إلى حدود 2012، وهو صراع يحمل فيه الحزبان رهانين مختلفين: رهان استمرار حزب الاستقلال في قيادة الحكومة والحفاظ على ثبات الأغلبية الحكومية إلى حدود 2012، ورهان الأصالة والمعاصرة في تعبئة كل الإمكانيات المتاحة في المعارضة لإظهار ضعف الحكومة، والثقل السياسي في هذه الحالة لا يتحمله حزب الاستقلال وإنما حزب الأصالة والمعاصرة الذي يحتاج إلى عزل حزب الاستقلال عن حكومة يقودها حزب الاستقلال نفسه. وفي حالة المدونة، هناك نوع من الوضوح لكون القطاع مرتبطا بوزير ينتمي إلى حزب الاستقلال، لكن الصعوبة هي في قوانين أخرى كقانون المالية المقبل، مثلا، كنص استراتيجي سيعرض خلال الدورة البرلمانية الخريفية المقبلة، فالمسافة بين حزب الاستقلال والحكومة التي يقودها حزب الاستقلال وضعف إمكانية إسقاط الحكومة التي يقودها حزب الاستقلال قبل انتخابات 2012، يخلقان وضعية صعبة أمام حزب الأصالة والمعاصرة كمدافع مفترض، حاليا على الأقل، عن مهنيي النقل. ويبدو أن هناك مقتضيات لم تكن محسوبة في التصويت أو في الاحتجاج على عدم إصدار المراسيم التطبيقية، من حيث حجمها وتكلفة إمكانية عدم تطبيقها، تبتدئ بحالة باقي الفاعلين المرتبطين بتطبيق المدونة: هل هم مهيؤون مع انطلاق التطبيق؟ وتنتهي بوعد الحكومة بحل الملف الاجتماعي لمهنيي النقل الذي يبدو أنه «مغامرة» طرحتها الحكومة دون قياس تكلفتها. إن الصراع السياسي حول المدونة يجعلنا داخل المنظر التالي: من جهة، مزيد من اقتراب حزب الأصالة والمعاصرة إلى جسم مهنيي قطاع النقل، خاصة وأن الحزب في حاجة إلى جسم نقابي قد يكون أكبر وأوسع، مقابل انتظارات مهنيي النقل من حزب الأصالة والمعاصرة. ومن جهة أخرى، صعوبة انتزاع مطالب من حكومة يصعب فيها وضع المسافة بين الصراع مع حزب الاستقلال والصراع مع حكومة يقودها حزب الاستقلال.