يشتد اهتمام المغاربة بفن التبوريدة في الحفلات والمهرجانات والمواسم،التي تفوق المائة،حتى أن هذا الفن الفرجوي يكاد يكون العلامة المميزة لهذه الاحتفالات،خاصة أنه يختلط بكثير من الطقوس الطافحة بالرموز والدلالات التراثية العميقة. وترجع فنون الفروسية المغربية التقليدية أو "التّبُوريدَة" إلى القرن الخامس عشر الميلادي،وتعود تسميتها إلى البارود الذي تطلقه البنادق أثناء الاستعراض،وهي عبارة عن مجموعة من الطقوس الاحتفالية المؤسسة على أصول وقواعد عريقة جدا في أغلب المناطق المغربية،وخصوصا في المناطق ذات الطابع البدوي. وتتعدد المناسبات التي يحتفل بها المغاربة والتي تتخللها عروض من فن "التبوريدة" مثل حفلات الأعراس والمواسم والعقيقة والختان.وتمثل هذه الوصلات الفنية المغرقة في الرمزية اختزالا للطقوس الكرنفالية والفلكلورية لدى المغاربة التي ينسجم فيها اللباس مع الغناء والرقص والفروسية والأضحية والنار..في سياق متناغم. وعلى إيقاع صوت البارود وزغاريد النساء،اختتمت فعاليات الدورة الثالثة لمهرجان التبوريدة والفروسية الإستعراضية الذي نظمته جمعية رحاب للثقافة والتنمية الإجتماعية والرياضية والحفاظ على الموروث الثقافي الحضاري بوجدة بدعم من مجلس عمالة وجدة أنجاد ومجلس الجهة الشرقية تحت شعار "ركوب الجياد،إحياء لسنة الأجداد"،بعد أن عاشت واحة سيدي يحيى وعلى مدى ثلاثة أيام (27-28 و29 شتنبر 2013) احتفالات شعبية منقوشة بفنون التبوريدة التقليدية إحياءا للموروث الثقافي المحلي. المهرجان الهادف للاحتفال بالموروث الثقافي المغربي المتمثل في التبوريدة الأصيلة،والحفاظ عليها وإعطائها المكانة التي تستحقها كتراث أصيل،عرف عرف إقبالا واسعا للمشاركة,إذ شاركت فرق عمالة وجدة أنكاد وعمالات أخرى من الجهة الشرقية،إضافة إلى فرق من جهات أخرى،حيث سجل مشاركة ما يقارب 62 سربة وحوالي 770 فارس بالجهة الشرقية حيث يتأصل هذا الفن ويتوارث أبا عن جد،إلى جانب ضيوف على المستوى الوطني،وعرف نجاحا كبيرا،تؤكده أرقام الزوار الذين استمتعوا بأطباق مختلفة من استعراضات التبوريدة إلى الحفلات الموسيقية التي أحياها عدد من شيوخ الفن الشعبي المحلي. وذكرت الجهة المنظمة لوكالة المغرب العربي للأنباء "أن هذه التظاهرة الرياضية والثقافية تعتبر مناسبة تاريخية لكافة السلطات والفاعلين المتدخلين في الشأن التنموي بصفة عامة ومجال الفرس بشكل خاص للاستدراك والتفكير جديا في إعادة الاعتبار لقطاع الفروسية وتبويئه المكانة اللائقة به.ويتوخى المنظمون أيضا من هذه التظاهرة توسيع وتشجيع تربية الفرس الأصيل بالمنطقة وإدماجه في النسيج الاقتصادي للجهة الشرقية وإحياء التراث الفني والحضاري المرتبط بالخيل،بالإضافة إلى تشجيع الفروسية الاستعراضية والرياضية وكذا المنتوج المتعلق بالفرس والفروسية.كما يمثل هذا المهرجان فرصة للتعريف بقطاع تربية الفرس البربري الأصيل بالجهة وعرض عتاد الفرس والفارس والوقوف عند خصوصيات المنطقة في هذا المجال،فضلا عن كونه فضاء لترجمة الطموحات الجهوية في مجال إدماج الفرس والفروسية في النسيج الاقتصادي والاجتماعي،وكذا ملتقى للتفكير الجماعي وتبادل الخبرات بخصوص تجاوز الإكراهات والصعوبات التي يواجهها القطاع". وتعتبر هذه النسخة تأسيس لتقليد احتضنه الأجداد،وإعادة الاعتبار لتراث الفرس والفروسية والتي كانت سمة بارزة تحمل معالم الهوية والحضارة الأصيلة،والتي تعتبر الجواد العربي الأصيل نواتها،خاصة إقليموجدة أنجاد بقبائله التي أبلت البلاء الحسن وكانت حاضرة للدفاع عن قضايا الأمة والمقاومة ضد المستعمر. كما راهن المنظمون على جعل الجواد والاهتمام به،إشارة إلى استثمار الموروث الثقافي لخدمة التنمية بالمنطقة والإقليم،وكذا الإسهام في الإقلاع الفلاحي وبالتالي الاقتصادي،إضافة إلى دعوة شباب المنطقة إلى توارث هذا الاهتمام والحفاظ على هذا الموروث الأصيل في وعي وحضارة الأمة المغربية والاسلامية. رئيس المجلس الإقليمي لعمالة وجدة أنجاد صرح ل"الوجدية" بأن الفرق المشاركة "تنتمي إلى قبائل إقليموجدة أنجاد والأقاليم المجاورة بالجهة الشرقية،المعروفة بتربية الخيول،وشغفها الكبير بركوب الخيل والمحافظة على هدا الموروث الثقافي والفني الذي أصبح تقليدا بعدما أوشك فن الفروسية التقليدية على الانقراض بفعل عوامل ظاهرية كالجفاف،وعوامل باطنية.ومثل هذه المهرجانات التقليدية استمراريتها رهينة كل المسؤولين على الشأن المحلي والجهوي والوطني وجمعيات المجتمع المدني،وتطويرها يعطي قيمة مضافة لمربي الخيول،ولسلالة الخيول المعروفة بالمنطقة.وتقليدا كانت لكل قبيلة محركها الخاص لتخليد الاحتفالات الوطنية والدينية والأعراس،والمدن كذلك التي تحترم هدا الموروث الثقافي المتمثل في التبوريدة التقليدية تخصص له فضاء لتتمكن الساكنة من التجاوب بشكل كبير مع الفرس والتبوريدة،التي تعد رمزا للتواصل بين الأصالة والتقاليد،التي تشكل جزءا من ثقافة المملكة وتاريخها التليد،والحداثة باعتبار أن هذا الثراث يلتف حوله الشيوخ كما الشباب مما يضمن انتقاله من الرعيل الأول إلى الجيل الصاعد". أحد أعضاء اللجنة المنظمة صرح ل"الوجدية" بأن المهرجان "استقطب جمهورا عريضا من هواة التبوريدة،المهتم بتقاليد الفروسية وموروثها كرمز للذاكرة الثقافية المغربية ومدى تشبث المغاربة بتربية الخيول بحكم ارتباطهم التاريخي بالفرس وتنوع استعمالاته (فنون الفروسية التقليدية والأعمال اليومية بالبوادي وسباقات الخيل ومسابقات القفز على الحواجز...)،كما عرفت المناسبة نجاحا باهرا لولا الحادثة المؤسفة التي وقعت في آخرها بسبب تهور فارس متهور استعمل بندقيته خارج المضمار المخصص لها". أستاذ جامعي مختص في التراث المحلي ذكر ل"الوجدية" بأن السربة التي تضم كل واحدة منها 14 فارسا وفرسا إضافة إلى المقدم"،وتكون في غاية الانضباط لتنفيذ "التبوريدة" بدقة متناهية،على أن يتكلف "المقدم"،الذي غالبا ما يكون أكبر الفرسان سنا، بمهمة تنظيم وتحفيز فرسانه.وقبل أي انطلاقة (محاولة) يستعرض المقدم فرسانه قبل أن تدخل المجموعة إلى فضاء العرض وتبدأ بتحية الجمهور (الهدة أو التشويرة أو التسليم).إثر ذلك يعود الفرسان إلى نقطة الانطلاقة،حيث يصطفون في خط مستقيم في انتظار إشارة "المقدم"،لتنطلق الخيول في سباق بديع يبرهن خلاله الفرسان عما يتوفرون عليه من مهارات سواء بالنسبة للسيطرة على الجياد لإبقائها في الصف أو في ما يخص الحركات الدائرية التي يؤدونها ببنادقهم قبل تنفيذ الطلقة بالبارود.ويحرص الفرسان على ارتداء الزي التقليدي الذي يتكون من "الجلابة" و"السلهام" و"العمامة" و"السروال الفضفاض" وكلها بيضاء،ويتمنطقون بالخنجر فيما ينتعلون نعلين من النوع العالي،أما السلاح التقليدي لفنون الفروسية التقليدية فيتمثل في البندقية المعروفة ب "المكحلة" وتكون مرصعة بخطوط ونقوش متموجة.وتزيد السروج،التي تعهد بها العشائر المشاركة في هذا العرس لصناع مهرة يبدعون في تزيينها برسومات وتطاريز مستمدة من التراث المغربي الأصيل،صهوة الجياد تألقا وتضفي على الفارس مزيدا من الوقار وتبرز مكانته الاجتماعية وحظوته في قبيلته.وأضاف محدثنا بأن "التبوريدة" تعد طقسا احتفاليا وفلكلوريا عريقا لدى المغاربة،وهي ليست وليدة العصر،لذلك باتت مرتبطة في أذهانهم بتقاليد وعادات تجمع بين المقدس والدنيوي،حيث تصاحبها مجموعة من الأغاني والمواويل والصيحات المرافقة لعروضها والتي تحيل على مواقف بطولية،وهي تمجد البارود والبندقية التي تشكل جزء مهما من العرض الذي يقدمه الفرسان،خاصة عندما ينتهي العرض بطلقة واحدة مدوية تكون مسبوقة بحصص تدريبية يتم خلالها ترويض الخيول على طريقة دخول الميدان، وأيضا تحديد درجة تحكم الفارس بالجواد.وتشكل التبوريدة جزءا لا يتجزأ من التراث المغربي الأصيل الذي يعيد الذاكرة الشعبية والمتفرجين في مناسبات عديدة إلى عهود مضت،وهنا يمكن القول إن المغاربة الذين يمتلكون الخيول المدربة على التبوريدة هم من علية القوم في القبيلة وأصحاب خبرة وشأن عظيم ونخوة وقيمة في البلاد.وضمن استعراضاتها لا تستطيع فرق الخيالة "البواردية" العمل دون أن تصاحبها أهازيج شعبية مثل "العرفا" و"الطقطوقة" الجبلية ووصلات "النفار" وفرق "الطبالة" و"الغياطة" و"الكوامانجية"،وهي عناصر متلازمة في كل الحفلات العمومية والمواسم والمهرجانات الشعبية. بينما أفادنا أحد أبناء الفلاحين من قبيلة لبصارة ممن يدرسون بجامعة محمد الأول،والذي خصص بحث إجازته حول التبوريدة،بأن هذه الأخيرة فن يؤديه فرسان ينتظمون في دوائر حول شيخ مسن،يشكل رئيس فرقة التبوريدة يدعى "المقدم" أو "العلام"،ويبدؤون في الدوران حول الحلقة،وهم يرددون عبارات متنوعة تذكر ب"حَرْكة الجهاد"،ثم يطلقون نيران بنادقهم في اتجاه السماء أو في اتجاه الأرض تابعين في ذلك إشارة "المقدم"،وكلما كانت الطلقة منسجمة وموحدة،كان اللغط والتصفيق والزغاريد،وكلما كانت الطلقات متناثرة ومشتتة غضب المقدم ومعه الجمهور.وقال بأن "التبوريدة" فن يحتاج إلى تدريب كبير ومستمر من أجل ترويض الجواد على طريقة دخول الميدان والعدو في انسجام تام مع باقي الخيول.ويكون "المقدم" هو المسؤول عن تنظيم الفرقة عند خط البداية وإعطاء إشارة الانطلاق وإشارة الوقوف الذي يعد بمثابة سيطرة على الجواد،وتكون الإشارة النهائية بإطلاق الرئيس طلقة من بندقيته التقليدية،وبعد ذلك يعود الفرسان إلى نقطة الانطلاق ليكرّروا العملية من جديد،ويستعرضوا مهاراتهم أمام الجمهور. وأضاف بأنه للحفاظ على اللياقة البدنية للفرس،يحتاج صاحبه إلى ترويضه باستمرار،والعناية به وفق برنامج مضبوط وصارم من العلف والتدريب والغسل،وإلا فإنه يفقد بسرعة لياقته وقدرته على المنافسة،وتتطلب هذه العمليات من صاحب الفرس إمكانيات مادية كبيرة ترهق كاهله بميزانية ترتفع بالتدريب مع اشتعال أسعار العلف وتعاقب سنوات الجفاف.كما أن كثيرون يتخوفون من انقراض هذا الفن العريق،خاصة أن من يحافظ على هذا التراث هم من الفلاحين البسطاء الصّامدين في البوادي في غياب أي دعم من المؤسسات الرسمية التي يفترض فيها السهر على تقديم المساعدات لهؤلاء بغية الحفاظ على التراث الرمزي للبلاد،خاصة في الأيام العصيبة،وفي مواسم الصيف التي تتطلب من "الباردي" مصاريف زائدة مثل التنقل إلى حلبات السباق في المواسم والمهرجانات. ويعول عشاق هذا الفن التراثي ومحترفوه على إقبال أجيال جديدة عليه للحفاظ على رأسمالهم الرمزي الذي توارثوه عن أجدادهم ختاما أصبحت هناك مهرجانات خاصة بالتبوريدة،بدل كونها مجرد وصلات مؤثثة للموسم أو المهرجان إلى جانب عروض أخرى.كما لم تعد التبوريدة حكرا على الرجال،بل ظهرت فرق نسائية خاصة من الخيالة يزداد عددها في المهرجانات سنة بعد أخرى.