هل أضحت السياسة عند النائب البرلماني أفتاتي فنا مرتبطا باستصغار كل فعل سياسي غير منسوب للعدالة والتنمية؟ أم أصبحت السياسة عنده علما متميزا بقواعده الدقيقة التي تصب مجملها في كون الهجوم هو خير وسيلة للدفاع وجعل الخصم تبعا لذلك يدخل في مزايدات تفرز واقعا متشنجا شبيها بالذي أوصل العدالة والتنمية إلى الحكم؟ أم أن سياسة الحاضر تقتضي إعلان القطيعة مع الماضي بل تفرض محاكمة رموزه وتشويهها بكل الذي شاع عن الفساد والمفسدين غداة خروج شباب حركة 20 فبراير إلى الشارع؟ لا نستطيع الجزم بصحة أي فرضية من الفرضيات السابقة، كما أنه لا يخامرنا شك في اعتبارها أسئلة ضرورية لفهم شخصية سرقت الأضواء بسبب تصريحاتها التي اعتبرت في أكثر من فرصة أنها نارية وغير بريئة. لكننا متيقنون أن النائب البرلماني عبد العزيز أفتاتي ظاهرة سياسية لم يسبقه إلى جرأته واتهاماته وخروجه منها منتشيا بانتصاراته، أي فاعل سياسي سابق مهما بلغت راديكاليته من مبلغ. قد نقف قبل هذا عند نبير الأموي الذي انتهت به جرأته إلى معانقة السجون كما ألفتها اللحمة الاتحادية، فقد رفعت ضده حكومة عز الدين العراقي دعوى قضائية انتهت بمحاكمته الشهيرة سنة 1992 لأن هذه الحكومة اعتبرت نفسها كموصوفة بكلمة " المناقطية " الاسبانية التي تفيد اللصوص كما نسبت إلى القائد الكونفدرالي آنذاك، وأجبرته على العيش وراء القضبان لمدة ليست باليسيرة. المؤكد أن أفتاتي في هذه المرحلة لم يكن قد بلغ الحلم السياسي بعد، بل كان في هذه الفترة ما زال يبحث بمعية جيل رواد الحركات الإسلامية عن مظلة سياسية تقيه تهمة العمل السري الذي أنهكهم كثيرا، والمؤكد أكثر أن عبد العزيز أفتاتي يجيد انتقاء الجهات والشخصيات التي يكيل لها الانتقادات والتهم، كما هو بارع في انتقاء اللحظات والمناسبات التي يصطاد فيها الفرائس وينقض على الطرائد. فبالرغم من هذه الصور المكبرة التي تنتصب في تمثلات المواطن المغربي عن هذه الشخصية البرلماني المثيرة للجدل، فإنه لا يمكن فهم السر وراء بلوغ عبد العزيز أفتاتي هذا المبلغ دون ربطه بوصول عبد الإله بنكيران إلى رآسة الحكومة بعد فوز حزب المصباح في تشريعيات 25 نونبر 2011. كانت البذرة الأولى لهذه الحكومة ولكثير من رموزها داخل الشبيبة الإسلامية خلال نهاية الستينيات من القرن الماضي والتي يعتبر الشيخ مطيع زعيمها الحقيقي، وبعد خمس سنوات على التأسيس أي بالضبط سنة 1975 سيتم اغتيال الزعيم الاتحادي عمر بنجلون وستوجه التهمة مباشرة لهذه الشبيبة، فهرب زعيمها إلى ليبيا ودخلت العناصر الأخرى في حالة من الجمود السياسي، بل كانت هذه المرحلة التي أعقبت اغتيال عمر بنجلون مرحلة مراجعة شاملة بالنسبة لأبناء الحركة الإسلامية على حد تعبير عبد الإله بنكيران نفسه، لذلك وابتداء من سنة 1981 سيتم التدشين لتأسيس حركات أخرى بعد الانفصال عن الشبيبة الإسلامية ومنها بالطبع حركة الإصلاح والتوحيد التي اتهمت في هذه المحطة كما اتهم بنكيران وقتها بأنه ينفذ أجندة مخزنية محضة تروم تطويع أبناء الحركة الإسلامية وتدجين التيار الإسلامي لصالح أطروحة النظام، لكن حركة بنكيران وبالرغم من هذه الزوابع فقد استطاعت في في هذه المحطة استمالة أنصار جدد يحملون نفس المشعل ونفس الرؤية وذلك بانضمام ثلاث حركات إسلامية جديدة، وربما في هذه المرحلة كانت هامة عبد العزيز أفتاتي قد بلغت مرحلة النضج لتلج العمل الحركي بعد مخاض إيديولوجي وفكري عسير، وسيتعرف أفتاتي في هذه المرحلة على الرموز وجيل الرواد انطلاقا من مدينة وجدة. لكن قبل هذه المرحلة لا نملك كثير معطيات عن هذه الشخصية، فحتى المحاولة التي قمنا بها للاتصال بالسيد عبد العزيز لاستفساره عن مرحلة الصبا والفتوة، قوبلت بشيء من المداعبة والتهرب وكل ما استطعنا انتزاعه منه خلال مكالمة هاتفية على عجل، أنه تابع دراسته الابتدائية والإعدادية والثانوية بإقليم خنيفرة لينتقل بعد ذلك إلى وجدة في المرحلة الجامعية وبعدها سينتقل إلى فرنسا لإتمام دراسته العليا ليعود مرة أخرى إلى وجدة أستاذا جامعيا. فعندما كان عبد العزيز أفتاتي طفلا صغيرا يتأبط محفظته ويتوجه إلى المدارس بإقليم خنيفرة لم يكن يتصور يوما أن مدينة وجدة ستحمل له من أسباب النجاح وستوفر له من عوامل ذيوع الصيت ما يوصله إلى قبة البرلمان خلال ثلاث ولايات تشريعية، لذلك فهو ظاهريا ممتن لهذه المدينة ولذلك يصف نفسه بأنه ابن بالتبني لمدينة زيري بن عطية، مادام النسب والانتماء لا يدلسان كما تدلس المبادئ والأفكار، وهذه واحدة من النقائص الالتي يحاول منتقدوه ومنافسوه وحساده تجريحه بها، ولنستمع إلى نور الدين زاوش صاحب كتاب الجالية اليسارية بحزب العدالة والتنمية في إحدى المقالات المنشورة بهسبريس، يتحدث عن هذا الانتماء: " إنني لأشعر بالإهانة حينما أجد ذلك الشخص يمثلني مرتين، مرة لأنه رفع شعار الإسلام، وهو الشعار الذي آمنتُ به منذ صباي وما زلتُ، ومرة لأنه يمثلني بمدينة وجدة، وأستغرب في الوقت ذاته من أولئك الوجديين الذين لا يشعرون بهذه الإهانة، بل هناك من يدافع عنه بدون قيد أو شرط، وكأنه من المبشرين من الجنة، أو أنه حضر بيعة الرضوان. ليس جديدا على ساكنة وجدة أن يكون هذا الرجل من مدينة خنيفرة، ولا يكون من هذه المنطقة الغراء، ولا أحد يُحَدث نفسه عن السبب الذي يضطر الوجديين لكي يستعينوا بشخص من خارج مدينتهم الأبية كي يمثلهم في البرلمان، أعجزت هذه المدينة أن تنجب أمثاله؟ أم أن هذا الشخص هو قدرُها المقدر، ونصيبها المفروض؟ حتى إذا كنا نستحسن الصراخ، ألا يوجد في هذه المدينة من يجيد الصراخ غيرُه، وحتى إذا كنا نُعجب بمن يكسر الطاولة أثناء المحاضرات الفارغة المضمون، ألا يوجد من يكسرها غيرُه؟ أليس فيها من له القدرة على أن يتلون بين المواقف من النقيض إلى النقيض بدون حسيب أو رقيب، إذا كنا نهوى “التلون"؟ أليس فيها شخص آخر يمكن أن تصفه الجرائد بأنه مختل عقليا، مثلما فعلت جريدة الإتحاد الإشتراكي مع السيد أفتاتي نقلا على لسان أصحابه في البرلمان؟ قد يعتقد متحاذق ضعيف التكوين الشرعي، قليل فهم الدين، جاهل بالسنة النبوية العطرة، أنني رجل أدعو إلى الطائفية البغيضة، لأنه لا يعلم أن الرسول حينما كان يزور القبائل، كان يجعل حاكمها واحدا من أفرادها، وليس من منطقة أخرى، فهل كان بدوره طائفيا؟ حاشاه، ولكن السنة النبوية الشريفة تعلمنا أن أَقْدر الناس على فهم التجمعات البشرية، ومعرفة لغتها، وضبط مصطلحاتها، ومعرفة خبايا نفوس أفرادها لا يمكن إلا أن يكون واحدا منها. أتمنى من أولئك الذين يرونني ضالا عن الطريق القويم، أو زائغا عن المحجة البيضاء، أن يسألوا الله تعالى لي الهداية، ومن كان يراني جاهلا أن يسأل الله لي بعلم من لدنه، ومن كان يراني حاسدا أن يسأل الله بأن يشفي صدري من الحسد، وحتى من يَسُبني ويشتمني وهو يعتقد أنه يتعبد إلى الله تعالى بذلك، فأنا أنصحه بأن يستمر في هذه المهمة، طالما أنه يراها مهمة نبيلة. " من الحقائق التي لا يستطيع أي متتبع الطعن فيها كون لائحة حزب المصباح بوجدة كانت ستتربع على قائمة الفائزين كيفما كان اسم وكيلها، وهذا ما تؤكده القولة المنسوبة لادريس جطو أيام كان وزيرا للداخلية، وهو يخاطب أعضاء من حزب العدالة والتنمية : " إن الموجة اليوم تدفعكم إلى الأمام فلا حاجة بكم إلى المزيد من التجديف " وهذه الجملة تعبر عن مأزق الدولة آنذاك في التعاطي مع مد الحركات الاسلامية في شارع غاضب وفقير ومهمش ومستاء ن الأحزاب الإدارية والوطنية على السواء. لكن بالرغم من هذه الموجة التي استحضرها ادريس جطو يبقى لاسم افتاتي مكانته في التاريخ السياسي المغربي المعاصر وتبقى بعض مواقفه شاهدة له على جرأة ما لم يدنسها كذب أو بهتان، فلقد شكلت قضية الاتهامات التي وجهها عبد العزيز افتاتي لوزير المالية السابق ودخول وزير الداخلية محند العنصر على الخط غداة إقحام “الجهات المعلومة" في هذا الأمر، مناسبة ليتصدر النائب البرلماني عن دائرة وجدة انكاد لائحة المشاغبين على الساحة السياسية الوطنية، ولم يمر تناسل الأحداث بالسرعة المعروفة في هذا الملف دون البحث في شخصية هذا البرلماني المشاكس وفي قناعاته وخرجاته التي لم تعد سرا على أحد، ولم يجد معارضوه أي حرج لوصفه بأرذل النعوت، حتى تساءل نور الدين زاوش هل صحيح أن عبد العزيز أفتاتي مختل عقليا؟. فبالرغم من كل الاختلافات التي تعود إلى فن كل متحدث عن عبد العزيز أفتاتي، كما قد تعود إلى الشحن الإيديولوجي المتباينة بتباين الانتماءات والقناعات، تشترك الصور المكبرة لنائب العدالة والتنمية في ثلاث محطات متفرقة بدائرة وجدة انكاد، في كونها تلتقي في مجابهة كل المناهضين بالقوة، وبالشغب الذي يتحول في مناسبات كثيرة إلى صخب لا هوادة فيه، كما أنها تثير بالفعل التساؤل وتطرح الاستغراب في الواقعية التي لا تصدق لهذا الوجه المفعم بالدعوة إلى أسلمة المجتمع، اختلف الكثيرون في تأويلها. ولعلنا لن نجانب الصواب إذا ما ادعينا أن البرلماني المطمئن إلى سلفيته ومرجعيته الدينية، تجد في فوزه في كل المحطات الانتخابية التي خاضها، رمزية لنجاح الجهر بالمعارضة والاهتمام بقضايا الطبقة المسحوقة، كما يجد في هذا الفوز المتوالي الهاتف بفضيلة الإسلام السياسي وموجة العالم الإسلامي القادم، الذي ينحت فيه ومنه ملامحه المشتهاة. ولعله من باب الكناية المفرحة أن البداية عند أفتاتي مازالت بحلاوة الانتشاء بفوز حزب المصباح واحتلاله للمرتبة الأولى في استحقاقات 2011، والمقصود هنا هو هذا الاستمرار والدائم في قلب علة السياسة المغربية،لرجل شغف به أعضاء حركة التوحيد والإصلاح، وظل بكل بساطته وقساوته جذع الزوابع، كما كان سقف التسويات فهو هذه العلاقة المؤرقة في تعامله مع السلطة، فقد درج على إطلاق النار على رجالها أو الذين يعاكسون مصالح الحزب أو الجماعة عندما يكون ذلك هو المطلوب، لكنه في بعض الأحيان يبدو لنا كمن يضع الملح حينما يكون السكر هو المطلوب. كان عبد العزيز أفتاتي، في اعتقادنا يؤمن بأن القوة الكامنة في الإنسان المؤمن قادرة على خلق التحول وإجبار الخصم على التراجع، ولعله في هذا المنحى يسترشد بحديث “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمنالضعيف" وربما هذا الإيمان باستعمال القوة في التصريحات أجبرته في بعضالأحيان على دفع الثمن كما يستشف من قضية إجباره على دفع استقالته منالأمانة العامة غداة مراسلته لوزارة الخارجية الفرنسية في شأن تعرض المحاميبوبكر للضرب والاعتداء. لقد كانت لحظة تشكيل مكتب بلدية وجدة صيف 2008، والضغوط التي مورست على مستشاري العدالة والتنمية مناسبة لظهور الرجل بمظهر القوة والحزم بما يتماشيان مع قناعة الرجل وبنائه النفسي وموقعه داخل الحزب، ففي هذه اللحظة وبعد الإحساس بما يشبه الاقتناع أن رآسة الجماعة قد طارت من حزب المصباح، لم يجد من سبيل سوى محاولة لي ذراع السلطات المغربية باستعمال ورقة الضغط الخارجية، هنا وبعد تعرض الأستاذ المحامي بوبكر الحامل للجنسية الفرنسية لضرب مفرط أجبره على دخول المستشفى، سيجد البرلماني عبد العزيز أفتاتي المناسبة سانحة لدعوة وزارة الخارجية الفرنسية للتحرك من أجل حماية مواطن فرنسي يتعرض للاعتداء بالمملكة المغربية، وهنا أيضا تحس الأمانة العامة للعدالة والتنمية أن ما أقدم عليه عبد العزيز أفتاتي لم يكن سوى مناسبة جديدة لتعرض حزب المصباح لمزيد من الانتقادات ولإقامة الدليل على ما كان يروجه أعداء الحزب من النوايا الخفية لرفاق بنكيران، لذلك كانت قضية الانحناء للزوبعة ضرورية قد تجنب ظهر الحزب الضربات التي قد تقسمه، وعادة ما يؤمن رجال السياسة أن الضربة التي لا تقسم، تكون مبعثا للقوة، وهذا حال أفتاتي، الذي استطاع أن يخرج من هذه الأزمة بقوة أكثر، ولعله وجد كما باقي مناضلي حزب العدالة والتنمية المتنفس في الربيع العربي، وفي النسمات التي هبت من هذا الربيع على المغرب الأقصى، لذلك فهو يؤكد باستمرار أن حزبه يلتقي موضوعيا مع مطالب 20 فبراير وعلى رأس هذه المطالب إسقاط الفساد والاستبداد وما يحاول أن يثيره اليوم حول وزير المالية السابق يخاله فسادا ينبغي أن يسقط أو هكذا يحاول أن يقنعنا. وبما أن القاموس يخلق بناءه التنظيمي الخاص، فقد انزاح خلال المحطة الانتخابية السابقة التي أفرزت عبد العزيز أفتاتي نائبا برلمانيا لولاية ثالثة نحو الأحزاب الديمقراطية للتنسيق وتوحيد المواقف لمحاصرة ما سمي بالفساد الانتخابي طيلة أيام الحملة، فكان التقارب مع الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية وجبهة القوى الديمقراطية والحزب الاشتراكي، فلا شيء ثابت في السياسة، فأعداء الأمس قد يصبحون أحبة وأصدقاء، وهذا من مكر السياسة، ولعله المكر الذي نستشفه من الأحزاب التي تشكل الائتلاف الحكومي والتي أبرزت التناقض بين فسيفساء وطنية لا تتراكب وحداتها في الهرم الاجتماعي والإيديولوجي، وفي ذلك مادة إعلامية أخرى للتعليق والتحليل. عبد العزيز افتاتي واحد من برلمانيي حزب المصباح الذين يتقنون بعث الرسائل إلى مختلف الجهات للتأكيد على قدرة الحزب على مواصلة الشغب بالرغم من وجوده على رأس الحكومة، فهو واحد من الوجوه التي تستطيع بكل بساطة أن تثور حتى على قيادتها لتضمن ذلك التوازن داخل الحزب .