مازلت أذكر اليوم الذي اصطحبني فيه والدي "رحمه الله" إلى مدرسة عائشة أم المؤمنين التي توجد بحي بودير ولا تبعد عن بيتنا إلا بحوالي خمسمائة متر. فاتح أكتوبر، توجهت إلى المدرسة على الساعة السابعة وخمس وأربعين دقيقة، حيث رأيت تلميذات كثيرات، ورأيت معلمات ومعلمين كثيرين ورأيت المديرة تحمل في يديها ملفات وأوراقا وسجلات وتتناقش مع المعلمات والمعلمين. وقفت منزوية في ركن من أركان الساحة وأنا أراقب كل ذلك عن كثب .وفجأة تقدمت مني معلمة ترتدي وزرة وردية، علمت فيما بعد أنها من أصل جزائري واسمها الشخصي "سليمة". وزعنا على المعلمات والمعلمين، وكل واحد منهم سحب تلميذاته نحو حجرة الدرس المخصصة له، واخترنا مقاعدنا، والتصقنا بها والحركة ما تزال مستمرة في الخارج استمر الحال على ما هو عليه حتى رن الجرس عند الساعة الحادية عشرة. وكنا ندرس في الفترة الصباحية فقط. عدت إلى المنزل، وحينما اجتمعت العائلة حول مائدة الغذاء، بدأت أحكي ما وقع لي خلال يومي الأول في المدرسة، وهنا قال لي أبي، رحمه الله، إذا كنت تريدين أن تكوني تلميذة متزنة، فعليك بالنظر إلى السبورة فقط، ولا شيء غير ذلك. وحينما تنادي عليك المعلمة، ارفعي اصبعك، واستقيمي واقفة وقولي «حدير» كان يقصد «حاضر». وفي اليوم الموالي، نسيت إن كان أبي نصحني بالنظر إلى السبورة، أو إلى المعلمة فاخترت الحل الثاني، وسمرت نظري عليها دون أن التفت إلى أي شيء آخر، ولما تنقلت بين صفوف المقاعد تابعتها بنظري حتى شكت في نفسها، وهنا تداركت الأمر وعدت إلى الحل الأول وسمرت نظري على السبورة. ولما وصل وقت النداء على التلميذات، تهيأت لما قاله لي أبي، نادت المعلمة على التلميذات الواحدة تلو الأخرى، حسب ترتيب اللوائح الموجودة عندها. وكانت كلما نادت على تلميذة، إما تقف أو ترفع أصبعها، أو تقول بالدارجة: أنا موجودة، حتى جاء دوري وما إن نطقت المعلمة باسمي حتى انتصبت واقفة وأنا أرفع أصبعي وأقول «حدير» اتسعت عينا المعلمة دهشة وأسقط في يدها، ولكنها تمالكت وتماسكت وقالت: حسن جدا، ولكن كان عليك أن تقولي «حاضرة». وحكيت هذه الحكاية على مائدة الغذاء أيضا وأنا أقول إن المعلمة راضية عني ولكن كان علي أن أقول «حديرة» في قسم التحضيري، كانت المعلمة الجزائرية «سليمة» لا تستسيغ أن تطلب منها أي تلميذة الذهاب إلى المرحاض، وإن حصل ذلك، تشبع المعنية بالأمر ضربا قبل أن تأذن لها بذلك، ونفس الشيء تفعله مع التلميذة التي تأتي إلى القسم دون أن تسرح شعرها. وفي الابتدائي الأول، كانت المعلمة كريمة تطلب منا أن نعبر بالفصحى عن كل ما نقوم به داخل القسم، منه إذا طلبت من إحدانا الذهاب إلى السبورة فعليها أن تقول: «أقوم من مقعدي وأتجه إلى السبورة، وأحمل قطعة من الطباشير وأكتب ما تمليه علي معلمتي». وفي الابتدائي الثاني، كانت معلمة الفرنسية، الآنسة ميشيل، تفرض علينا أداء «جوج دورو» (عشرة سنتيم) لها بالطبع عن كل كلمة تنطق بها بالعربية خلال حصة الفرنسية، وفي المتوسط الأول كان معلم العربية «السي إبراهيم» لا يسمح لنا بالاستفادة من فترة الاستراحة، مع أننا كنا ندرس عنده في الفترة المسائية ونكون خلالها اشد إرهاقا، كان يعتبر، على حد اعتقاده، الاستراحة مضيعة للوقت. وفي المتوسط الثاني كان معلم اللغة العربية يوضع في خزانته علبة من القصدير، قريبة من متناول أيدينا، وطلب منا أن نضع فيها أي مبلغ نريد، أو ما تبقى لنا من مصروفنا الهزيل، حتى نجمع مبلغا ماليا نوظفه في إصلاح وتزيين قسمنا، وانتهت السنة الدراسية ولا ندري أين ذهبت تلك الدرهيمات التي ظلت توضع في العلبة.