استرخى المعلم على الأريكة، ثم قال بعد أن أطلق تنهيدة عميقة: -بعد أيام قليلة ستجف الأرض. وداعب ما تبقى من الشعيرات القليلة في مؤخرة رأسه. ولعل زوجته قد شعرت بالحرج لأن المائدة كانت فارغة، فاتجهت نحو المطبخ وسكبت كأسا واحدا من الشاي وقبل أن تضعه أمامي، التقطه المعلم بسرعة، رشف نصفه وأعطاني النصف الآخر، لكني كدت أضع الكأس بعد رشفة سريعة وكان المعلم قد رمقني بسرعة حتى التقطته زوجته قائلة: لو سمحت. لماذا يحتاج المرء إلى الكشف عن قناعه الحقيقي وبتلك السرعة؟. قمت وأنا حاسر الرأس بالعديد من الافتراضات، وما أن قالت وهي ترشف ما تبقى من الكأس. «الله كم هو حلو»، حتى انتهيت وببساطة إلى فكرة واحدة انه الجوع، نعم إن الزوجين جائعين. لقد كان معلمي الأول. وعندما أصادفه في الشارع أو في الملعب صبيحة كل أحد، أفكر وهو يهز وجهه الضائع في جلباه القديم بأنه ينظر إلى الأمام بطمأنينة كبيرة، لأنه عرف وهذا ما يخمن فيه مرارا كيف خرج من تلك الأيام العصيبة بمنزل كبير دون أن يشعر أحد بذلك. يشهد على ذلك عشرات الأوراق التي رأيتها صدفة هنا وهناك وقد دون عليها الكثير من الملاحظات عن المصروف اليومي ونوعية التربة وكم يحتاج منزل من فئة مائة متر مثلا من الحديد والرمل والاسمنت وأجور العمال ونوعية الزليج والجبص والآجور، وهو حين يتطلع إلى تلك الأوراق يشعر بدهشة كبيرة، لا لأنه كان رفقة زوجته دقيقا في كل شيء بل لأنه كان يملك قدرا كبيرا من الشجاعة وهو يتقنع بعشرات الأقنعة. ذات أحد قال لوالدي وكان يتمشيان باتجاه الملعب: صدقني بعد الزواج مباشرة، لم أعد أعرف على أي جهة يدور العالم، وعما يحدث في البلاد، كنت أرفع راسي فقط كلما دار الحديث عن موضوع فكري أو سياسي وأجدني أردد مثلا وبشكل واثق. نعم، لقد كان المهدي مناضلا كبيرا، سعد الله ونوس، مسرح التسييس، يا للرجل البارع، بعدها أخرج السيجارة الوحيدة التي أضعها قبل أن أخرج من البيت في ياقة قميصي الداخلي، أدخنها في صمت متقنعا بقناع الحكمة واللحظة المؤثرة تماما كما في مشهد مسرحي. وضحك بصوت عال. لكني وأنا أقف بجانب الوادي كنت أحس بأن صوته كان ضعيفا وبعد صمت قصير سألني كيف حال الوالد؟ -بخير -لقد قضينا أياما جميلة فوق خشبة المسرح. واستطرد وهو يحدق في كأس الشاي الفارغ: المسرح، آه إني أتذكر الآن المشهد الأخير، قاعة المسرح الضيقة، الخشبة الشبه المنهارة وأنا أقف تحت الضوء الخافت وأمامي عشرات الأفواه وهي تنفث دخان سجائرها الرخيصة، لحظتها كنت أتقمص دوري الأخير، دور عاشق أو محبط، شعرت ولأول مرة بأني تخلصت فعلا من آلاف الكلمات التي تشبه صراخا في برية موحشة، عن تجريح الذات وعن البكاء والقضية الكبرى وفي نهاية المشهد وأنا أقف خلف الستار الأسود، امتدت يد خطيبتي لتمسح عرق نهاية المشهد، فرفعت يدها عاليا وأنا أقول: -لا، لست عاشقا فاشلا، كما شاهد الجميع على الخشبة، إن أجمل ما في المشاهد المؤلمة هو أن تلتقط الأشياء النبيلة، كما قال ستا..ستا، ثم التفت نحوي متسائلا: ما اسمه... ما اسمه؟. تقصد ستانسلافسكي. نعم نعم انه هو. يومها كنا في بداية الطريق، وقالت خطيبتي وهي تشد بيدي بأنها مستعدة للذهاب معي إلى آخر الدنيا، ثم وكعادته مضى مسرعا إلى غرفة جانبية وأحضر علبة صغيرة من الزليج وهو يردد: نعم نعم إلى آخر الدنيا، لقد كانت امرأة صادقة، تصور رغم ظروفنا الصعبة، فقد اشترت هذا النوع الثمين من الزليج، وسيكون منظره رائعا في المطبخ. وترك العلبة في مكانها واستلقى على ظهره للحظات، ثم نهض بعد ذلك وحمل العلبة واتجه إلى المطبخ ووضع الزليج على شكل أربع مربعات وتمتم وكان مأخوذا بلون الزليج الذهبي: -انظر، أليس منظرا رائعا؟ لم أجبه، شعرت بالحيرة وأنا أتمشى وسط المطبخ الكبير، إذ كان فارغا ولا أثر للنعمة، فقط ثمالات الشاي في بقايا كاس أو كأسين، وشعرت بالذهول أكثر حين دخل أبناؤه دفعة واحدة إلى المطبخ بعد أن تخلصوا من الكتب، بعد أن قامت أكبرهم وكانت جد نحيلة بوضع البقرج على النار. تحلق الجميع حول مائدة صغيرة ودون أن ينتبه المعلم إلى أبنائه، أشار إلي بأن أتبعه، ويبدو أنه قد انتشى أكثر بإشارات الإعجاب التي كنت أبديها وأنا أحرك رأسي، بفراغ المنزل الباهر، إذ ظل صامتا وهو يفتح لي أبواب الغرف الموصدة والباردة، وفي اللحظة التي تطلع فيها إلى الطابق الثاني، انتبه إلى الصوت الذي أخذ يقترب من الباب الخارجي، فقال بعد أن أغلق أبواب الغرف التي فتحها للتو: إنه المهندس. وظل المهندس يردد: -هذه آخر مرة. لن نعثر على الطين أو الماء بعد الآن. وفيما أخذ المعلم يفكر ويعد في مذكرة صغيرة خسائره قالت زوجته: «أتمنى أن تجف الأرض ونعثر على أرض صلبة»، وعندما أخرج المهندس تصميم المنزل الجديد لم يستطع المعلم أن يخفي انفعاله، بينما ظل المهندس وكأنه يتعمد ذلك، يتحدث عن أهمية البقعة التي سيقيمون عليها المنزل الجديد، بعد أن عاتب المعلم لأنه ظل صامتا دون أن يطرح أية أسئلة، بينما كان المعلم بحكم تجربته الطويل في البناء يفكر وقد كبت انفعاله بأن لا جدوى من الحديث بعد تلك المسافة الطويلة من الحفر، وبأصابعها الدقيقة رفعت الزوجة علبة الزليج، وبعد أن اختفى المهندس البلدي، أحضرت كأسين من الشاي وقليلا من الزيتون الأسود، وقال المعلم بعد أن التفت إلى زوجته وبصوت خافت جدا: نحن نخطط لبناء منزل ثالث، وبعد قليل سنزور المنزل الأول، ثم اختفى رفقة زوجته في إحدى الغرف، وبعد وشوشة قصيرة عاد المعلم وهو يقول: لقد أخبرتها بأنك رجل كتوم. وبعد الظهيرة بقليل كانا يسيران أمامي، قبل أن يفترقا. وبينما هو يسير بجانبي وقد غطى رأسه بطاقية قديمة وعينيه بنظارة سوداء، كنت أفكر بالانصراف، لكني شعرت بالخجل، وهكذا عبرنا مسافة طويلة ومتربة حتى بلغنا حيا حديث البناء. قلت إنه حي هادئ جدا. رد وهو يلتفت يمينا ويسارا: - نعم وأنا أول من بنى منزلا هنا بعد جاري السوسي، وأشار إلى البناية الكبيرة التي بجانبه ثم أخرج المفاتيح وهو يتعوذ، وغاب لدقائق ثم عاد برفقة زوجته التي يبدو أنها قد عدلت عن رأيها، لذلك قال المعلم وهو يربت على كتفي: لا بأس سنعود مرة أخرى. وفي الطريق إلى البقعة الجديدة، التفت إلى منزله ثم توقف فجأة وعاد نحوه مسرعا، وبعد أن تأكد بأنه قد أحكم إغلاق الباب الخارجي، أخذ يطوف بالمنزل ويحدق طويلا وهو يتراجع إلى الخلف وأحيانا يتقدم أكثر، يلمس الجدران الباردة بيده اليمنى. قال وهو يعد بأصبعه المنازل المجاورة: -غريب، تكاد تكون كل المنازل فارغة. وحين تصنعت الدهشة متسائلا رغم أنني أكره هذا النوع من الحديث: -هل فارغة فعلا؟ أجاب على الفور: -نعم إنها فارغة. كان الزوجان يخفيان أشياء كثيرة، وفجأة وكنا على بعد مسافة قصيرة من البقعة المبتلة حيث العمال وحرارة الصيف الرتيبة، وقفت زوجته حائرة بين ثلاثة ممرات، لقد أينعت في ذهنها فكرة مدهشة، إذ اكتشفت وبمحض الصدفة أن كل ممر سيؤدي إلى أحد منازلهما، والرجل الذي تسمر خلفها وبدا هو الآخر مشغولا، أطلق ضحكة منكسرة حين حدثته بعد خطوة واحدة بفكرة الممرات. ها هما يتقدمان. نحيلان إلى حد التلاشي. وعلى مشارف البقعة المبتلة، وبحركة مسرحية، ودعني الرجل ورفعت هي الأخرى يدها مودعة مع ابتسامة ازدادت شحوبا، وهي تمسك بيد زوجها ذي الوجه المعروق كلما تقدم أكثر وأطل أحدهما دون أن يحدث الآخر عن المياه التي أخذت تتسع وتنبثق من بين دوائر الطين المبتل، حيث المياه التي بالكاد رأيتها في وجوههم المعروقة،قبل أن أراها على الأرض،راكدة وهادئة كمياه الأزل العميقة.