شكل ميلاد حزب الأصالة والمعاصرة، سنة 2008، محطة مفصلية في التاريخ السياسي للمغرب، إذ أحدث الوافد الجديد، وهي الصفة التي أطلقها عليه خصومه السياسيون، منذ البداية، رجة في المشهد السياسي وخلخل كل حسابات الفاعلين السياسيين. سبب هذه الرجة أن المؤسس الروحي للحزب كان من العيار الثقيل، ويتعلق الأمر بفؤاد عالي الهمة، مستشار جلالة الملك محمد السادس نصره الله، الذي سبق أن شغل منصب كاتب الدولة في وزارة الداخلية، والذي قرر، في لحظة ما، أن ينزل إلى الميدان ليمارس العمل السياسي المباشر، فترشح للانتخابات التشريعية لسنة 2007، وفاز بالمقاعد الثلاثة التي ضمتها لائحته على مستوى دائرة الرحامنة، وانطلق في تنفيذ مشروعه القاضي بتأسيس هيأة سياسية بحسابات وأفق جديدة، باسم الشعار المركزي: ممارسة السياسة بشكل مغاير. سبب الرجة، كذلك، ضبابية المسار والتوجه الذي طبع بدايات تأسيس حركة لكل الديمقراطيين، وتناسل التكهنات حول أهدافها الحقيقية ومآلها. فتح تأسيس حركة لكل الديمقراطيين، التي ضمت نخبا سياسية واقتصادية، ومن المجتمع المدني، المجال واسعا أمام تناسل التقديرات بشأن ما إذا كانت ستتحول إلى حزب سياسي أم لا. وشدت قيادة الحركة أنفاس المهتمين بالحياة السياسية الوطنية، أسابيع وشهورا، إلى أن تأكد القرار بعد الإعلان عن تأسيس الحزب الجديد الذي عقد مؤتمره التأسيسي في 20 و22 فبراير 2009. انتخب محمد الشيخ بيد الله، أمينا عاما لأول حزب “إداري” في عهد الملك محمد السادس. وأكد في كلمة بالمناسبة أن حزب الأصالة والمعاصرة “يبدأ اليوم مرحلة جديدة في مسيرته في ظل مناخ وطني وجهوي ودولي يتسم بالتحولات العميقة والمتسارعة في جميع المجالات”. وأكد أهمية العمل “في هذه المدة القصيرة التي تفصلنا عن الاستحقاقات الانتخابية المقبلة (الانتخابات الجماعية) بكل مسؤولية، من أجل تقوية، وتماسك الحزب ورفع جاهزيته ومستوى نضالية مناضليه، من أجل التهييء لهذه الانتخابات بكل ثقة وبكل جدية ووعي بجسامة المسؤوليات التي نتقلدها جميعا”. قوبل الحزب بتحفظ عدد من الأحزاب ومعارضة أخرى، إذ رأت فيه عودة جديدة ل”الفديك”، وهو ما من شأنه أن يهدد التعددية الحقيقية التي اختارها المغرب مبدأ وشعارا لوجوده السياسي. ولأول مرة في التاريخ السياسي للمغرب، يتأسس “البام” من خلال ابتلاع خمسة أحزاب دفعة واحدة، ويتعلق الأمر بحزب العهد، والبيئة والتنمية، وحزب رابطة الحريات، وحزب مبادرة المواطنة والتنمية، والحزب الوطني الديمقراطي. أكدت قيادة الأصالة والمعاصرة، في لحظات الميلاد، أن الخلفية المركزية لتأسيس الحزب تتجلى في عقلنة المشهد السياسي الذي يعاني التشرذم، لكن الأيام كشفت سببا جوهريا لميلاد هذا الإطار الجديد، والذي يتمثل في التصدي لزحف العدالة والتنمية، وهو ما أكده حسن بنعدي، الرئيس السابق للمجلس الوطني للحزب، حينما تحدث، في اجتماع للمجلس الوطني، عن الفراغ السياسي الذي ميز الحقل الحزبي الوطني في سنة 2007، إذ “وجدنا أنفسنا بدون فاعلين حزبيين، ولهذا بادرنا إلى تأسيس حركة لكل الديمقراطيين، ثم بعد ذلك، حزب الأصالة والمعاصرة”. وأضاف أن هذه الخطوة اتخذت “حتى لا تسقط البلاد في يد فاعل حزبي واحد”، في إشارة إلى العدالة والتنمية. كانت قيادة “البام” ترى في اكتساح حزب العدالة والتنمية للمشهد السياسي خطرا على البلاد، في ظل تراجع ما يسمى الأحزاب التاريخية التي وصلت إلى مرحلة الترهل والشيخوخة، مما دفع قيادته إلى رفع تحدي المواجهة، وتحمل مسؤولية التصدي لهذا الخطر، إذ أعلن، منذ البداية، خصومته الشديدة للعدالة والتنمية، الذي كانت قيادة “البام” تضعه في خانة الخط الأحمر. المؤتمر الوطني الاستثنائي لحزب الأصالة والمعاصرة، منح انطلاقة جديدة للحزب، بشعار جديد، يقوم على تكريس قيم الحداثة والديمقراطية، والانفتاح، مع تخفيف حدة “عدائه” لحزب العدالة والتنمية، الذي تمكن من فرض نفسه قوة سياسية أولى خلال اقتراع 25 نونبر. فشل “البام” في تكوين جبهة قوية تُسعفه في كسب معركة الانتخابات التشريعية الأخيرة، وخانه حليفه الأول، التجمع الوطني في الفوز بالانتخابات، وتصدر المشهد السياسي، وبالتالي ،قيادة الحكومة، رغم الدعم الذي قدمه له في الانتخابات، فاختلطت حسابات تحالف الثمانية، ومعها الرهانات المستقبلية، إذ أصبح الرهان الأساسي، في ظل التحولات الوطنية والإقليمية والعربية، ليس هو محاربة “الإسلاميين المعتدلين”، وقطع الطريق أمامهم، بل هو الاستسلام للأمر الواقع، والتعاطي مع الواقع السياسي كما هو، والانخراط في العمل السياسي بشكل طبيعي، دون “عداوات”، ومعارك مصطنعة. انشغل” البام” بشؤونه الدخلية، وباشر عملية ضخ دماء جديدة فيه، وهو ما ظهر من خلال تجديد مكتبه السياسي بنسبة قاربت 100 في المائة. وانخرط في تأسيس تنظيماته الموازية، في مقدمتها التنظيمان الشبيبي والنسائي، وتنظيمات موازية أخرى. وركزت المادة 63 من القانون الأساسي الذي صادق عليه المؤتمر الاستثنائي الأخير، على التنظيمات الموازية، إذ نصت على إمكانية إحداث تنظيمات موازية للحزب باقتراح من المكتب السياسي ومصادقة المجلس الوطني، وتهدف هذه التنظيمات إلى توسيع وجود الحزب داخل المجتمع. انتخب الحزب قيادة جديدة يتزعمها مصطفى بكوري، وسطر أهدافا جديدة تنسجم مع التحولات الجارية، وطنيا، وجهويا، وعربيا، ودوليا. الانطلاقة الجديدة للحزب تأكدت بعدما أعلن محمد الشيخ بيد الله، الأمين العام السابق للحزب أنه لن يترشح لولاية إضافية، لمنصب الأمين العام، وأنه سيفسح المجال لنخب صاعدة ووجوه جديدة، انسجاما مع تأهيل النظام الأساسي للحزب، ووضع خارطة طريق لمشروعه السياسي. وأضاف، أن الحزب اكتسب شرعيته من صناديق الاقتراع رغم الحملات الممنهجة التي تعرض لها بعد التعديلات الدستورية الأخيرة. هذه الحملات، صاحبت “البام”، في الواقع، منذ تأسيسه، وتكثفت في الأسابيع والشهور التي سبقت الانتخابات التشريعية الأخيرة، وتعرض لانتقادات عنيفة، إذ وصفه العديد من الفاعلين السياسيين، بأنه حزب الدولة، فيما نعته فاعلون آخرون بالحزب الأغلبي، وهي أوصاف تشي بالخطورة التي يشكلها، باعتباره يتعارض مع مبدأ التعددية السياسية التي تبناها المغرب. وفي الوقت الذي فشلت مساعي الخصوم السياسيين، في جر “البام” نحو الخلف، ساهم الربيع العربي في وقف زحف الحزب الأغلبي، وهو ما ثمنه العديد من الفاعلين، واعتبروه مكسبا إيجابيا، يخدم المصلحة العليا للوطن.