ظل السجن دائما موضوعا خصبا ومشتركا بين الشعراء والفنانين والفلاسفة والسياسيين والحقوقيين وغيرهم لهذا الاعتبار تعددت تعاريفه بتعدد زوايا النظر إليه . لقد ألفت حول السجن كتب عديدة ، ونظمت قصائد كثيرة ،وصيغت تقارير لا حصر لها وحيكت حوله الروايات ورسمت اللوحات ونسجت الأساطير إلى غير ذالك لان السجن ظل ذالك المكان المغلق والغرائبي في مخيال الشعبي . تحضرني هنا وألان عدة تعاريف وأقوال مأثورة حول السجن فقد قالوا: - السجن مؤسسة اجتماعية ذات طابع إكراهي وأداة لفصل السجين عن محيطه. - السجن جهاز قمعي طبقي لإدامة السيادة الطبقية في المجتمعات الطبقية . - السجن مكان لإيواء المخالفين للقانون ولضمان حماية المجتمع . - السجن بلاء وامتحان للمؤمنين،ومدرسة للمناضلين ومحراب للمجاهدين . - السجن مقبرة للأحياء، الداخل إليه مفقود، والخارج منه مولود ،انه تلك الشعرة التي تفصل بين الكفن والقماط ،بين المهد واللحد . - السجن فضاء للإصلاح والتهذيب؛ قد يتحول إلى مرتع لإعادة إنتاج الجريمة. بالنسبة لي وفي تقديري الشخصي، فان السجن يشكل نقطة تمفصل بين المفارقات ومجتمع المتناقضات : *الاعتقال في مقابل الحرية والإحساس بالدونية، في مقابل الأنفة والاعتزاز بالنفس في مقابل الاغتناء، الانفصال عن العالم الخارجي بالجسد في مقابل الاتصال بهذا العالم بالفكر والخيال . بكل تأكيد فان السجن هو الذي جعلني أتذوق معنى الحرية تلك القيمة النبيلة التي ضحت من اجلها شعوب، وقامت عبر المطالبة بها حضارات، وسالت من اجلها وديان من الدماء ،وقضى دون تحقيقها الشهداء . بهذا المكان أصبحت أدرك معنى الحرية ،حق الإدراك ،إنها أم القيم فعلا ،ومنها تتفرع باقي القيم فلا مساواة، ولا كرامة، ولا تضامن، ولا عدالة إذا كان الإنسان مسلوب الحرية **للحرية طعم خاص بالنسبة للسجناء فبعض السجناء لم يكتفوا بالتوق إلى الحرية بل وشموا على أجسادهم **"الحرية تاج على رؤوس الطلقاء ولا يراها إلا السجناء ". فالسجن زاد تعلقي بالحرية حتى صرت أتوحد في تجلياتها ،واغبط كل ما يرمز إليها ، أصبحت اغبط أشعة الشمس تخترق الزجاج، وتتسربل بين القضبان لتملا عتمة الزنازن ضياء ،وتبعث الحياة في الأشياء الميتة وتصلب عضام السجناء النخيرة التي انهكتها الرطوبة . صرت اغبط النسمة ترفرف بأجنحة لا مرئية فتلج الزنازين لتنشر فيها عبق الحياة فتنشرح الأنفس وتتخلص من كآبتها.
صرت اغبط القطة تتحول بحرية في غفلة من الحراس فتنتقل بين الممرات والزنازين والأحياء وفي عينها يومض بريق الحرية وفي موائها نبرة المشفق على المحرومين . يبدو أن المفارقات العجيبة التي تلفت الانتباه حقا هي انه رغم أن الجسد مسلوب الحرية داخل السجن فان الفكر والخيال ينتعشان بشكل لا مثيل له، فلا عائق يعوقهما أو يلجم تحررهما ولا طابوهات تجبرهما على عدم المساس . فرغم أنني بالسجن مسلوب الحرية ، تعتصرني جدران سميكة فأنني استطيع أن اخرج من أناي في عوالم لا حدود لها استطيع أن أحاور فلاسفة ومفكرين و فنانين وسياسيين ، كما يمكنني التأمل في كل المواضيع بدون تحفظ بل يمكنني التأمل في التأمل نفسه . بالسجن تزورني أطياف أشخاص أعزهم ، فقد يحدث بين الفينة والفينة أن يزورني طيف الحبيبة فارتوي من الضم والعناق وأترنم بالاستماع لنبضات القلب وشدى الهمس فأحقق تواصلا جسديا وفكريا وعاطفيا . كل الأشياء يراد لها بالسجن أن تشعر السجين بالدونية والإحساس بالذنب ، فالسجين في نظر البعض هو مجرم يسكنه الشر وفترة العقوبة هي الفترة المحتملة لتخليصه من شروره. السجين هو مجرد رقم تسلسلي في زنزانة أو في حي أو في السجن بكامله . أحياء السجن تحمل أسماء بحمولة دينية (الهداية ، التقوى، الموعظة، الرحمة، الرشاد...) ،فكأنما يراد بذالك تذكير السجين بضرورة الإقلاع عن الزيغ والضلال .طريقة التفتيش أيضا تشعر بالدونية وانحطاط الكرامة، لقد استعاضوا عن"السكانير"بالأيدي البشرية التي تفتش كل من يهم بخروج ودخول السجن وكل من حامت حوله شكوك يطلب منه جلوس الراغب في قضاء الحاجة ، ويأمر بالسعال أو يضرب على القفا لكي يلفظ جسمه كل المواد المحرمة المخبأة في ما لا يحضر على بال أو يطاله سؤال . هذا هو السجن كما أراه ،إن رتابة المكان، وملل الأيام لم تزدني إلا عزة وشموخا وشرفا لثلاثة أسباب وجيهة: 1/ لان اعتقال استهدف نشاطي داخل المجتمع . 2/لان محاكمتي كانت جائرة من طرف كل المتتبعين . 3/لان دعم الأصدقاء والرفاق والشرفاء لم ينقطع سواء بالداخل او الخارج . الإمضاء المعتقل السياسي ر.ا 83317 / السجن المدني وجدة