على باب مكتب المدير، كان الحارس "أبا سيدي" واقفا ينتظرني لمقابلة المدير، بعدما راسلت الإدارة العامة للسجون وعميد كلية العلوم الاقتصادية والاجتماعية بالرباط، طالبا منهما السماح بمتابعة دراستي الجامعية، بجامعة محمد الخامس... كان ذلك بداية الموسم الجامعي الجديد لعام 1991. كان السيد المدير ينتظرني في الموعد المحدد.. - لماذا تريد الذهاب إلى السجن المركزي؟ إن الجو هناك لا يطاق.. أم أن هناك شيئا ما دفع بك إلى الرحيل عنا؟ ولما اكتشفت الابتسامة على وجهه، بلورت الجواب في كلمات صريحة: - الغرض من هذا الانتقال الاختياري، السيد المدير، هو متابعة دراستي في شعبة الاقتصاد، تخصص الاقتصاد العام، وفي نفس الوقت ركوب مغامرة جديدة، من داخل فضاءات سجون البلاد. سكت قليلا حتى جمع أنفاسه. وكأنما كان ينتظر مني جوابا آخر.. اكتسى وجهه ابتسامة طيبة، ثم أجابني قائلا: - لم يتأخر جواب الجهات المعنية على طلبك.. لك الموافقة ونتمنى لك التوفيق... لحظة تاريخية، لن أنساها أبدا، وأنا أتلقى جواب المدير.. كانت كلمة "الموافقة" على طلبي بمثابة ولادة جديدة من داخل السجن، وربما كانت بداية تغيير مساري من بدايته إلى نهايته. أتذكر ذلك اليوم الذي لن تنساه رياح وفصول تجربتي. يوم فتحت لي كلمة "الموافقة" آفاقا جديدة.. استجابت لطموحات طفولتي وشبابي. أذكر أني مشيت لوحدي كثيرا، قبل الوصول إلى جناح زنزانتي. كنت دائما أحلم بزيارة السجن المركزي. لم يتحقق لي هذا الطلب قبل اعتقالي، بينما تحقق الآن بصفتي معتقلا، قلت ذلك مع نفسي... و قبل ولوج زنزانتي، تريثت قليلا من أجل الدقة. حاولت استحضار كل ما سمعته عن السجن المركزي من قبل.. عن أبطاله الحالمين بالحرية والديمقراطية والمساواة... الذين مارس عليهم الجلاد كل أنواع الحقد والسادية، قبل أن يودعهم بهذا السجن يوم 7 مارس 1977. لما عدت إلى زنزانتي، التزمت الصمت قليلا، قبل أن أخبر رفاقي بقرار الرحيل إلى السجن المركزي، ثم شرعت، دون أن يلاحظوا ذلك، في الإعداد "للطرانسفير".. في المساء، لما أحسست بالتعب، زرت طبيب السجن الذي مدني ببعض الأقراص، ونصحني بالخلود إلى الراحة. حاولت أن أداري ضعفي وقد فضحني شرودي. تذكرت من سبقني إلى السجن المركزي من أفراد عائلتي، أحمد المرزوقي وعبد اللطيف الدرقاوي، ومن أبناء بلدتي، أحمد شرفي والمنصوري، وربما آخرين... لما حل موعد "الطرانسفير"، جمعت كل ما احتجت إليه من كتب ومؤونة وسجائر... وانتظرت الحارس السائق الذي سيقوم بهذه المهمة. لم أعرف لحد الآن لماذا تم نقلي لسجن "سيدي سعيد" بمكناس، وبعده لسجن "الزاكي"، قبل الوصول إلى المركزي في إحدى مساءات شهر نونبر، اختلط فيها الفزع بدموع الفرحة. كان علي أن أخرق صمت ليلتي الأولى في السجن المركزي ب"حي الأحداث"، أنا الذي اخترت التيه في فضاءات السجون، وركوب مغامرات جديدة مع رفاق التقيت بهم، لأول مرة في حياتي.. رفاق كبروا في قلبي أجمل من ذي قلب.. في أحاديثنا، في ذكرياتنا وفي لحظات صمتنا. رفاق العز والكرامة والأمل. كان الليل يمتد جميلا في هدوئه، يجلجله طرب خفيف بعذوبة خاصة... في فضاء محجوز وحنيني، جمعني، الليلة الأولى، بسعيد الطبل، وأكنوش، والخمليشي "عمو"، والمصدق، وبلكحل ورضوان والخصاصي... في الليلة الأولى، كانت ذكرياتي مع رفاقي بسجن فاس تكاد لا تفارقني، وكأني لم أرهم منذ زمان... طوال الليل وأنا أتوطؤ بصعوبة مع كل إغراءات ذاكرتي، في صمت ورومانسية. في اليوم الثاني، تعرفت على الرفاق الآخرين المنتمين إلى مجموعة الشهيد التهاني أمين أو "المجموعة 26"، كان التواصل معهم سهلا و مريحا، رغم مسافات السن والتجارب واختلاف الطبائع والآراء.. في اليوم الثالث، شعرت بالاحترام والاطمئنان، وأصبحت واحدا من الجماعة، وهذا ما أنقذني وحررني من جفاف الروتين اليومي.. وأسقط على تجربتي المتواضعة، قليلا من المطر.. بلل الأعشاب التي كانت تحمي عنفواني وحبي للحياة. لم تمض سوى أيام معدودة، حتى أصبحت لي صداقات رائعة مع الجميع، احتفظت بغالبيتها إلى ما بعد السجن. كان التواصل مستمرا مع رفاقي في فاس، في السجن وظهر المهراز.. الذين اخبروني ذات صباح من شهر أبريل 1991، بأولى النقاشات داخل القاعديين حول الأمازيغية، والرغبة في إنشاء فصيل أمازيغي انطلاقا من دافع حماية الهوية... لم يكن أحد يعلم بهذا النقاش الذي دام عدة شهور، قبل أن يطرح في الساحة الجامعية... ويقسم من جديد النهج القاعدي إلى مجموعات جديدة.. وهو ما أدى إلى صراعات قوية بين أنصار الأمازيغية وغيرهم. أما تظاهرة فاتح ماي، فكانت قد تميزت بمشاركة عارمة للطلبة، رفعوا فيها عدة شعارات جديدة من مثل »الشيباني /السرفاتي، يا همام.. إلى الأمام إلى الأمام» و«الله يبليك بحب الشعب حتى تلبس الدربالة.. دربالة السرفاتي ما يلبسها من ولا...»، وشعارت أخرى نددت بالظلامية والعنف داخل الجامعة. كانت أجمل الأخبار التي وصلتني آنذاك عن سجن عين قادوس، وأنا في السجن المركزي..خبر تحقيق مطلب الزيارة المباشرة، كل مساء من الساعة الثانية حتى حدود الخامسة والنصف، وهو المطلب الذي طالما ناضلنا من أجل تحقيقه. كنت أتلقى عشرات الرسائل من رفاقي وأصدقائى... كنا نتقاسم الأخبار والأفراح والأحزان، خوفا من انتحار الأحلام وقسوة الزمن.. لن أنسى رسائل صديقات وأصدقاء تطوان والحسيمة، المستلبين ب"مارتيل" و"كيمادو" و"طوريس" ونوارس بحرها المتوسطي و"باديس"، التي ظلت في مكانها ترقص سمفونية الموج وتعاند الشمس بالبقاء..تتحدى لطمات البحر الثائرة، وتكتب وصيتها على "حجر صخري.."، رسائل يونس، وجميلة، والشقيري، والدردابي، وسعاد وعلي... تذكرت حينها "جزيرة النكور".. وتذكرت إقامتي ب"شاطئ السواني"، رفقة "أبو علي" أيام المتابعات البوليسية (1984-1985)، وأيام الجد والنشاط صحبة الزياني، وعبدالحق، وبوجمعة وآخرين... يوم كنت في ريعان شبابي.. يوم ركبت التاكسي مساء، في اتجاه مدينة تازة، وبعدها شاحنة محملة بالسلع، لأتوقف بأكنول، وبعدها مباشرة إلى أجدير على متن شاحنة صغيرة لنقل الرمال والأحجار.. ولما أشرقت الشمس، تابعت السير على الأقدام إلى أن وصلت "السواني"، بجانب الشاطئ، حيث وجدت أبو علي والشريف في انتظاري. كانت في حلقي أسئلة متعددة، تنسيني صخب المدن الواسعة.. ودخان الحضارة.. وأحضان الحقيقة الأولى... وألوان الوطن.. وغفساي.. وأمواج البحر حين تعود مسرعة إلى عمق البحر. استرجعت مع رفاقي الجدد بالسجن المركزي، النقاشات السياسية والإيديولوجية، حول الماركسية وقضايا التحرر ببلادنا.. كنا نتداول باستمرار في المستجدات الوطنية والدولية. كان المرحوم إدريس بن زكري، وعبد الله الحريف، وعبد الرحمان نودة.. يحضرون معنا بعض هذه اللقاءات من حين لآخر.. كما كنا نتلقى باستمرار زيارة "حبيب الجميع" الحبيب بن مالك، والقيطوني، وركيز، وعبد الإله بن عبد السلام الذي حل هو الآخر بالسجن المركزي مع مجموعته، بعد إضراب طويل عن الطعام، سقط على إثره عبد الحق اشباضة شهيدا... كان يسمح لنا، نحن كذلك، بزيارة حي "أ" من حين لآخر، وهناك تعرفت لأول مرة على أبراهام السرفاتي، وعلى إدريس بن زكري، وآيت بناصر، والسريفي.. والقباج، والفحلي، والعلمي، وبقرو، والدريدي... من دون أن أنسى، أن إدارة السجن كانت تسمح لنا، مرة كل أسبوع، بالتجمع فيما بيننا، وكان السرفاتي والحريف وآيت بناصر، يواكبون تلك اللقاءات. هكذا إذن، تعرفت على هؤلاء المناضلين من داخل تجربة الاعتقال، وفضاءات القيد والحصار. تعرفت على تجارب مختلفة.. سياسية، ونقابية، وثقافية... وإنسانية. لكل واحد قصته الخاصة مع محنة الاعتقال، والتعذيب، والمحاكمة، والسجن... سنوات طويلة قضاها هؤلاء المناضلون. كان البعض منهم يقضي سنته السابعة عشر!!! سنوات من الألم المرئي واللامرئي، لا تؤدي معناها القواميس المألوفة. سنوات طويلة من التضحية حتى العظم، من أجل أن يكون اليسار الماركسي المغربي قادرا على تثبيت وجوده داخل الساحة السياسية. تاريخ حافل بحملات الاعتقالات طوال السبعينات، وكذلك اعتقالات الثمانينات، وعلى رأسها اعتقالات "المجموعة 26" التي كانت في مهد عطائها منذ بداية الثمانينات، تاريخ إعادة بناء منظمة إلى الأمام، لكن هي الأخرى كان مآلها مثل المجموعات التي سبقتها. لقد كانت لهؤلاء جرأة قوية لإعادة التجربة من جديد، رغم ما حصل في السبعينات.. كان لهذا القرار/قرار إعادة هيكلة إلى الأمام، من دون إعادة هيكلة الفصائل الماركسية الأخرى (منظمة 23 مارس ومنظمة لنخدم الشعب..)، انعكاسات سلبية على الحركة الطلابية. خاصة وأن ولادة القاعديين، قد ساهمت فيها كل الفصائل والمكونات الماركسية، والتي جعلت هذا الفصيل الطلابي يجتمع على أرضية برنامج ديمقراطي داخل الحركة الطلابية. ولهذا كان من الطبيعي ظهور خلافات بين المناضلين، حول العديد من القضايا الوطنية والدولية. كانت هذه الوضعية الجديدة، حسب بعض المناضلين الذين كانوا على بينة بالشروط الذاتية والموضوعية لواقع الحركة الماركسية، سببا مباشرا في فراغ الساحة وتعميم اليأس والخنوع. ومما زاد الطينة بلة، غياب آليات التواصل، مما جعل القاعديين يبتعدون شيئا فشيئا عن تعميق النقاش حول الحركة الماركسية المغربية، باستثناء بعض الانفعالات حول بعض البيانات، أو تحركات المناضلين بالخارج. إنها مرحلة الشتات والشرخ الذاتي.. وضعية تظهر جليا -في بعض ملامحها- ما حصل لدى اليسار، في استدراكه لخطأ السبعينات، كان لديه برنامج استراتيجي، في غياب أدنى رؤية مرحلية موصلة لهذا الاستراتيجي. وهو ما طرحه، إبان عقد الثمانينات، البرنامج المرحلي، المعتمد على النضال الديمقراطي الجماهيري. بعد العديد من النقاشات والاستفسارات مع رفاق السجن المركزي، اتضح لي، أن ما عطل انجاز مهام الحركة الطلابية، لم يكن -كما يعتقد البعض- سببه خلاف وجهة نظر الكراس مع الأغلبية القاعدية. والدليل هو العمل التنسيقي المشترك الذي استمر ما يقرب عن ثلاث سنوات، في العديد من المواقع (تشاور المناضلين فيما بينهم قبل إصدار المجلة الحائطية، الالتفاف حول الأنشطة الثقافية، تنسيق التظاهرات)، بل هو الانسحاب التدريجي للفصائل الأخرى من حلبة النضال والصراع، وترك المجال للظلاميين... تميزت الساحة الإعلامية خلال هذه الفترة بميلاد مجلة "على الأقل"، وجريدة "المنتدى" وجريدة "الأفق"، كانت الأولى قد جاءت لتطوير الصيغ الإعلامية الداعية لمقاربة زوايا الحياة العامة بعيدا عن كل وصاية أو تضييق، استقبلها الطلبة بنوع من الارتياح، نظرا لانفتاح المجلة الايجابي على الحركة الطلابية. إنها المجلة الوحيدة التي فتحت صفحاتها لفصيل النهج القاعدي، للتعبير عن رأيه ومواقفه بصدد الحركة الطلابية. بالنسبة للمشروع الثاني، اعتبر القاعديون، آنذاك، أصحابه ممثلين لطريق العمل في ظل الشرعية القانونية السائدة، بينما اختار أصحاب المشروع الثالث الجريدة واجهة من واجهات الصراع الديمقراطي، ومن بينها الصراع مع أصحاب المشروع الأول والثاني. وعلى صعيد آخر، سجل القاعديون، في حينه، عدة ملاحظات حول نوعية تعامل أصحاب "الأفق" مع فصيل النهج القاعدي، والاعتقاد بكون القاعديين أقرب من أصحاب مشروع المنتدى، لذا يجب الابتعاد عنهم... أما على مستوى الأرضية، فلم يكن للقاعديين أدني اعتراض، حيث كان المناضلون يتطلعون لتحقيق أهداف "الأفق" على أرض الواقع.. أتذكر زيارة عبد الله زعزاع للساحة الطلابية بفاس، في هذه المرحلة، للتباحث مع العديد من المناضلين حول قضايا التفكير في خلق إطار سياسي، للإجابة على ما كانت تشهده الساحة السياسية، حيث لقيت زيارته نجاحا باهرا، حسب ما حكاه لنا بعض المناضلين. إنها مرحلة دقيقة من مراحل تجربتي، تلك التي عشتها إلى جانب هؤلاء المعتقلين.. مرحلة هي الأخرى تميزت بالاعتماد على الذات، والاستفادة من تجارب الجميع...نظرا لتعددها وتنوعها واختلاف مشاربها. كان السجن المركزي وقتها، قد ودع العشرات من المناضلين، ولم يكن يقبع خلف ظهرانه سوى قلة قليلة من مختلف التيارات الماركسية... وهكذا كان من الطبيعي، بعد طول المدة السجنية، والتضحيات التي قدمها هؤلاء وغيرهم، والدعم الحقوقي الدولي.. أن تكون الوضعية داخل السجن المركزي، وضعية توفر لهؤلاء المعتقلين ما هو أساسي وضروري للحياة: الزيارة المباشرة، والحق في التعليم والدراسة، والتغذية، والتطبيب... بعد نهاية الموسم الجامعي، عدت إلى رفاقي بسجن عين قادوس، أحكي لهم عن تجارب رفاقنا هناك، فاتحا جسور التواصل والحوار بين العائلات والمعتقلين. الشيء الذي لم يكن من قبل. حيث كانت تجربتنا المتواضعة بسجن عين قادوس، تجربة ينقصها الدعم والمساندة.. كانت عائلاتنا وأحباؤنا شهودا على معاركنا من أجل مطالب عادلة، وبسيطة، ومشروعة، كالحق في الزيارة والتطبيب ومتابعة الدراسة. كنا مناضلين بدون وسائط، نشد أيدي أحبتنا ريحا، وكنا هناك خلف الأسوار نطّوّع النتانة والبرودة والملل... لأجمل ضفة كنا نمشي.. في صمت.. من دون كاتب يكتب عن عشقنا، ومن دون ملحن يلحن أشعارنا... أما الغالبية العظمى، فكانت تتفرج على القمع، وهو يكسر شوكة أجنحتنا.. ويحطم فضاءات حريتنا. لم يكن أحد آنذاك يجرؤ على مكاتبة الملك الراحل الحسن الثاني ليحدثه عن أوضاعنا أو ليطالب بإطلاق سراحنا... أو للتضامن معنا.. كان هناك، فقط، من يجرم نضالنا ويستهِزئ بنا، ويتمنى انتشالنا من الحركة الطلابية. ونحن نقبع في السجن، كان جزء كبير من هؤلاء لا يكلف نفسه حتى للسؤال عن أحوالنا، فبالأحرى زيارتنا والاطلاع على أحوالنا والتضامن مع عائلاتنا. جزء كبير من هؤلاء اختفوا ولم يعد يظهر لهم أثر. وحينما سألنا عنهم، وجدناهم يكملون دراساتهم بعيدا عن الشغب والنضال... أو يتقلدون مناصبهم ويؤثثون منازلهم... هؤلاء أنفسهم، ظهروا من جديد على الساحة، حينما توقفت الاعتقالات، ومات الذي مات، وخرج من السجن من خرج وغادر الوطن من غادره... كنا معتقلين سياسيين من الدرجة الثانية أو الثالثة أو ربما... لكوننا مجرد طلبة أولا، ثم قاعديين ثانيا، غير منتمين أو منتسبين للأحزاب العلنية وللتنظيمات السرية... رغم ذلك، كنا كما نحن. نتابع أخبار المعتقلين في السجون الأخرى، وتقارير لجان الدفاع وجمعيات ومنظمات حقوق الإنسان بالداخل والخارج، نتابع أخبار الزلازل السياسية والاقتصادية والثقافية: سقوط جدار برلين، وانهيار أعمدة الدول الاشتراكية، واختلال موازين القوى بين حلفي الناتو ووارسو، وتعميق الهوة بين المعالم الحضارية والأخلاقية وانعكاسات ذلك على حركات التحرر العالمية، وعلى عقول وأفكار الآلاف، بل الملايين من الذين يشكلون أداة الحراك المجتمعي من النخب الثقافية والإعلامية والسياسية... نتبادل الهدايا مع أحبتنا، والقبل مع عشيقاتنا، والأحلام مع رفاقنا... نتساءل عن الوطني، واليساري، والثوري، والتقدمي الإصلاحي، والرجعي، والشعبي، والتسلطي... وعن مكانتنا في خطاب اليمين واليسار وأقصى اليسار... وكنا نسأل عن الصحفيين.. وعن أصحاب الأقلام الحرة والمستقلة... كلما اشتد علينا الخناق... كانت عائلاتنا -في بعض الأحيان- تطوف بيأس، أجنحة المدن، بحثا عن متطوع ينشر لنا بيانا أو قصيدة أو إهداء بمناسبة عيد ميلاد، أو حفل زفاف، أو تعزية بمناسبة موت فرد من أفراد أسرنا... كنا نسأل عن أحوال النخب وكل التشكيلات التي ترفض سياسة الحكم القائم، وكان يقال لنا في كل مرة: "إنهم صامدون..!". كنا نهتم بالجميع.. متسامحين ومناصرين لقضايا الكادحين، يساريين، عمالين، علمانيين، اشتراكيين، ديمقراطيين وليبراليين... كل المراحل التي مررنا منها.. داخل سجن عين قادوس وغيره... رغم قساوتها ونتانتها وسجانيها.. كانت في نهاية المطاف مدرسة للنضال والعشق والحب.. مدرسة تلقينا فيها أعظم الدروس، وأحسن الهدايا، وأجمل القبل، وأحلى اللمسات... لحظات إنسانية واجتماعية ورفاقية.. جمعتنا مع كل من اقتسم معنا مسار تجربتنا. لن ننسى دعم الطلبة وعائلاتنا وأصدقائنا وصديقاتنا في الخارج، خاصة في فرنسا، وهولندا، وبلجيكا، وإسبانيا... هؤلاء استطاعوا بدعمهم لقضيتنا، أن يدرجوا أسماءنا ضمن لوائح وقوائم معتقلي الرأي لدى منظمات حقوقية دولية...خاصة وأن البعض من رفاق التجربة، كانت قد سنحت لهم الفرصة لمغادرة الوطن أو لمتابعة الدراسة أو للعمل، وكذلك للبحث عن آفاق جديدة للنضال والكفاح من أجل مغرب الديمقراطية، وحقوق الإنسان. دعم كل هؤلاء، في عواصم أوروبا، كان دعما حقيقيا، ماديا ومعنويا... بفضل هؤلاء، بدأت تتقاطر علينا رسائل الدعم والمساندة، وبدأت العديد من النشرات الحقوقية والمجلات السياسية والإعلامية، المكتوبة منها والسمعية والبصرية، تعرف باعتقالنا وبأوضاعنا، مطالبة بإطلاق سراحنا... لم يكن يهمنا كم قضينا من سنة خلف الأسوار، وكم من شهر بدرب مولاي الشريف؛ فدعم هؤلاء في الخارج، ودعم الحركة الطلابية والحقوقية والعائلية، كان يكفينا في رحلتنا الطويلة والمريرة، تلك التي سموها منذ القدم الأنبياء والفقراء والغزاة.. إهدار الحرية بمرسوم أو بحكم من أولي الأمر! لكننا كنا نشعر بالفخر والاعتزاز، ونحن نضع حجرنا لبناء حوائط الديمقراطية... كنا نحزن ونتألم من قلب التجربة، وحين نستعيد قوتنا نغني للعصافير المهاجرة وراء البحار عبر محطات الزمن المتوحش... رسائل بالعشرات، وخطابات الحب، وأشعار وأغانٍ، وهدايا... كانت تطرق قضبان زنازننا من دون انقطاع، كلها أمل وحلم... للعيش والتعايش مع بعضنا البعض، ما دام كل واحد منا يبحث عن فراشات تتطاير هنا وهناك.. وتحلق حول خضرة وزهور، نستمد منها الحيوية والقوة... المريزق يعزف العود بالسجن المركزي بالقنيطرة المريزق بالسجن المركزي مع بعض معتقلي المجموعة 26