مغرب 2011...مهام الإصلاح في زمن الثورات بإقرار وثيقته الدستورية، بداية يوليوز الجاري، يكون الملك محمد السادس دخل، عمليا، العشرية الثانية من حكمه، بعد العشرية الأولى التي تميزت بالقطيعة مع مملكة الحسن الثاني في الميادين السياسية والحريات العامة والتنمية وملامح العهد الجديد، فكانت البداية، الأكثر لفتا للانتباه، إعلانه من الدارالبيضاء عن مفهومه الجديد للسلطة، وما تلا ذلك من إجراءات رمزية أخرى مثل تنحية إدريس البصري والسماح للمعارض اليساري أبراهام السرفاتي بالعودة إلى المغرب ورفع الإقامة الجبرية عن عبد السلام ياسين، مرشد جماعة العدل والإحسان. فكيف يمكن اعتبار دستور 2011 فعلا بداية لرحلة سياسية جديدة في تاريخ المغرب؟ جسد خطاب 9 مارس 2011 ولادة جديدة للملكية المغربية ولحظة تاريخية لإعادة صياغة مشروع الانتقال إلى الديمقراطية وفق أسس وبنيات وشراكات سياسية أكثر وضوحا، مختزلا المسافة إلى جيل متطور من الإصلاحات السياسية والدستورية والجهوية، ترافق مع إجراءات أخرى، ذات مغزى، مثل تنصيب المجلس الاقتصادي والاجتماعي والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، الذي عوض المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وتوسيع الصلاحيات التقريرية للهيأة الوطنية لمكافحة الرشوة ومجلس المنافسة وخلق مؤسسة الوسيط، بدل ديوان المظالم. تمة قناعة أساسية كشفت عنها صيرورة الأحداث خلال السنوات الأخيرة من العقد الأول لحكم الملك محمد السادس يمكن التعبير عنها بالصيغة التالية: إن تخليق الحياة العامة والقطع مع أنواع الممارسات الضارة بطموح المغرب في التغيير وعهد حقوق الإنسان ودولة الحق والقانون ليس معطى جاهزا يمكن الحصول عليه بمجرد قانون، أو إعادة نظر في اختصاصات مؤسسة، أو حتى دستور ديمقراطي مكتوب على ورق صقيل، بل نتاج وعي وإرادة حقيقية ومحصلة عمل مجتمعي دؤوب ومستمر يتحمل فيه الجميع المسؤولية على قدر المساواة. فمنذ سنوات، أطلق القصر الملكي دينامية إصلاح سياسي ومؤسساتي ظلت تتذبذب بين مد وجزر وظل العامل الحاسم فيها «إكراهات» الظرفية وجمود النخب السياسية وثقل الماضي القريب، قبل أن تأخذ هذه الدينامية طابع الحيوية، بداية السنة الجارية، بتزامنها مع الحراك الشعبي، الذي يعرفه الشارع المغربي منذ 20 فبراير مأخوذا بثورات الربيع العربي، وكان أن اتخذ هذا التفاعل شكل فعل خلاق مفتوح على المستقبل ارتفع سقف الاستجابة للمطالب إلى أكثر من المتوقع، في انسجام مع طوح جعل نموذج الاستثناء المغربي واقعا يتجسد على الأرض في عدد من المبادرات والإجراءات والقرارات، التي انطلقت، خلال 11 سنة، وتشكل، اليوم، خارطة طريق لما ينبغي أن يكون. وهكذا، جاء الإعلان عن مراجعة آخر دساتير الراحل الحسن الثاني بمثابة شهادة تزكية لهذه الدينامية. وإذا أمكن القول إن الحراك الاجتماعي لشباب 20 فبراير سرع، نسبيا، من إخراج هذا التعديل وإجراء المراجعات اللازمة على القانون الأسمى، فلم يكن ذلك المحدد الأساس في بناء التفكير والقناعة بضرورة توفر العهد الجديد على وثيقته الدستورية التي أضحت ضرورة قصوى لرسم تقاسيم الهوية الشخصية لمملكة محمد السادس وتسطير الحدود بين التخصصات والمسؤوليات والمؤسسات بشكل واضح ديمقراطيا، وجعل من الإرادة المشتركة بين الشعب والملك تعاقدا مكتوبا وميثاقا واضحا بين الحاكم والمواطنين. فقد كان يمكن أن يمر تعديل الدستور كغيره من الدساتير السابقة منذ 62 إلى 96، حين كان الملك الراجل يقول للبنود والفصول كن فتكون، لكن السياق فرض أن يكون للدستور المغربي مضمونا وأفقا وحياة ومعنى يستحق كل هذا النقاش والتدافع والحراك والتداول الإيجابي، الذي رافقه منذ كان مجرد فكرة في خطاب إلى مشروع ثم نص متداول، ومن مسودة رسمية إلى قانون رسمي، بين مكونات المجتمع وتمثيلياته السياسية والفكرية والثقافية التي تحس أن الدستور دستورها، مهما كبر الاختلاف وتضاربت الرؤى والمرجعيات. ولن نزيد كثيرا إذا قلنا إن دستور 2011 يؤسس، من حيث المضمون على الأقل، لنموذج دستوري بمواصفات مغربية يستند على دعامتين: أولا التشبث بالثوابت الراسخة للأمة المغربية ( دولة إسلامية يضمن فيها أمير المؤمنين حرية ممارسة الشعائر الدينية) ودولة منفتحة على محيطها الإقليمي والمغاربي ومتشبثة بالمواثيق الأممية وفاعلة ضمن المجموعة الدولية، وثانيا تكريس مقومات وآليات الطابع البرلماني للنظام السياسي المغربي، ما يعني سمو الدستور، مصدرا لجميع السلطات وربط المسؤولية بالمحاسبة وفصل السلط واستقلالها وتوازنها (وهنا يمكن الحديث عن دلالة تغيير ترتيب الفصل 19 وتقسيمه إلى فصلين اثنين 42 و43 يحدد الأول الصلاحيات الدينية لأمير المؤمنين والثانية الصلاحيات المدنية للملك رئيسا للدولة). وإضافة إلى تأكيده على أن اللغة العربية تظل اللغة الرسمية للدولة، فقد نص الدستور الجديد، الذي تمت صياغته وفق مقاربة تشاركية، على أن الأمازيغية أضحت بدورها لغة رسمية مع التنصيص أيضا على إحداث مجلس وطني للغات والثقافة المغربية تتمثل مهمته، على وجه الخصوص، في حماية وتنمية اللغات العربية والأمازيغية ومختلف التعبيرات الثقافية المغربية باعتبارها تراثا أصيلا وإبداعا معاصرا. وبفضل الدستور الجديد، أصبح المغرب يتوفر على خارطة طريق حقيقية في مجال الحقوق والحريات الأساسية كما هي متعارف عليها عالميا، وعلى تنظيم ترابي يقوم على اللامركزية والجهوية المتقدمة بما يفتح الباب أمام نقل حقيقي للاختصاصات من المركز نحو الجهات عبر اعتماد آليات متقدمة للديمقراطية المباشرة. حقوقيا، تأتي دسترة جزء كبير من توصيات هيأة الإنصاف والمصالحة، في سياق هذا التحول وتتويجا لمجهود جبار، بشراكة مع عائلات الضحايا وهيآتهم المدنية والحقوقية، تواصل منذ 2003 لطي جيد الصفحات السوداء لماض بلون الرصاص، كان من خلاصاته الإجرائية (المجهود) تأسيس هيأة الإنصاف والمصالحة التي آلت رئاستها إلى أحد المعتقلين السياسيين السابقين (الراحل إدريس بنزكري)، بقناعة مشتركة أن تكريس الخيار الديمقراطي يبدأ بانخراط المغرب في دينامية التأصيل الدستوري لحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا، وذلك عبر ترسيخ مبادئ سمو القانون الدولي على القانون الوطني وقرينة البراءة والحق في محاكمة عادلة وإقرار مبدأ عدم الإفلات من العقاب ومحاسبة المتورطين في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.