لم تحمل بين ثناياك كل هذه القسوة يا وطني؟..تحت سمائك فقط لا يحق لأبنائك أن تصيبهم أي وعكة في منتصف الليل، وإن تجاسر أحدهم و حمله الألم إلى أقرب مستشفى سيكون عليه أن يتألم طويلا ويفرغ ما في أحشائه ويصرخ لكي يأتيه ممرض ويكتب له وصفة طبية على ورقة رسمية بلا خاتم ولا توقيع ويستعجله للانصراف لشراء دواء لا يوجد، لأن آخر صيدلية مكلفة بالحراسة تقفل أبوابها في منتصف الليل ولا تفتح إلا بعد التاسعة صباحا.. منذ أن كنا أطفالا علمونا في كتب القراءة المصورة أن المستشفيات مسكونة بكائنات ملائكية أجنحتها تلك الوزرات البيضاء، وعندما كبرنا اكتشفنا أن الملائكة هجرت مستشفياتك يا وطني وسكنها مصاصو الدماء.. كم كان دم صديقتي فاطمة رخيصا عندك يا وطني..لم تحزن عليها طويلا وهي التي أسلمت روحها عندما كانت تطلق في سمائك روحا جديدة..ماتت لأن طبيب الحراسة كان نائما في بيته..والمولدة لم تستطع أن تتدخل لتوقف نزيفها المفاجئ..لتتحول إلى رقم وورقة إعطيت للسلطات لتأمر بدفنها ودفن مظلمتها ومظلمة كل شهيدات هذا الوطن في قبر النسيان.. كم تستهتر بكرامتنا يا وطني عندما تلسع أحد أطفالنا عقرب ونهرع إلى أقرب مستوصف طبي فنجده مهجورا مسكونا بالالم والعفن والروائح النتنة، ولأن لسعة العقارب قاتلة يشفق علينا بستاني يعمل في الجوار ويدلنا على بيت الممرضة التي تعد طعام أطفالها في بيتها وترفض الخروج مؤكدة أنها ليست هي الممرضة التي نبحث عنها، ولا تغير رأيها إلا عندما تسمع تهديدا باستدعاء الشرطة.. كم تحتقرنا يا وطني عندما ترفض أقسام المستعجلات استقبال آلامنا قبل أن ندفع، وبعد أن تفرغ جيوبنا تحولنا إلى فئران تجارب وتحيلنا على طلبة في سنواتهم الأولى ليتعلموا الحسانة فريوس اليتامى... حاولنا الهرب منك ومن قسوتك..تسللنا في قوارب قادتنا الى بطون الحيتان..استهلكنا كل أنواع الكحول والمخدرات علنا ننسى..رقصنا على جراحنا طويلا لكن كل ذلك لم يجد نفعا.. نشفق عليك يا وطني ..و نخاف عليك من البراكين الخامدة ونتمنى ألا ينزل أحد الى شوارعك إلا ليقبل علمك ويتمسح في ترابك..ولكنك بقسوتك تدوس علينا وترغمنا على الصراخ ..على التأوه..على الانفجار في وجهك..لا نطلب اليوم الكثير، لكنك إن تماديت في قسوتك لا أحد يعرف مدى الحمم التي ستندفع من فوهات البراكين..