حدثتني آنسة.. لأنني أريد أن اذهب بها من لقب عانس الذي باتت تراه في عيون من يعرفونها، بأنها دائمة الجلوس، قبالة الشاشة الصغيرة على مقعد أصبح مرتبط بها وبوحدتها للداخل والخارج من أفراد أسرتها، حيث يدها لا تفارق خدها وكأنها في حالة تفكير، أو في حالة استذكار لما كان معها، على قلته، وربما لسبب بنفسها أو للدعوة التي تلقتها لحضور زفاف احد من أقاربها، عادت بها عجلة الزمن إلى الوراء حيث الفجر بنوره وحيث كانت تستطيع تمييز الصورة بتفاصيلها، وليس النظر إلى إطار الصورة كما يحدث معها الآن، إذ كانت تتلقف بريق جمالها وهي تتعاقب باسقة من مرآة إلى أخرى في أذيال البيت، والحياة تتراقص في عينيها بهية طرية... ومشوار الذكريات ما زال يسير بها إلى ما خلف ستائره، تذكرت تلك الصورة التي علقت بذهنها لذلك الشاب الذي أراد اللحاق بموعدها صباحا وكيف خرج من غير إرادة منه بحذاء مكشوف في يوم شديد البرودة وكيف أنها لم تستطع تمييز ملامح الكلمات التي كانت تتراشق سريعا منه، بقدر اهتمامها بأصابع أقدامه التي أثخنت وتورمت من شدة الاحمرار نتيجة للبرد الشديد، ولكنها مع تراكم السنوات على تلك الصورة جمعها القدر به، فأرادت أن تبادره الكلام بما بقي منها من صدى جمال ذهب أدراج الرياح، إلا انه مر من جوارها دون كلام معها لأنه لم يستدل عليها . تلك الصورة والتي تشي ببرودة الأيام تكاد ترافق العديد من الفتيات ممن ذهب بهن قطار العنوسة في سكته ، حيث تجاوزت إحصائية العنوسه أرقاما فلكيه في مجتمع صغير، وبحسب الدراسات والإحصاءات فأن العدد يتجاوز المائة ألف فتاة ممن تخطين سن الثلاثين في الأردن. رغم اختلاف تعريف العنوسة مع تقدم المجتمعات إذ كان يطلق لقب عانس قديما على من تخطى بها الزمن إلى ما بعد عمر الثامنة عشر، أما الآن فأن اللقب بات يقترب ممن تجاوزن سن الثلاثين ولم يتزوجن. كثير من الفتيات ذهب عمرهن وهن يبحثن عن الرجل المناسب، دون أن يصارحن أنفسهن بأنهن لم يعدن مناسبات لأحد، الفقيرة تبحث عن الغني الذي ينتشلها من فقرها والميسورة تبحث عن الشخص الذي يمنحها ذات المستوى الذي تحيا به ، وأخرى قد يذهب عمرها وهي تنتظر شخصا مكبلا بقيود الزواج، وتعيسة أخرى يذهب عمرها وهي ما زالت على شروطها دون تنازل منها بزوج المستقبل، ولذلك ليس جزافا أن تقع معظم الفتيات في شباك غول العنوسة. الأيدي تلامس القلوب من تفشي مثل هذه الظاهرة التي باتت تهدد كيان الأسرة إذا استمرت بالازدياد، كما تهدد المجتمع ومنظومة القيم المتوارثة والسائدة لذلك لا بد أن تكون الجهود على قدم وساق من اجل محاصرة هذه الظاهرة والحد منها بإيجاد الوسائل المناسبة. الشريعة الإسلامية وبحديث نبيها الأمين الذي لا ينطق عن الهوى قال وقوله الحق: إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه؛ إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض، وفساد عريض ، وهذا دليل وطريق لقبول عقد زواج ميسر من إيجاب وشاهدين مع ولي أمر الفتاة، بعيدا عن الشراهة في إجراءات إتمام الزواج والتي لا تنذر في كثير من الحالات إلا بفقر وجحيم محقق. خبراء في التربية وعلوم النفس والاجتماع يؤكدون على فشل الكثير من الأزواج في إقامة أسرة سوية تنمو في رحابها المودة والرحمة، ينتج عن تزايد حالات الطلاق الناجم عن الخلافات بين الزوجين ومداخلات الأهل السلبية ورغبة الكثير من الآباء في استنزاف طاقة وقوة بناتهم حتى الرمق الأخير في تأجيل زواج بناتهن طمعا في مالهن ورواتبهن أو رغبة منهن في إطالة مدة خدمتهن للأسرة، وبحسب ما يقولون فأن أسباب وجنح من هذا النوع سوف لن تبشر بالخير بل ستؤدي بالمجتمع إلى أن يكون بؤرا ومستنقعا للعديد من الأمراض الاجتماعية العصية على الشفاء. رغم إن الحلول التي اتخذت من علماء اجتماع ونفس ورجال دين ومتنورين كلها تطالب بتقليل المهور والابتعاد عن الترف وإنشاء صناديق لدعم الزواج داخل المؤسسات والعشائر والعائلات، وإقرار القرض الحسن وتحمل نفقات العرس الجماعي من قبل الجمعيات المدنية، باعتبار أن الزواج حاجة إنسانية ملحة. إلا أن كل هذه الإجراءات والصرخات، نؤذن بها خارج نطاق المجرة، فالعنوسة إلى ازدياد والعازفين عن الزواج يبقون عازفون. ندق الجرس في وجه تراجع دور الأسرة في إتباع التربية الدينية وفي غياب المفهوم الصحيح للزواج كسكن ورحمة واستمرارا للنوع وليس مجرد زواجا للمتعة، نحتاج لأسر تقوم على المحبة والاحترام وليس على الوهن والانهيار،لشباب قادرين على تحمل مسؤولياتهم، نحتاج لقيم ايجابية في المجتمع بدل سيادة القيم الاستهلاكية والمباهاة بثمن المهر والمؤخر، نريد أن نكف عن المجتمع انتشار أنواع من الزواج، كزواج كف العفريت ومن عينته انتشار الزواج العرفي لقلة تكلفته على حساب تقديس العائلة والخوف من الزواج وتحمل مسؤوليته. هناك من يرى في تعدد الزوجات حلا مناسبا للخروج من هذه الظاهرة، تجنبا لبعض مظاهر العنوسة ربما نحن في الأردن تميزنا عن غيرنا من الشعوب العربية التي تعاني من ويل هذه الظاهرة حين أطلقت جمعية مناصرتها لتعدد الزوجات، حين أصبحت قيد التنفيذ على ارض الواقع، وما بين مؤيد ومعارض لهذه الفكرة، يرى الكثيرون أن الحل يكمن في تقليل المهور وليس في التعدد، وان هذه الوسيلة الجديدة قد تكون سببا اخر لارتفاع معدلات الطلاق، بينما هناك من يرى في مسألة التعدد أنها الجرأة في طريق الحلال. مقابل إحياء فكرة التعدد لا ننسى أن هناك نسبة ليست بالقليلة من الشباب العازف عن الزواج والذي سيقارب بنسبته أعداد الفتيات اللواتي فاتهن قطار الزواج نتيجة ارتفاع نسبة البطالة فيما بينهم بالإضافة إلى ندرة فرص العمل،وانخفاض مستوى الأجور والرواتب وارتفاع أسعار المساكن،كل هذه الأسباب ستبقي اغلب الشباب العازفين عن الزواج خارج مؤسسة الزواج،رغم حاجتهم للزواج، وستذهب بزهرة عمر الفتيات إلى غياهب الجدران والصمت.فهل نتقي الله في بناتنا وشبابنا ونرضى بشريعة الله.