مثلما يحدث و تلتهم أفعى الأناكوندا فريسة سمينة و لا تلفظها إلا بعد أن تمتص منها كل معاني الحياة..تلتهم الحياة نفسها هؤلاء الفقراء البسطاء الذين طحنهم الزمن بأنيابه القاسية فما تركهم غير جثت ممسوخة مشوهة، ما الفرق بينها و بين الأموات؟ دقات القلوب؟ قلوب الفقراء لا تنبض مثل الأحياء في صدورهم عدادات تحسب ما تبقى من أعمارهم قبل أن ينتقلوا من قبور فوق الأرض إلى أخرى تحتها. البؤساء في هذا العالم..الطامعون في كل شيء..الفاقدون لكل شيء..المحرومون حتى من لذة التمنى و الاشتهاء..حياتهم مجرد انتظار و أمل..و أحيانا إحباط و يأس..هم مثل ضحايا لعبة الروليت الروسية تشهر الحياة في وجوههم مسدسا برصاصة واحدة و تتسلى باختبار صبرهم و قوة قلوبهم، و في كل مرة تضغط فيها يد الحياة على الزناد ترتجف قلوبهم و يجزمون بأنها النهاية، إن كانت الطلقة فارغة فقد أمهلتهم فرصا أخرى للأمل أو للعذاب، و إن كانت صائبة فلا شيء بعدهم يتركونه غير أيتام و أرامل قد تذيقهم الحياة من نفس الكأس. ماذا يعني أن تكون إنسانا فقيرا ؟ يعني ببساطة أنك ستكتفي بدور المشاهد..تفرج على الأخرين و هم يقطفون ثمار الحياة و لذائذها..تفرج على بطونهم المتدلية بفعل التخمة، و أنصت لشكواهم من الشبع المفرط و انسداد الشهية .. و أنصت مع كل هذا لصرير أمعائك الفارغة و صراخ روحك المتمردة المحبوسة وراء سياج الحرمان و القهر.. ما معنى أن تكون فقيرا؟ معناها أن تتجنب النظر إلى وجهك في المرآة.. لأن الفقر شوه كل شيء جميل فيك..عينان ذابلتان.. كتفان متهدلان..و نظرة قاسية مليئة بالقهر.. معناها أن تكره زيارة الأهل و الاصدقاء حتى تتجنب ثرثرتهم السخيفة..و تفاخرهم بما يفعلون و ما يملكون ..معناها أن تحب الوحدة و تصبح تسليتك الوحيدة هي تسييج عالمك الكئيب الموحش بأحلام وردية ..أحلام مثل زهور مارس تخاف أن تذبل و تموت فلا يبقى لديك غير السواد و الحيرة و الألم.. ما أمرَّ أن تكون فقيرا !