لا شك بأن الحراك الأخير والدعوات المتجددة للتخلص من عبء السلطة والبحث عن بدائل، وابقاء خيار حل السلطة قائماً، بعد فشلها المطلق بتحقيق أي انجاز يذكر، وتحولها لأداة تجميل وتشريع للمحتل، قد حركت المياه الراكدة، وأثارت ولأول مرة خيار حل السلطة بشكل علمي وأكاديمي، وليس فقط من خلال التمنيات والتصريحات. شكّلت ندوة القاهرة التي عُقدت في نقابة الصحفيين المصريين بدعوة ومشاركة عدة مؤسسات فلسطينية وعربية بتاريخ 05 مارس/آذار 2012، شكّلت حراكاً مفصلياً أثار البعض، واضطر البعض الآخر للرد، وتساوى في هذا الأمر الاحتلال ورموزالسلطة، في رفضهم لمجرد الحديث عن حل السلطة، لما يحمله ذلك من خطر على الاحتلال ومصالح رموز السلطة، بالرغم أن دعوات حل السلطة السابقة جاءت من الجميع دون استثناء خلال السنوات الماضية، بل كانت ورقة تهديد في العام 2010 بحسب تصريحات صائب عريقات التي نشرتها وكالة كونا الكويتية في 25/06/2010، الذي سرعان ما تراجع عنها. ما أن انطلقت الدعوات للندوة في القاهرة، حتى استثيرت دوائر الاحتلال الأمنية، فجاء ما كتبه محلل الشؤون المنية والعسكرية أليكس فيشمان - المعروف بقربه من المصادر الاستخبارية والأمنية - في صحيفة يديعوت أحرانوت العبرية قبل أيام من انعقاد الندوة محذراً من "احتمال حل السلطة الفلسطينية مؤكداً على أن هذا هو أحد أكبر الكوابيس بالنسبة لجهاز الأمن الإسرائيلي وألقى باللائمة على حكومة تل أبيب التي ترفض تنفيذ خطوات تجاه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس " مضيفاً "يوجد بين القيادة الفلسطينية من يتحدث عن احتمال حل السلطة وإعادة الانتداب إلى إسرائيل، وهذا هو أحد أكبر الكوابيس لدى جهاز الأمن، فقد كشف بحث جديد تم إجراؤه مؤخرا أنه إذا تلقت إسرائيل المسؤولية على المناطق (المحتلة) فإن هذا سيكلفها 12 مليار شيكل (حوالي 3.25 مليارات دولار) سنويا وذلك من دون الحديث عن تبعات أخرى". هذه المخاوف ليست جديدة وجاءت بنفس التعبير "كابوس" قبل ما يقرب من عقد من الزمان حين حذر الكاتب الإسرائيلي يهودا ليطاني في صحيفة يديعوت أحرونوت (2/ 10/2003) من حل السلطة وتبعات ذلك من خلال سؤاله "ماذا يحصل إذا أعلن ياسر عرفات ذات صباح عن حل السلطة الفلسطينية؟" وقد وصفه الرجل بأنه "السيناريو الكابوس". محاولات افشال الندوة ومقاطعتها كعادة رموز السلطة كانت واضحة، بل حاول بعض من أرسلوهم قلب عنوان ومضمون الندوة ليرسلوا تقارير اخبارية قبل استكمال الندوة تحت عناوين تقلب حقيقة الندوة منها "خبراء يحذرون من حل السلطة" ، في محاولة مكشوفة لحفظ ما يمكن حفظه، سرعان ما انكشف زيفها للاعلام. أما بعد أن تناول الاعلام مضمون وتفاصيل ما تم في ذلك اليوم، اضطر رموز السلطة وفي تسلسل ملفت للرد على تلك الدعوات الواضحة والمباشرة، وان كان بطريقتهم المعتادة التي لا تعتمد على أي تفصيل علمي أو بحثي، لكن كلام مرسل عاطفي لا يُسمن ولا يغني من جوع، وفي هذا المضمار نرصد بعض تلك الردود: - نفى كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات، احتواء مسودة "أم الرسائل" التي تعكف القيادة على صياغتها وتسليمها لرئيس الحكومة الإسرائيلية ببنيامين نتنياهو على صيغ "تهديد أو وعيد" لإسرائيل. وقال عريقات الثلاثاء 13/03:2012:" إن السلطة لا تهدد ولا تتوعد بل تطالب بحقها الشرعي، وستضع النقاط في الحروف ". وحول وجود ضغوطات أردنية على السلطة للتراجع عن تهديد حل السلطة ، قال عريقات:" الموقف الأردني هو دائماً وأبداً مساند للحقوق والثوابت الفلسطينية، ولا توجد أي ضغوطات على السلطة بهذا الشأن". - هذا النفي جاء رغم تأكيدات إعلامية على لسان نبيل شعث جاء فيها بحسب صحيفة هآرتس العبرية في 12/03/2012 أن الدكتور نبيل شعث القيادي في حركة فتح قال إن رسالة الرئيس عباس إلى رئيس وزراء إسرائيل نتنياهو وحكام العالم ستكون خلال الأيام المقبلة وأنها تحمل كل الخيارات الفلسطينية بما فيها حل السلطة ووقف التنسيق الأمني . - عضو تنفيذية منظمة التحرير د. حنان عشراوي قالت بدورها في 15/03/2012: السلطة الوطنية هي تراكم نضال شعبنا الفلسطيني الطويل، والمطروح هو تقوية وضعها وتقويمه وليس حلها فليس هنالك أي قرار سياسي بحل السلطة. - وفي محاولة للقول أن طرح حل السلطة هو "اسرائيلي" لتبرير الاستمرار، رغم التأكيدات والمخاوف الاسرائيلية من سيناريو حل السلطة، علّق محمد المدني عضو اللجنة المركزية لحركة فتح على خبر حل السلطة الذي تناقلته وسائل الاعلام الاسرائيلية بقوله "لا يعقل ان يكون مصدر معلومة حل السلطة هو الجانب الاسرائيلي المسؤول عن تعطيل عملية السلام ووضع العراقيل في طريقها ،ونفى المدني اية امكانية لحل السلطة. - بدوره صرّح غسان الشكعة ، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في حديث إذاعي معقباً على قرار حل السلطة: إن هذا غير صحيح بالمطلق، وقد تعودنا على التلفيق الإسرائيلي! - أحمد قريع ذهب لأبعد من ذلك، حين نعى السلطة بشكل مباشر وخيار الدولتين داعياً لخيار الدولة الواحدة، في مقال له على صحيفة القدس بتاريخ 17/03/2012، ليقول: "بعد مرور نحو ربع قرن على قرار المجلس الوطني الفلسطيني عام 1988 في الجزائر بالإعلان عن خيار الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس على خط الرابع من حزيران 1967 وعودة اللاجئين، وبعد 21 عاما على مدريد، و19 على أوسلو، وبعد انقضاء عشر سنوات على أول اعتماد دولي لمصطلح دولتين لشعبين فلقد فقد هذا المشروع الذي لم ير النور بتاتا قوة اندفاعه الأولى وذوى تدريجيا" – ليضيف في تعليق مباشر على الدعوات لحل السلطة: " إزاء ذلك كله بدأت بعض القوى والشخصيات الفلسطينية تتحدث عن هذه الحقيقة المريرة 'فشل مشروع حل الدولتين' بصورة أكثر جدية بين أوساط رأي عام بدا أنه كان أعمق إدراكا من نخبته السياسية لمآلات كل هذه التحولات الجارية داخل إسرائيل وفي المشهدين: الإقليمي والدولي". البعض يتحدث عن انهيار السلطة لا حلها كما صرّح عزام الأحمد في لقاء مع القدس العربي بتاريخ 13/11/2011 "بأن السلطة الفلسطينية تنهار، مشددا على انه لا يوجد اي قرار بحل السلطة بل هي 'تنهار' نتيجة فشل عملية السلام واستمرار الاحتلال للضفة الغربية واحتجاز الاموال الفلسطينية. واشار الاحمد الى ان الرئيس الفلسطيني محمود عباس سبق وحذر الادارة الامريكية والمجتمع الدولي من استحالة ان يبقى الوضع الفلسطيني الحالي على ما هو عليه. واضاف الاحمد قائلا "سبق واعلن الاخ ابومازن وسبق وان ابلغ الرئيس الامريكي واطراف اللجنة الرباعية وكل المجتمع الدولي بأنه لا يمكن ان يبقى الوضع الفلسطيني كما هو الآن"، مشيرا الى ان السلطة الفلسطينية الحالية هي "سلطة وهمية غير موجودة بشكل فعلي الا بجانب محدد وفق ما تريد اسرائيل'، مضيفا "اذا كانت اسرائيل هي التي تتحكم في مصير السلطة فلتذهب هذه السلطة الى الجحيم'. وتابع الاحمد قائلا 'السلطة لا تحل وانما تنهار، السلطة تنهار، ليس هناك شيء اسمه حل السلطة، السلطة تنهار لا تحل"، مشيرا الى ان عوامل انهيار السلطة بدأت تتزايد". هذا الطرح هو طرح عبثي خطير، إذ أن انهيار السلطة يعني عدم الاستعداد والتجهيز، والدخول في فراغ سياسي واقتصادي وأمني، وفوضى عارمة، بينما حل السلطة المبني على أسس علمية ومهنية، وباستعداد كامل للبدائل يُجنب الشعب المزيد من المغامرات والقفزات البهلوانية لرموز السلطة، ويسجل موقفاً سياسياً متقدماً، وقراراً يحمل التحدي والمواجهة، بدلاً من فرض فشل يضاف لملسلسل الفشل المتواصل للسلطة. إذن وبدون أدنى شك، كان لقاء الشخصيات والخبرات الفلسطينية والعربية في القاهرة بتاريخ 05/03/2012، محركاً ودافعاً لإعادة النقاش حول مصير السلطة ، وخيار حلها كمخرج للوضع السياسي الكارثي الذي أفرزته أوسلو ومن وقعها وروّج ويروّج لها. ورغم المخاوف التي يضعها المنتفعون من بقاء هكذا سلطة وهمية، يضطر رئيسها للحصول على إذن يحدد له أين يبيت وأين يقود سيارته، وإرعاب الناس من فقدان رواتب عشرات آلاف الموظفين، وغيرها من الذرائع والتي تسبب فيها أداء تلك السلطة وربطها المباشر بالاحتلال، إلا أن الحلول ممكنة وواقعية، والمطلوب هو المزيد من النقاش المعمّق للخروج من متاهات السلطة المأساوية، والاعداد المحكم لمستقبل قيادة الشعب الفلسطيني، بعيداً عن الارتباط بالاحتلال وخدمته. خلاصة القول أن المياه الراكدة قد تحركت، وما ندوة القاهرة إلا بداية يجب أن يُبنى عليها، وأن يستمر النقاش الفكري والعلمي المعمق، لإيجاد البدائل والحلول لتلك السلطة الخادمة لمشروع الاحتلال، والحامية له، والمتباكي حتى على مجرد فكرة حل السلطة، "الكابوس" كما وصفوه. لم يعد هناك مجال لأن تترك الأمور في يد مجموعة متنفذة، تسير بالشعب الفلسطيني وقضيته نحو الهاوية، ولا القبول بالتمسك بأوهام سلطة يصفها أصحابها بأنها وهمية غير موجودة! لقاء القاهرة، سيتبعه في الأسابيع القليلة القادمة المزيد من الفعاليات والحراك، وفي كل مكان.