فتح النقاش الدائر حاليا حول تعديل الدستور المجال للتداول في حقيقة الانتماء الهوياتي للشعب المغربي: فهل نحن نتحدث عن هوية واحدة متعددة أم عن هويات عديدة ومتناثرة؟ وهل يحق لمكونات الساحة السياسية الحسم في قضايا الانتماء وتعريض وجود الوطن للمجهول؟ وأين الأكاديميون من هذا الحراك الاجتماعي والسياسي؟ وكيف يمكن في فترة وجيزة ودون حوار موسع الحديث عن هوية مجتمع تحددت عبر مراحل زمنية متعددة وشاركت في تشكلها عناصر متنوعة متناقضة أحيانا؟ هناك ملاحظات جوهرية وأولية تحدد مسار فهمنا للنقاش : 1. ارتبط النقاش حول التعديل الدستوري بالثورات العربية وامتداداتها. وقد قدمت هذه الثورات معالجة مختلفة للقضايا السياسية والاجتماعية معتمدة على مفهوم الوحدة الوطنية الذي تجسد على الخصوص في مصر واليمن ومحاولات العراقيين واللبنانيين، مادامت الأنظمة قد أسست وجودها وشرعيتها على التجزئة المجتمعية. فلم يعد أحد في مصر يتحدث عن الفتنة الطائفية اللهم إلا في محاولة الانقلاب الأخيرة علىلا الثورة، ولا أحد يتحدث عن انفصال الجنوب في اليمن . واقتدى بهم ثوار بيروت والعراق في رفض للطائفية . وقد خلقت هذه الثورات حالة "عدوى" في الشعوب العربية مما يعني الإحساس الدفين بالانتماء الموحد بالرغم من نزعات الإقصاء والتقزيم التي تظهر هنا أو هناك. 2. ارتبط النقاش كذلك بالخطاب الملكي ليوم 9 مارس الذي بشر بالتعديل الدستوري وحدد مساره وفي نفس الوقت حدوده في النقط السبع. وبالرغم من أن الخطاب تحدث عن الهوية وليس اللغة فإن تجند بعض الفعاليات الأمازيغية لاستغلال الفرصة وتحقيق مطالب كانت حتى وقت قريب أحلاما قد قزم النقاش الدستوري وأدخله في صراعات قبلية وحزبية ضيقة. وبدل أن ينصب النقاش على الهوية المتعددة للمغاربة وكيفية دسترتها تحول إلى نقاش لغوي حول اللغات التي يجب ترسيمها. 3. بدأ النقاش لغويا وها هو يتحول إلى مطالبات عديدة أهم مفاصلها مراجعة وجودية للمغرب باعتباره دولة: من مراجعة الاسم إلى العلم فالنشيد فالفضاء الإقليمي والبقية آتية..... كل هذه الملاحظات الأولية تحدد فهمنا للموضوع الذي قزم إيديولوجيا وغدا كأنه تجاذب بين لغتين واحدة مسيطرة إداريا وسياسيا وأخرى محاربة ومهمشة في جميع المستويات. لكن لنفتتح هذه السلسلة بمقدمات مبدئية نظرية علها تف بالمقصود . اللغة والهوية اللغة هي أكبر من مجرد آلية للتبليغ والتواصل، بل هي قدرة تمكن من الإبداع وحمل المعرفة وإنتاجها، ورسم معالم الحد بين الواقع الطبيعي الاجتماعي والكائن اللساني. ويُنتظر من كل متكلم طبيعي للغته أن يبدع بها وأن يحملها معارف مختلفة حتى تصير لغة المعرفة. وتحميل اللغة بالمعرفة أساس بناء المجتمع، كما أن بناء هذا المجتمع يُهيِّئ اللغة لتضطلع بوظائفها باقتدار، وتساهم في تنوير المجتمع وتنميته. وهذه المصادرة مؤسسة على ما تعارف عليه اللسانيون وفلاسفة الكلام أن اللغة هي أكبر من مجرد آلية تواصلية بل هي نظام من العلامات والرموز الدالة على الفكر حتى قال هيجل:" نحن نفكر داخل الكلمات" و قال غوسدروف: "إن التفكير ضاج بالكلمات"، وهي عند ليبنتز "مرآة للعقل". وهذا يعني أن اللغة عاكسة للإنجازات الفكرية لمتكلميها، بل نجد من يذهب إلى الربط بين الروح القومية وتشكل الأصوات والكلمات كما يرد عند الفلاسفة الألمان. وبصورة أوضح وأدق، فاللغة هي الصورة التي يتمثل فيها تفكير الأمة ورؤيتها للعالم والوجود، ولذا لم يكن يتصور وجود الإنسان بدون كلام: بين الوجود والعدم الكلام. ومن أهم العوامل التي يمتاز بها مجتمع عن سائر المجتمعات، و مهما كانت صيغة ذلك المجتمع ومهما كان حجمه هي اللغة. فاللغة هي التي تودّي دوراً هاماً و أساسياً في حياته. وهي الرابط بين أفراده، وهي رمز حياتهم المشتركة وضمان بقائهم. و اللغة، كما عبّر أصحاب الدراسات الأنثروبولوجية (الإناسة )، هي أساس كلَّ أنواع النشاطات الثقافية. واللغة أساسٌ لكثير من هذه الخصائص التي تكوِّن شخصية الإنسان و هويّة . و قد قال الشاعر: « لكلِّ قومٍ لسانٌ يعرفون بِهِ إن لم يصونوه، لم يُعرَف لهم نسبُ » ويقول العالم اللغوي « فرديناند دو سوسور » : « إن أخلاق الشعب تؤثر على لغته و اللغة هي التي تصنع ذلك الشعب » أما الهوية فهي حسب عبد السلام المسدي" في مفهومها الشامل قيمة جوهرية قيمة جوهرية في حياة الإنسان بوصفه كائنا ثقافيا قبل أن يكون كائنا بيولوجيا، وجوهر الهوية الانتماء، وهو الذي به يفارق الإنسان آدميته الغريزية مرتقيا إلى آدميته المتسامية. والانتماء مضمون وإبلاغ، فأما المضمون فعقيدة تكفل له الإيمان وتقيه شر الضياع في الوجود، وأما الإبلاغ فلغة تؤمن له التواصل الإنساني الخلاق. فإذا تصاقبت دائرة الإيمان ودائرة اللسان كان الانتماء إلى التاريخ وكان الاستشراف إلى المآل". وسيبدو الأمر أكثر وضوحا عندما نقول: إن قبول تفتيت اللغة القومية هو الخطوة الأولى نحو قبول تفتيت الذات، وقبول تفتيت الهوية، فقبول تفتيت السيادة ثم قبول تفتيت الأرض. إن ارتباط اللغة بالهوية حاضر في كل ثنايا الحديث السياسي. فكل الشعوب اختارت الاحتماء بلغتها من أجل وجودها الذاتي قبل السياسي. ويكفينا التمثيل بالنموذج الفرنسي في هذا المجال. فبالرغم من تأسيس الأكاديمية الفرنسية عام 1635 لم يتم التنصيص على دستورية اللغة الفرنسية باعتبار أن ذلك من البديهيات، لكن حين لاحظ الفرنسيون التنوع اللغوي الطارئ على تركيبة مجتمعهم سارعوا عام 1992 إلى التنصيص على رسمية اللغة الفرنسية في الدستور. لكن الأهم في ذلك أنه كان مقدمة لتشريعات متعددة: حيث اعتمدته الحكومة الفرنسية في مفاوضات الكات بمراكش1994، وخاضت فرنسا حربا ديبلوماسية ضد الأمريكان تحت عنوان الاستثناء الثقافي. وبعده تم إصدار قانون استعمال اللغة الفرنسية المشهور بقانون توبون نسبة إلى وزير الثقافة الذي أعده، وصدر الأمر الرئاسي بتطبيقه سنة 1995. إن الذي يهمنا من هذا المثال هو الاقتران الوجودي بين هوية الانتماء للوطن ولغته القومية حتى قال جلبير كونت في صحيفة لوموند:"إن اللغة هي الهوية الوطنية، إنها الوطن الحي المتدفق الذي يسكن قلب كل واحد منا". وهذا الإحساس المغيب عمدا عن وعي الفاعل السياسي لدينا يدفعنا إلى ضرورة الصدح به. وخير النماذج مسارات الأعداء. فحين اغتصاب الأرض سنة 1948 لم تمض إلا خمس سنوات حتى بادروا إلى إنشاء مجمع اللغة العبرية 1953 وكونوا مجلسا أعلى يضم نحو أربعين لجنة متخصصة في كل الفروع العلمية والفكرية والأدبية والفنية تهتم بمسايرة اللغة للتطور واستحداث شبكة اصطلاحية مفروضة على الإدارات والمؤسسات، ويعاقب كل من خالف ذلك. وبين الموضوع الإنساني والذات الجماعية جسر واصل تجسده الدساتير التي يتأسس عليها مفهوم الدولة. فالدستور في أغلب الحالات ينص على اللغة القومية التي يتعلق بها الشعب لتكون جزءا جوهريا في تحديد هويته، وقد يعتمد الدستور مبدأ التعدد اللغوي لكنه يحدد مكوناته بالتنصيص الصريح. يتبع.......... ------------------------------