في البدء تتوزع شواغل هذه المداخلة على ثلاث مقتربات للتفكير في ظاهرة زواج المغربيات من الأجانب، فالمقترب الأول يتوجه بالتحديد إلى شروط إنتاج هذه الزيجات، فيما ينشغل المقترب الثاني بالفعل الاجتماعي خطابا وممارسة، أما المقترب الأخير فيتعلق بتساؤلات قادمة تسائل المآلات الممكنة للزواج المختلط؟ فما الأسباب الثاوية وراء انتشار هذه الزيجات؟ وكيف يتم تدبير هذا الانخراط في مؤسسة الزواج؟ ما الطقوس والتمثلات والتأويلات التي ينتجها العقل الجمعي في شأن زواج يعبد الطريق نحو الضفة الأخرى؟ وما المآل المحتمل لهذه الزيجات؟ إنها أقوى التساؤلات التي تنطلق منها وإليها هذه المداخلة في محاولة للفهم والتفسير. فاللافت للنظر اليوم هو التغير المستمر الذي تعرفه منظومة القيم، فمع كل هذا التطور الذي يشهده العالم تظل القيم هي الأكثر تعرضا للهدم والتقويض والانبناء من جديد ، العالم كله يسير في اتجاه نوع من التفسخ والتكون القيمي في آن، والمغرب لايشكل الاستثناء في هذا المجال، إنه معني بهذا التحول الذي يمتد بتأثيراته إلى كافة تفاصيل المشهد المجتمعي. من هذا المنطلق نجد أكثر من مبرر منطقي للتغير الذي مس شروط ومعايير الزواج في المجتمع المغربي، فهناك من جهة التحولات الكبرى التي يفرضها واقع العولمة وتأكيد مقولة القرية الماكلوهانية، وهناك من جهة ثانية الظروف والاسباب الاجتماعية التي تقف كثيرا وراء أي تحول في خارطة الفعل الاجتماعي، فإميل دوركهايم يلح في قواعد المنهج السوسيولوجي على ان الاجتماعي ينبغي أن يفسر ويفهم بواسطة الاجتماعي، وعليه فتفسير وفهم هذه التحولات يستلزم في لابدء تشريحا واقعيا لذاك "الاجتماعي" الذي يؤثر ويساهم في صناعة التمثلات وصياغتها وفقا لهذا الشكل أو غيره. "الصواب" الاجتماعي بموازاة أنماط التنشئة الاجتماعية وعلى طول فعاليتها ومؤسساتها يستمر بشكل متواتر تشريب مجموعة من القيم وقواعد السلوك الاجتماعي المقبول الذي نصفه في كثير من الاحيان ب"الصواب" وفي إطار هذه القيم المستدمجة يتم التعويد على رسم البورتريه المحتمل بل والضروري لزوجة المستقبل، التي ينبغي أن تكون شبيهة لصورة الام، وأن تكون مطيعة وطيعة وخادمة وجارية في خدمة الرجل أولا وأخيرا، لكن هذا البورتريه لايصمد طويلا في ذهنية الشباب ، بل يتعرض للتغيير والإضافة مع توالي الايام والتجارب، وهكذا تصير الزوجة حداثية ومتعلمة بالنسبة للشباب خلال سنوات الدراسة، ومتعاونة ماديا وربة بيت خلال فترة العمل، وتصير بلا شروط محددة خلال فترات انسداد الافاق وشيوع الأزمة ن وهذا يعني أن الإطار العام والظرف الاجتماعي للشباب هو الذي يؤطر وينتج شروطه الخاصة للزواج، بل يمكننا القول بأنه كلما كانت الأزمة خانقة كلما كانت شروط الزواج الموضوعة من قبل الشاب غير صارمة بالمرة، في حين يصبح العكس هو المعمول به مع حالات الانفراج والرفاه الاجتماعي. إن هذه الخلاصة تدفع نحو التأكيد على أهمية العامل الاجتماعي في صياغة القيم والمعايير المرتبطة بالزواج فشروط الزواح التي تنحتها الاسرة الممتدة لم تعد محترمة بشكل كبير من قبل شباب اليوم، بل إنها أصبحت متجاوزة في كثير من الاحيان، فلذلك "الصواب" الاجتماعي يتعرض اليوم لمعاول الهدم والتقويض وفي ذلك تأشير مباشر على التغيرات القيمية التي اشرنا إليها في لابدء، فذات الشروط التعجيزية التي كانت تضعها الاسر في السابق قصد إتمام مراسيم الزواج صارت تقابل اليوم بليونة ملحوظة، وتلك الشروط التي كان يرفضها الشباب أصبحت اليوم لا تثير حتى استغرابه، بل إن مسالة البكارة ذاتها التي كان من المستحيل التنازل بشأنها يبدو اليوم أن هناك اتجاه سائر في سبيل التعامل البارد والهاديء معها، فكثير من الشباب لايتبرمون من الزواج من فتيات فقدن بكارتهن لسبب أولآخر. شروط الانتاج ما يميز المجتمع المغربي هو ذلك المستوى العالي من التركيب والتعقيد، فكل الظواهر لا تجد تفسيرا أو امتدادا لها في شرط واحد، بل في شروط متداخلة ومتنافرة في نفس الان، ومن نقول بأن الزواج المختلط لكي يفهم مغربيا يجب أن نقرأه في سياقات الانوجاد والإنتاج وإعادة الإنتاج، فمن داخل البراديغم السوسيوليوجي لايلوح لنا هذا الزواج كفعل عاد في سياق التبادلات الثقافية والحضارية بين المجتمعات، بل يؤشر على احتمالات أخرى من قبيل الرغبة في "الحريك" وتأمين المستقبل وعليه وبالنظر إلى الشروط السوسيوسياسية للمجتمع المغربي، يمكن القول بأن البعد السوسيواقتصادي يظل الاكثر حظورا وتوجيها لإمكان هذا الزواج المختلط، بحيث تظل الرهانات الأخرى المفتوحة على التواصل والحوار الحضاري والديني مجرد شماعة تعلق عليها الاسباب الحقيقية المؤطرة لهكذا زواج. إن الراهن المغربي اليوم مختلف في النوع والدرجة عن المغرب الفائت، الذي كان يتميز باسره الممتدة وسيطرة المؤسسات الأولية بكافة ضوابطها وقواعدها الصارمةن وهذا ما يفسر الاختلاف في المعايير التي نصادفها اليوم لدى الشباب مثلا وهو يقبل على تجربة الزواج، فما كان يثير الاستغراب والتقزز ولربما العار والغضب القبلي وليس العائلي فقط، لم يعد يثير اليوم أدنى استفهام أو اعتراض. لقد صارت العديد من الزيجات اليوم مقبولة اجتماعيا الى حد ما وصارت أيضا شروط الدخول فيها مستساغة واعتيادية ، فما دلالة هذا التحول ؟ لنتأمل ونتساءل في الآن ذاته. ففي وقت سابق كان زواج الشاب المغربي بل والعربي أيضا من امرأة تكبره سنا، أمرا غير مقبول بالمرة من قبل العقل الجمعي، بل إن "فعلة" كهاته يمكن ان تجلب على مقترفها "السخط" والغضب العارم، لكن ذات المسألة لم تعد تثير كثيرا من الاعتراض من قبل المجتمع ، بل اصبحت تبارك حتى من قبل بعض الاسر المحافظة، وعلى صعيد آخر فالشاب ذاته كان قبلا يرفض أصلا فكرة الزواج من امراة تكبره سنا، لكن الأمر تغير بعض الشيء في ايامنا هاته. دائما في إطار تأمل هذه المتغيرات يمكن أن نشير إلى مثال آخر يهم الزواج من المطلقة والأرملة خصوصا بالنسبة للشاب الذي لم يخض تجربة الزواج من ذي قبل، وهناك ايضا حالات أخرى تبدوا أكثر تطرفا كالزواج من امرأة انخرطت في علاقات غرامية كثيرة، أو أنها تدمن علىاستعمال الكحول أو المخدرات. على المستوى النظري نجد تبرما من لدن الكثيرين من الزواج المختلط بل كثيرا ما يمعن الأفراد في ذكر كل سلبياته، لكن بمجرد ما تتاح لهم أو لذويهم فرصة هذا الزواج حتى ينتهوا من مساءلتهم النقدية لهذا الزواج ويتحولون إلى مباركين له. لابد من التأكيد مرة أخرى على أن هذا الزواج المختلط يظل محصورا في صفوف من قادتهم الظروف إلى الضفة الأخرى ابتغاء العمل أو الدراسة، أو من منت عليهم ذات الظروف بفرصة التعرف إلى أجنبية أو أجنبي داخل البلاد، ولا يمكن أن نجزم بأن هذا الزواج آخذ في الارتفاع في غياب مؤشرات إحصائية دقيقة، وإن كانت الملاحظة العفوية تقود إلى تخمين هكذا استنتاج مع تنامي العلاقات المؤسسة مع " الآخر" على ضفاف وادي السيليكون من خلال غرفة الدردشة الإلكترونية. أداء الثمن لابد من التذكير بأنه إذا كان هذا الزواج المختلط منهيا عنه في لاسابق بل وجالبا للسخط العائلي، فإنه صار يحظى بنوع من القبول الاجتماعي الرمزي على الأقل من قبل الشباب ذاتهم، وبالطبع فالعوامل الثاوية وراء هذا القبول لا يمكن أن تفسر فقط بالتغير المتسارع الذي يعرفه حقل لاقيم، بل يمكن تفسيرها بشكل قوي بالواقع العام الذي ينطلق معه الشباب، فأمام انسداد آفاق العمل واستشراء البطالة والأزمة يجد الشباب نفسه مضطرا للتفريط في كثير من القيم ن معتبرا الزواج بمثابة صفقة تجارية يمكن أن تنقذه مما هو غارق فيه، وبذلك يتمثل الزواج كجسر عبور نحو الأمان المجتمعي، وبالطبع فالأمان يستلزم أداء ثمن باهض يكون من غير شك هو التفريط في شروطه التي غرسها فيه المجتمع بصرامه أكبر. إن الزواج المختلط وكما يبدو من خلال ممارسة أولية لنوع من السوسيولوجيا العفوية يكون قائما في غالب الأحايين بين عنصرين غير متكافئين من ناحية الرساميل الرمزية والمادية، وبالطبع فالكفة المادية طبعا تكون مرجحة لفائدة من يدفع أحسن ومن يملك وسائل الإنتاج والإكراه والتدبير، واللاتكافؤ يلوح أيضا في المؤشرات الديموغرافية والاستيطيقية من ناحية السن والجمال ، مما يوضح بجلاء البعد السوسيواقتصادي هو الثاوي بامتياز وراء كثير من الزيجات المختلطة، فما معنى أن تجد شابا مغربيا بهيا في الق العمر يتزوج من سيدة تكبر حتى جدته بسنين؟ هل الحب هو الكامن وراء هذا الزواج؟ أم هي الرغبة فقط في الحصول على أوراق الإقامة وتحسين مستوى العيش؟ ونفس السؤال نطرحه حول امر شابة حسناء متزوجة من شيخ طاعن في السن ؟ وختاما نؤكد أن العنصر المادي الصرف يظل الشرط الوجودي الخالص لانبناء عدد لابأس به من الزواج المختلط الذي يتم تمثله كجسر عبور يساعد جدا في الحراك الاجتماعي والتحرر بالتالي من الفقر والعطالة. لكل شيء ثمنه، وللقيم و"الاجتماعي" عموما الثمن الباهض، والأطفال المتحدرون من زيجات ممهورة بلغة الأرقام وأوراق الإقامة ، هم الذين يؤدون هذا الثمن الباهض، ويحدث في الغالب نوع من الانفصام الاجتماعي خصوصا في حالة التمأسس المادي الصرف للزواج المختلط، ففي هذه الحالة التي يغيب فيها التواصل والتفاهم القبلي، يسعى كل طرف إلى تأمين أساسياته الثقافية وتشريبها للأطفال، لضمان مزيد من الولاء والتمكن نهاية من السيطرة على مجموع النسق، من هنا يصير الأطفال محور كافة الرهانات، كل طرف يريد ان يدفعهم في اتجاه ثقافته ودينه وطقوسه، والنهاية طبعا تحسم في الغالب لمن يملك وسائل الإنتاج والإكراه، او لمن يتمكن في الختام من الإمساك بكافة خيوط اللعبة. الأطفال في هذا التسابق المحموم يظلون الحلقة الأضعف، وهم الذين يؤدون ثمن الزواج الخطأ، يؤدونه انحرافا ولا استقرارا نفسيا في كثير من الأحيان، ولا ادل على ذلك غير صعوبات الاندماج في اي من الثقافيتن المكونتين لعنصري هذا الزواج بالنسبة للأطفال، فلا هم يندمجون بيسر بالغ في ثقافة الأب ولا يوثقون العرى أيضا مع ثقافة الأم، تراهم دوما بين المنزلتين، بهوية مهزوزة ومشاكل بالجملة. الأمور طبعا لا تكون على هذا القدر من الصعوبة وسوء الاندماج في جميع حالات ومآلات الزواج المختلط، بل أحيانا يصير الاختلاف الثقافي والطقوسي مصدر إغناء لثقافة الأطفال، وهذا بالطبع يظل على الزيجات التي انبنت قبلا على غاية غير منهجسة بتسوية اوراق الإقامة وتحصيل الثروات المادية، وهذا ما يظل محصورا ومحدودا جدا في مشهد الزواج المختلط. على سبيل الختام لقد اصبح الزواج المختلط يحظى بنوع من القبول الاجتماعي على الرغم من الاعتراض أو التبرم الصوري الذي يقابل به، كما كان التأكيد قبلا على أن شروط إنتاج وإعادة إنتاج هذا الزواج تظل سوسيواقتصادية في غالب الاحيان، أوراق الإقامة، الرغبة في الهجرة بشكل قانوني بدل الغرق في مقبرة المتوسط، مراكمة الثروة والانتهاء من وضع الهشاشة والفقر والعطالة .. كل هذه اساسيات مركزية داخل مطبخ صناعة هذا النوع من الزواج، وبالطبع فالزواج الذي يكون ممهورا بلغة الربح والخسارة لابد وأن يكون مفتوحا على احتمالات الخسارة بدرجة عليا، على اعتبار ان الزواج لايحسب ولا يفهم بهذه اللغة، بل يبنى ويتطور ويتقوى بالقيم والمشاعر، ألم يقل باريتو بأن المشاعر هي القوة المحركة للتاريخ؟؟؟ فمنذ البدء يعرف طرفا هذا الزواج بأن هذه المشاعر هي آخر نقطة تستحق التفكير، على الاقل يكون هذا الاعتقاد من طرف العنصر الاضعف في العملية، وبالمقابل يصير هاجس الاستفادة هو الأكثر حضورا وتوجيها لمجريات هذا الزواج، وبين تحقق ذلك من عدمه يستثمر كل طرف إمكانياته من أجل تحصين الصفقة الاجتماعية وإطالة أمدها عبر تجييش العواطف وإبداء الطاعة العمياء لكن بعد تحصيل المطلوب يتغير كل شيء وينطلق العد العكسي لانتهاء العلاقة، او اندلاع شرارة المشاكل الاجتماعية على مستوى طرفي الزواج أو من أنجبوهم من أطفال. إن الزواج المختلط وفقا لشروط إنتاجه المفتوحة على ما هو مادي صرف لا يمكن أن يكون إلا مفضيا إلى مزيد من المشاكل والصراعات الذي يؤدي ثمنها في الغالب أطفال يحملون في أعماقهم هوية مهزوزة، ولا يمكن وفقا لشرط المادي المنهجس بشرعنة الغقامة ومراكمة الأموال، أن يكون فرصة لحوار الحضارات وتلاقح الشعوب وتجسير الهوة بين الثقافات والاديان، فقليلة هي الحالات التي يكون فيها الزواج المختلط قائما بمثل هذه الأدوار، فالعامل السوسيو اقتصادي يفرغ الزواج المختلط من محتواه العميق ويحيله مجرد صفقة تجارية للحراك الاجتماعي، وهذا ما يجعل العمر الافتراضي للزواج المختلط مهددا دوما بالانتهاء في اي وقت ويجعله مفتوحا على احتمالات العطب الاجتماعي والنفسي للأطفال قبل الآباء.
------------------------- **: ورقة للأستاذ عبد الرحيم العطري –أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة- مقدمة لندوة "زواج المغربيات من الأجانب بين إلحاح الواقع والمأزق الاجتماعي والشرعي والقانوني" المنظمة من طرف موقع إسلام اون لاين ومنتدى الزهراء للمرأة المغربية يوم الخميس 24 يوليوز 2008 بفندق فرح بالرباط.