هدها التفكير والتعب والسهر الطويل، دخلت فيما يشبه الغيبوبة، لم تدر ماذا حدث خلال الساعات الماضية، إلى أن أيقضها صوت أبيها الغاضب .. لم يكن في حاجة لكي يراها أو يرى أطفالها ليعلم أنها هنا، لقد زاره زوجها هذا الصباح في دكانه الصغير المنزوي في أطراف السوق، واشتكى له من تصرفاتها، وكيف أنه يعود منهكا من العمل فيجدها نائمة، وكيف أنها لا تهتم به ولا تشعره بوجوده، ولا تؤدي واجباتها الزوجية..و..و..... وقف أبوها بباب الغرفة، قفزت من مكانها.. لم يترك لها فرصة لتحكي له ما حدث، بدأ يمطرها بوابل من النصائح القاسية.."المرا الحرة ما تخرجش من دارها..يلا كان مقلق دخلي لبيت آخر سدي عليك حتى يبرد..الساعة لله.. واه كل نهار خارجة من دارك؟ ما لاقياش الحكام؟..المرا عزها فدارها...(المرأة الحرة لا تخرج من بيتها..إذا كان غاضبا ادخلي غرفتك وأغلقي عليك إلى أن يهدأ...أليس لديك ولي يحكمك..المرأة عزها في بيت زوجها.) لم يتوقف عن الكلام، ولم يمهلها لتدافع عن نفسها أو لتشرح ما حدث لها.. لم يسمح لها بغير البكاء.. تدخلت أمها لتخفف عنها، حاولت أن تشرح له أنها جاءت في الصباح غارقة في دمائها، وأنه يضربها باستمرار، لكنه لم يقتنع بمبرراتها وواصل بصوت أكثر ارتفاعا.."كون ما دارتش علاش ما يضربهاش.. كون جا ولقا داك الشي اللي بغا فدارو ما يخصها خير.." (لو لم تخطئ لما ضربها.. لو كان سعيدا معها لما قصر..) والتفت إلى أمها ليصب عليها المزيد من غضبه.. "ترابيك هاديك (هذه تربيتك).. كون ربيتيها ما تبقاش كل نهار غاديا جايا.." عم الصمت.. سقطت مغشيا عليها.. توجهت أمها إليها، أخذت تناديها وتصب الماء على وجهها، هدأ بعض غضب أبيها، اقترب منها أكثر، حملها إلى الفراش، وبدأ يمسح على رأسها ويردد "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم..أعوذ بالله من الشيطان الرجيم..." دخل الأطفال مذعورين إلى الغرفة، التفوا حولها من جديد، تعالى بكاؤهم أكثر من أي وقت مضى، فتحت عينيها.. غادر أبوها بسرعة، فيما بدأت أمها تلومها لأنها أفزعت أطفالها، وبدأت تخاطبهم.. "صافي راها لاباس..هاهي فاقت.." تعاطفت أمها معها ومع الصغار واحتضنتهم لأول مرة منذ وصولهم في الصباح.. خرجت وتركتهم قليلا مع أمهم، قبل أن تعود بالماء وتساعدها على غسل وجهها، طلبت من الأطفال أن يذهبوا ليتفرجوا على التلفاز ويتركوها ترتاح قليلا، غامر أوسطهم واعترف لها بأنهم جوعى.. أمسكت بأيديهم الصغيرة، وحملتهم إلى الغرفة الأخرى، وضعت أمامهم قطعا من الخبز المدهون بالزبدة، وصنعت لهم شايا.. بعد ساعة عاد أبوها، جلس إلى جوارها، كان أكثر هدوءا، وحاول أن يكون أكثر حنانا، بدأ يشرح لها كيف أن خروجها من بيتها ليس في مصلحتها، وهو لا يبحث إلا عن مصلحتها... بينما كان يتكلم، كانت تشعر بوجوده لكنها لا تسمع شيئا.. جفت دموعها ولم تعد قادرة على ذرف المزيد منها، رجتها العبارة الأخيرة التي قالها أبوها "غدا صباحا سيأتي ليأخذكم إلى بيتكم.."..يا إلهي ..كانت تعرف أن أباها أعطى كلمته ولا سبيل لتراجعه عنها مهما يكن، وكانت تعرف أنها إن عادت ستعود إلى حتفها.. حاولت أن تصرخ بكل قوتها "أرجوك يا أبي لا تفعل بي ذلك.." لكن لسانها تجمد في مكانه.. اختنقت الصرخات في جوفها.. وضعت يديها على رأسها وبدأت تئن.. قبل أن تشرق شمس الصباح، أيقظت الصغار برفق، طلبت منهم ألا يحدثوا أي جلبة، فتحت باب المنزل وخرجت تجرهم وراءها، سألها أكبرهم "ماما إلى أين سنذهب؟" لم تجبه، كان رأسها يضطرم بالهواجس.. فكرة واحدة سيطرت عليها أن تعرض نفسها رفقة أطفالها لعجلات القطار، كانت تسير وتلتفت إليهم بين الفينة والأخرى فتأخذها الرحمة بهم ويمزقها الأسى، تغرق في دموعها.. تسمع هدير القطار القادم من بعيد.. تغد السير باتجاه السكة.. تنظر آخر مرة لوجوه أطفالها.. تتخيلها ممزقة ومدرجة بدمائها.. ترتعب.. تبعدهم عن الخطر الذي بات قريبا، تحضنهم .. تلتفت من وراء ستار دموعها إلى محطة القطار القريبة...