تناحر أمراء الطوائف بالأندلس وأثره في تعاظم النفوذ المسيحي بعيد وفاة المنصور بن أبي عامر وأفول نجم الأمويين بالأندلس انفرط عقد الدولة وظهرت إمارات الطوائف ووقع بين هذه الإمارات تنافس شديد وتناحر بدد مقدراتها وأطمع العدو النصراني فيها ، وقد شهدت تلك الفترة تقارب الإمارات المسيحية حيث ستتحد نافارة وقشتالة ومملكة أراغون على هدف واحد وهو طرد المسلمين من الأندلس وسينتقل المسيحيون عمليا إلى تحقيق هذا الهدف على أرض الواقع حيث سينتزعون طليطلة من بني ذي النون وستتعرض سرقسطة وبطليوس لغاراتهم المتتالية ، كما سيصل الأمر بألفونسو إلى حد مطالبة بني عباد أمراء إشبيلية بدفع الجزية مع أنهم لعبوا دورا قذرا في سقوط طليطلة، غير أن ألفونسو لا عهد له وما كان ليشبع نهمه غير سقوط الأندلس كلها تحت قبضته0 أمام هذا الوضع الخطير تراءت الهزيمة للأندلسيين قاب قوسين منهم أو أدنى وتعالت في صفوفهم دعوات مداهنة المسيحيين من كل جانب حيث كان منتهى ما تشرئب إليه أعناقهم إبرام معاهدة تدفع عنهم صولة ألفونسو حتى وإن كانت مذلة أو تنطوي على غدر بعض الطوائف الأخرى المسلمة ،و سرت روح الهزيمة في نفوس القوم وقد صور الشاعر ابن العسال ذلك أفضل تصوير حين قال يا أهل أندلس حثّوا مطيّكم/ فما المقام بها إلا من الغلطِ الثوب ينسل من أطرافه وأرى/ ثوب الجزيرة منسولاً من الوسطِ ونحن بين عدو لا يفارقنا/ كيف الحياة مع الحيّات في سَفَطِ. أمراء الطوائف يستنجدون بالمرابطين لردع المسيحيين إن مطالب المسيحيين لم تقف عند حد مطالبة أمراء الطوائف بالجزية وظهر لعقلاء الأندلسيين أن أعداءهم ماضون في استنزاف الإمارات الإسلامية ،وأنهم يتحينون الفرص للانقضاض عليها بعد إعلانهم عن انطلاق حرب الاسترداد المقدسة، و لم يعد أمام الطوائف الأندلسية من خيار غير الاستنجاد بالمرابطين ، القوة الضاربة التي نشأت بعدوة المغرب الأقصى غير أن هذا الرأي لم يصادف أي هوى في نفوس أمراء الطوائف رغم وجاهته ،وهذا ما تثبته مجموعة من الرسائل الموجهة منهم إلى يوسف بن تاشفين والتي تؤكد أن موقف الأندلسيين من المرابطين كان مذبذبا فقد بعثوا إلى أمير المسلمين أول الأمر يطلبون منه أن يعرض عنهم ثم تغير موقفهم مع تزايد ضغوط ألفونسو عليهم وتنامي أصوات القضاة والفقهاء المطالبة باستدعاء المرابطين . إن استدعاء الملثمين كما توضح مجموعة من الرسائل المتبادلة بين أمراء الطوائف وبين المرابطين لم يكن خيارا استراتيجيا ارتضاه أمراء الطوائف عن اقتناع بل كان تكتيكا ، الغاية منه تخويف المسيحيين وترهيبهم دون الدخول معهم في أي نزاع مسلح ، لقد حاول الأندلسيون حفظ استقرار كياناتهم الهشة بخلق نوع من التوازن بين المرابطين والقوى المسيحية والظاهر أن الدولة المرابطية ما كانت لتغيب عنها مرامي هؤلاء ، فقد بعث المعتمد بن عباد إلى يوسف بن تاشفين يسأله التريث ثلاثين يوما قبل الجواز إلى الأندلس والتمس من ابن تاشفين عبر بعثة أرسلها إليه أن يعطيه عهدا مكتوبا يلتزم فيه بعدم الجواز إلا بعد تلقيه لإشارة من المعتمد ، فرفض ابن تاشفين ذلك وخشي إن سلمه كتابا أن يستغله في التفاوض مع ألفونسو ،وقد توالت الأحداث على نحو قطع سبل التفاهم بين الطوائف والمسيحيين خاصة بعد قيام المعتمد بقتل رسول ألفونسو وتهديد هذا الأخير له باجتياح مملكته ،فكان ما هو معروف من إطلاق المعتمد لصرخته الخالدة "والله لا يسمع عني أبدا أني أعدت الأندلس دار كفر فتقوم علي اللعنة في منابر الإسلام، رعي الجمال عندي والله خير من رعي الخنازير"، كناية عن أنه يرضى بأن يحمل أسيرا إلى ديار المرابطين ولا يرضى بأن يكون أسيرا عند النصارى ،وهنا ستتوالى رسائل أمراء الطوائف على ابن تاشفين وأهمها الرسالة التي حملها سفراء المعتمد والتي تحدد المكان الذي ستنزل به الجيوش المرابطية بالجزيرة الخضراء ، فاستجاب ابن تاشفين الذي وضع قواته منذ أن استصرخه فقهاء وأمراء الأندلس في حالة طوارئ قصوى وأرسل يعلم المعتمد بأنه على أهبة الاستعداد (وصل خطابكم المكرم فوقفنا على ما تضمنه من استدعائنا لنصرتك وما ذكرته من كربتك وما كان من قلة حماية جيرانك ،فنحن يمين لشمالك ومبادرون لنصرتك وحمايتك وواجب علينا ذلك من الشرع) المرابطون يلبون نداء الأندلس ويدحرون التحالف المسيحي في "الزلاقة" بعد المرحلة الأولى التي شهدت تبادل مجموعة من السفارات بين المرابطين وأمراء الطوائف والتي أسفرت عن استجابة ابن تاشفين لصرخة الأندلس حدث تنافس شديد بين ألفونسو زعيم التحالف المسيحي وابن تاشفين الذي سيقود التحالف الإسلامي المدافع عن حوزة الأندلس ،وتبادل الزعيمان مجموعة من الرسائل و كان الطابع الغالب على هذه المراسلات يتسم بالحدة والميل إلى التهديد والوعيد فيما يشبه الحرب النفسية التي يسعى فيها كل طرف إلى كسر إرادة خصمه وقد كتب ألفونسو يتوعد ابن تاشفين "قد علمتم ما عليه رؤساء جزيرة الأندلس من التخاذل …وأنا أسومهم الخسف…وأسبي الذراري وأقتل الكهول…ولا عذر لك في التخلف عن نصرتهم …وأنتم تعتقدون أن الله عز وجل فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم فالآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فلتقاتل عشرة منكم الواحدا منا " فكان رد ابن تاشفين حاسما على نحو ما ذكر صاحب الحلل الموشية إذ كتب على ظهر خطاب عدوه "الجواب يا أذفنش ما تراه لا ما تسمعه" ثم أعقب الرد ببيت للمتنبي :" ولا كتب إلا المشرفية عنده ولا رسل إلا الخميس العرمرم". ولم تتوقف المراسلات بين ألفونسو وابن تاشفين فقد حاول قائد التحالف المسيحي خداع المرابطين وأرسل يدعوهم لتأجيل المعركة فالجمعة عيد المسلمين والسبت عيد اليهود والأحد عيد النصارى فلا اقتتال في هذه الأيام غير أن ابن تاشفين الذي بث عيونه في كل الجهات تفطن لخطته وعلم أنه يريد أن يصيب منه غرة، فأخذ للأمر عدته وهو ما ستكشف عنه رسالة بعثها ابن تاشفين للمغرب بعد انتهاء المعركة يشرح فيها مجريات الأحداث في سهل الزلاقة وكيف فر أفونسو في نهاية المطاف في جمع قليل من أصحابه لا يتجاوز خمسمائة مات منهم أربعمائة بسبب الجراح . إن المصادر الإسبانية لا تذكر شيئا عن ملحمة الزلاقة وهذا ما دفع بعض المؤرخين كويسي ميراندا إلى نفي وجود أي معركة في سهل الزلاقة بين المسلمين والمسيحيين، غير أن الكم الهائل من الوثائق والرسائل التي تعود لتلك الفترة يقطع الشك باليقين ،أضف إلى ذلك أن الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية أيضا ستتغير بعد الزلاقة بشكل ملحوظ حيث ستعرف تلك الفترة على سبيل المثال انتشار التعامل بالدينار "المرابطي" الذهبي داخل الممالك المسيحية نفسها وسيلجأ ملوك أوربا إلى تقليد هذا الدينار بعد الأهمية التي حظي بها في المعاملات التجارية داخل أوربا فالسيادة الاقتصادية لا تكون إلا للأمم القوية المنتصرة.