كان عهد يوسف بن تاشفين عهدا زاهرا تألقت فيه الدولة المرابطية على كل المستويات والأصعدة، ولعل أهم إنجاز حققه هذا الملك العظيم هو توحيد بلاد الأندلس والقضاء على ملوك الطوائف المتناحرين، حيث سيحمي الوجود الإسلامي بتلك البقعة بعد أن تكالبت عليه الممالك الإسبانية التي طالبت باسترداد البلاد الأندلسية ومسح كل آثار المسلمين هنالك، وبموت ابن تاشفين ستتنفس تلك الممالك الصعداء وسيعاودها الأمل في استكمال طريق ألفونسو السادس بطل معارك الاسترداد وسيظهر على الساحة الإسبانية قادة لا يقلون قوة وطموحا عن ألفونسو ومن هؤلاء ملك لشبونة وملك أراغون، وقد شنوا غارات لا تنقطع على المعاقل الإسلامية في الأندلس وارتكبوا مجازر فظيعة في حق المسلمين، وقد جرت العادة في مثل هذه المواقف أن تهب الجيوش المغربية للدفاع عن المسلمين المضطهدين وكذلك كان، فما إن بلغت الرسائل والبعوث إلى أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين تستصرخه حتى لبى نداء الأندلس وحشد قواته وخاض غمار معارك ضارية لا تقل أهميتها عن ملحمة الزلاقة، أعادت للمسلمين هيبتهم وساهمت في الحفاظ على الوجود الإسلامي بالأندلس لأمد غير يسير. تطهير الأندلس من الخونة كان من المعلوم أن جل المدن الأندلسية التي خضعت للحكم المرابطي كإشبيلية وطليطلة وبلنسية احتضنت أفواجا لا تحصى من النصارى المعاهدين، وهؤلاء لم يكرهوا على الإسلام ولم يُتعرض لهم بسوء، بل على العكس من ذلك فقد تمتعوا بامتيازات عديدة على نحو ما تذكر المصادر التاريخية، غير أن ولاء معظمهم للمرابطين كان هشا وكانوا يتحينون الفرص للإيقاع بهم ،وهكذا سنجد أنهم يسارعون إلى تقديم المعلومات عن تحصينات المدن الإسلامية للخصوم لتسهيل مهمة النصارى الراغبين في غزوها، وردا على ذلك سترتفع أصوات فقهاء الأندلس مطالبة بتجريدهم من كافة امتيازاتهم عقابا لهم على خيانتهم،وقد بلغت خيانتهم ذروتها عندما قاموا بمراسلة ملك أراغون «ابن رذمير» المعروف بالمحارب يطلبون منه السير إلى بعض القلاع الأندلسية ويعدونه بالانضمام إلى حملته فخرج هذا الأخير عام 519 م قاصدا حصون المسلمين، واخترق الأندلس من جانبها الشرقي وعاث فسادا في بلنسية ومرسية ودانية وانضم المعاهدون إلى جيشه بالآلاف، فألحق أضرارا بليغة بالمسلمين بسببهم، وفي نفس السنة سيرحل ابن رشد الجد قاضي الجماعة بقرطبة إلى مراكش في سفارة ينوب فيها عن علماء الأندلس، ليلتمس من أمير المسلمين علي بن يوسف التدخل العاجل لوضع حد لخيانة المعاهدين. فاستجاب أمير المسلمين لنداء علماء الأندلس وأمر بتغريب المعاهدين نحو عدوة المغرب فحملوا إلى سلا ومكناس وغيرها من المدن بهم دفعا لشرهم، وكان يسع أمير المسلمين أن ينكل بهم، لكنه لم يشأ أن يأخذ بريئهم بمذنبهم، كما أنه وقف عند حدود ما طلب منه الفقهاء ولم يزد عليه شيئا. سرقسطة تستغيث بالمغاربة كانت مدينة سرقسطة من أهم المدن التي وقعت في يد ألفونسو المحارب ملك أراغون وقد ضمها إلى مملكته رسميا عام 512م، وستتحول إلى أهم قضية على سلم أولويات الدولة المرابطية، خاصة وأن أهلها لم يفقدوا الأمل في إنقاذ مدينتهم فكتبوا يستنجدون بالمرابطين ليدفعوا عنهم عدوان «المحارب» مجموعة من الرسائل، وأرسلوا وفودا من وجهائهم لإطلاع أمير المسلمين على آخر مستجداتهم، ومن ضمن تلك الرسائل نعثر على خطاب وجهه قاضي المدينة إلى الأمير تميم بن يوسف بن تاشفين يلخص معاناة المدينة ويحمل المغاربة مسؤولية استمرار تسلط النصارى عليها، على اعتبار أنهم يملكون من القوة ما يمكنهم من تحريرها وانتزاعها من يد النصارى، وقد حرص القاضي على إثارة حمية المغاربة من خلال تصوير فظاعة ما يحدث في سرقسطة فكتب يقول «ويا للإسلام لقد انتهك حماه وفضت عراه… ثم يا حسرتاه على نسوة مكنونات عذارى يعدن في أوثاق الأسرى»، ثم انتقل إلى الحديث عن مسؤولية أمير المسلمين «فالآن أيها الأمير الأجل هذه أبواب الجنة قد فتحت، وأعلام الفتح قد طلعت فالمنية ولا الدنية ،والنار ولا العار ،فأين النفوس الأبية ؟وأين الأنفة والحمية؟ وأين الهمم المرابطية؟»، وتحمل الرسالة في طياتها فضلا عن الاستنجاد، تحذيرا مباشرا للمرابطين من الركون إلى الخمول، ما داموا يجاورون عدوا لا يهدأ له بال حتى يستأصل شأفتهم، يقول قاضي سرقسطة: «ليسومنكم الكفار عنها جلاء وفرارا، وليخرجنكم منها دارا فدارا، فسرقسطة حرسها الله هي السد الذي إن فتق فتقت بعده أسداد، والبلد الذي إن استبيح لأعداء الله استبيحت له أقطار وبلاد». إن استنجاد سرقسطة بالمغرب ومسارعة ابن رشد الجد إلى مراكش للقاء أمير المسلمين إنما كان يحمل في طياته دلالة واحدة على أنه لا استمرار للأندلس بغير السند المغربي. صحيح أن فترة حكم علي بن يوسف عرفت انقلاب الكثير من أمراء الأندلس على المرابطين، وأنهم كانوا يمالئون الممالك النصرانية عليهم لطردهم بشكل نهائي غير أن عامة الناس وسائر العلماء كانوا يدركون أنه لا طاقة للأندلس بالنصارى إن جردت من الدرع المرابطية، والغريب أن الممالك النصرانية نفسها لم تكن تقيم وزنا لغير المرابطين فذكرى الزلاقة لم تفارق أذهانهم لحظة واحدة.