جلال مجاهدي تكاد نظرية الانفجار العظيم تكون محل إجماع من طرف الفيزيائيين و علماء الكونيات على اختلاف مشاربهم و إن كان البعض منهم يتحدث عن وجود عدة انفجارات و وجود أكوان متعددة أو عن تواجد كوننا في إحدى الثقوب السوداء , إلا أنه و في كافة الأحوال تبقى نظرية انبثاق كوننا عن انفجار عظيم لها قوتها و صحتها, بالنظر للدلائل المقدمة كتوسع الكون و بالنظر للقياسات الموجية و الحرارية المأخوذة و حتى على فرض صحة نظرية الدورات الكونية , بمعنى أن الانفجار العظيم الأخير سبقته أكوان و انفجارات سابقة, فإن التساؤل عن ماقبل الانفجار الأول هو نفسه التساؤل عن ماقبل الانفجار الأخير , لذلك يبقى هذا التساؤل دائما مطروحا . إذا كان من المسلم به أن الزمن نشأ مع الكون و الكون نشأ مع الزمن إثر الانفجار العظيم , فإن التساؤل عن الماقبل الذي هو تساؤل مرتبط بالزمن يبقى نقطة استفهام كبيرة طالما أن الزمن لا يمكن أن يتحدث عن ما قبل الزمن لأن ما قبل البيغ بونغ هو لازمني و لامكاني و لا يتصور تمثل الزمن رياضياتيا و فيزيائيا إلا بأرقام موجبة و إذا سلمنا بأن لاشيء ينبثق عن لاشيء أي أن الكون لا يمكن أن ينبثق من مجرد فراغ محض فإن وجود الماقبل الذي نشأت فيه شروط الانفجار العظيم هو أمر ضروري فكيف تعامل الفيزيائيون مع هذا الإشكال ؟ نعود إلى أشهر التصورات التي صاغها الفيزيائيون لتجاوز هذا الإشكال و خاصة تصورات كل من العالمين ألبير إينشتاين و استيفن هوكينغ اللذان تطرقا للأمر و حاولا تجاوز المشكل الزمني في نشأة الكون , فالأول أي ألبير إينشتاين افترض من خلال نظرية النسبية العامة وجود بعد زمكاني حيث تحدث عن تفاعل الزمكان كبعد يلتقي فيه الزمان بالمكان مع الجاذبية و هكذا صاغ فرضية مفادها أنه بفعل تحدب الزمكان بواسطة الجاذبية في لحظة تعادل الصفرنشأت ظروف الإنفجار العظيم و نمثل هنا تحدب الزمكان بفضاء هندسي يشبه النسيج الذي يتحدب بفعل وضع حجر عليه , فهل كان إينشتاين موفق في تصوره ؟ هذا التصور حقيقة يمكن تخيله في النسيج الفضائي بمسافات هائلة أما بخصوص الأجسام الضئيلة فتنطبق عليها ما تقدمه نظريه الكوانتوم طالما أن الانفجار حدث في نقطة صغيرة جدا مثلت بداية الكون و أن الأجسام الصغيرة حسب نظرية الكم لا يمكن الحديث بخصوصها عن نسيج أو تحدب طالما أن ما يميزها هو العشوائية الهندسية و عدم اليقين و الصدفة في الحركة واينشتاين هنا كان يقول بان تفاعل الزمكان مع الجاذبية أوجد شروط الانفجار العظيم الذي بذلك خلق فجائيا من حجم و لحظة تعادلان الصفر إلا أن الفيزيائيون يخالفونه الرأي بكون انكماش الكون لا يمكن أن يصل إلى حد الصفر و أنه لا يمكن أن ينضغط إلى حجم أقل من طول بلانك في أي بعد من أبعاده الفضائية و كذلك يخالفونه في افتراضه أن يكون الكون نشأ في زمن صفري طالما أن الزمن صفر هو زمن منعدم و بالتالي فإن طرح إينشتاين لتجاوز المسألة الزمانية لم يكن موفقا . و بخصوص تصور استيفن هوكينغ فهو يقول بأن شروط البيك بونك نشأت في زمن تخييلي أو زمن خيالي حسب الترجمة لكن المأخذ على هذا التصور هو أن الرياضياتيين و الفيزيائيين يجمعون على أن الزمن الخيالي هو زمن رياضياتي احتمالي يساوي الزمن مضروب في جدر ناقص واحد و ليس زمنا فيزيائيا واقعيا و يمثلونه بخط عمودي في حين ان الزمن الحقيقي يمثلونه بخط أفقي ومعلوم أن الجدر السالب ليس بكمية فيزيائية و بالتالي فليس له وجود فيزيائي و منه و بمنطق الفيزياء فإن ما اقترحه استيفن هوكينغ كزمن نضجت فيه شروط البيك بونك ليس بزمن متحقق في الواقع الفيزيائي لذلك فإن السؤال عن الماقبل يظل مطروحا . يقول الفيزيائيون بأن الكون نتج عن قوانين كونية وبأن هذه القوانين نشأت مع بداية الكون و الفيزياء تمنطق الأمور بمنطق هذه القوانين و بمنطق بعدي الزمان و المكان و بالتالي فهي لا تستطيع تجاوز هذه القوانين التي ترى العالم من خلالها و لا تجاوز بعدي المكان و الزمان طالما أن الحدث الفيزيائي لا يتصور في اللازمان و اللامكان و يزداد الأمر تعقيدا عندما نعلم أن جميع الفيزيائيين و بدون استثناء يجمعون على أن قوانين الكون ليست حتمية و حتى التي كانت توصف بالحتمية فحقيقتها أنها غير حتمية و الحتمية هنا نقصد بها الوجود إضافة إلى النتيجة, فهي قوانين موضوعة وضعا لتقدم خدمات معينة, فالجاذبية التي ارتبطت في الفيزياء بوجود الكون , وضعت وضعا فهي ليست حتمية الحصول و لا حتمية النتيجة , فهل نقف هنا عند حدود الفيزياء ؟ و هل نشهد هنا سقوط السببية ؟ يقول ستيفن هوكينغ " إذا كانت قوانين العلم تتوقف عند بداية الكون ، أفلا يمكن أيضا أن تكف عن العمل في أوقات أخرى ؟ القانون لا يكون قانونا إذا كان لا يصلح للعمل إلا أحيانا , يجب علينا أن نحاول فهم بدء الكون على أساس العلم وربما تكون هذه مهمة تتجاوز قدراتنا إلا أنه ينبغي على الأقل أن نقوم بالمحاولة " – الكون في قشرة جوز صفحة 76 – في الحقيقة فإن العالم ستيفن هوكينغ يشير ضمنا عبر قوله بأن المهمة تتجاوز قدرات البشر بأن فهم بداية الكون يتطلب فهما خارجا عن قوانين الكون و عن بعدي الزمان و المكان إلا أنه ربط هذا الفهم بالعلم المادي السببي رغبة منه في إبقاء كل التفسيرات سببية , كيف ذلك ؟ السببية هي منطق العقل و العلوم و منها الفيزياء و التي لا تفسر الكون و الأشياء إلا وفقها و وفق محدداتها إلا أن هذه السببية كعلاقة تقتضي وجود حدث في زمن ينتج عنه ناتج في زمن لاحق له و تقتضي وجود مكان للحدوث وأنها من حيث حاجتها إلى قبل و بعد و مكان فهي سببية زمكانية لزوما و بما أن الزمان والمكان وجدا مع بداية الكون بالانفجار العظيم فان السببية كما نفهمها و كما تحدد هي تفكيرنا مرتبطة أيضا بما بعد البيغ بونغ و لا يتصور وجودها إلا بعد بداية الكون و منه فإن الماقبل اللازمني و اللامكاني لا يسري عليه قانون السببية المادية و بالتالي فإن الماقبل هو جنس من المطلق المتجرد عن الزمان والمكان و السببية , فماذا يعني ذلك ؟ يعني ذلك أن مجال العلم المادي بما فيه الفيزياء هو ما بعد البيغ البونغ و نشوء الكون , أما الماقبل فهو أمر يقع خارج دائرة العلم المادي و منطقه و قوانينه و خارج منطق السببية المادية و بأن نشأة الكون ليست حدثا فيزيائيا يقع تحت مجهر الفيزياء و بالتالي فلا يتصور وجود هذا الكون إلا بوجود قوة قادرة على الإيجاد من العدم متجردة عن الزمان و المكان و السببية المادية . فماذا ستكون هذه القوة إن لم تكن قدرة الله المطلق على الخلق و الإيجاد ؟