تتفاعل الحالة الجماهيرية الفلسطينية فتتصارع المفردات التي تسعى لوصفها في التغطيات العالمية، ولا يوجد اتفاق على وصف الموجة الجديدة في وسائل الإعلام الغربية، فمصطلحات "العنف والهجمات والصدامات" تتزاحم مع مفردات "الغضب واليأس والتوتر والانتفاضة". وتتجلى في الظلال تصدعات ملحوظة في اتجاهات التناول الإعلامي بين تحري الواقع و الانشداد إلى رواية الاحتلال. اضطراب الوصف والتأويل انصرفت بعض التغطيات والتعليقات في وسائل الإعلام الأوروبية والغربية إلى تناول الأحداث في فلسطين عبر ربطها بخلفيات متعلقة بما آلت إليه التسوية السياسية، علاوة على الإشارة إلى تصلب اليمين الإسرائيلي الحاكم وشعور الرسمية الفلسطينية بالإحباط. ولاحظت بعض التغطيات الإعلامية الغربية مفعولا تحذيريا للتطورات الجارية بما يؤذن بانتفاضة عارمة، كما انشغلت بمحاولة وصف الحدث وتشخيصه بين صفة "اضطرابات" عابرة وحالة "انتفاضة" أو إرهاص لها. وقد شغلت وقائع معينة اهتماما استثنائيا في بعض التغطيات الغربية، مثل واقعة إضرام النار في "قبر يوسف" يوم 16 أكتوبر/تشرين الأول، وفي خلفية ذلك أن دعاية الاحتلال ضخمت الحدث بعناية فأبرزته وسائل الإعلام المنحازة تقليديا للاحتلال. وما إن شن بنيامين نتنياهو هجومه التحريضي على الحاج أمين الحسيني في العشرين من أكتوبر/تشرين الأول حتى أثار تعليقات غلب عليها التعجب، وساد الاستهجان من ادعاء رئيس الحكومة الإسرائيلي أن الزعيم الفلسطيني الراحل هو الذي أقنع هتلر بإرسال اليهود إلى المحرقة. لم تؤخذ ادعاءات نتنياهو غالبا على محمل الجد فارتدت بخسائر على الخطاب الإسرائيلي الرسمي، لكنها ساهمت في تشتيت أولويات التناول الإعلامي بعيدا عن تطورات الميدان، وكان واضحا أن إقدام نتنياهو على فتح صفحات الحرب العالمية الثانية بهذه الصفة الخرقاء أحدث ذهولا في البلدان ذات الماضي النازي، مثل ألمانيا والنمسا. تتضح الحدود الفاصلة بين الحياد والانحياز في التناول الإعلامي من خلال تأويل التطورات الفلسطينية وتفسيرها ومدى الاكتراث بطرفي الصراع في مضامين التغطية من نصوص وصور ومشاهد، علاوة على الاستعمالات اللفظية، فالتغطيات المنحازة إلى الاحتلال تميل مثلا إلى تأويل ما يجري في صورة التعصب الديني فتنزع عنه صفة النضال الوطني أو الغضب الشعبي على الاحتلال، خاصة مع محورية القدس والمقدسات في موجة الغليان الراهنة. وعلى الرغم من محاولة دعاية الاحتلال وصم السلوك الميداني للفلسطينيين ب"الإرهاب" و"كراهية اليهود" -خاصة مع نحت مصطلحات جديدة مثل "إرهاب السكاكين"- فإن مضامين التغطيات الأوروبية لم ترضخ في معظمها لهذه الاستعمالات. تميل الأخبار والتقارير والتعليقات إلى تعبيرات، مثل "التوتر" و"العنف" و"الصدامات" و"هجمات السكاكين" و"أعمال القتل". يأتي في هذا التناول تحييد نسبي للمسؤولية عن "العنف" في بعض التغطيات، وربطه بالفلسطينيين في تغطيات أخرى، مما أظهر صدوعا بين أنماط التناول الإعلامية السائدة للحدث الفلسطيني الراهن. ولا يبدو الربط بين الغضب الجماهيري ومسبباته المباشرة واضحا في التناول الإعلامي الغربي، وقد يجري تأويل المشهد بانسداد خيارات الحل السياسي، كما لا تتضح في المضامين السائدة في وسائل الإعلام الغربية أي مطالب محددة للهبة الفلسطينية، إذ يجري عرضها في أفضل الأحوال في هيئة غاضبة من الأوضاع المتدهورة والإحباطات القائمة بعد تعثر التسوية والمفاوضات واستمرار الاحتلال وتفاقم الاستيطان. كما تسعى بعض التغطيات والتحليلات إلى تفسير ما يجري من خلال الأوضاع الداخلية الفلسطينية بربطها بتدهور اقتصادي واجتماعي في الضفة، وتراجع شعبية رئاسة السلطة، وعلى الرغم من أن شرارة الأحداث مرتبطة بالقدس أساسا فقد ظلت بعض التفاصيل المهمة ضامرة في التناول الإعلامي أوروبيا وغربيا، مثل الرفض الشعبي لمخططات تقسيم المسجد الأقصى زمانيا ومكانيا. يمكن القول إن التناول الإعلامي الغربي للحالة الجماهيرية الفلسطينية في فترتها الأولى غلب عليه وصف الوقائع ومحاولة تشويهها أو تفسيرها أو فهمها أو تحليلها في سياقات عامة من دون التعرض لأي مطالب. ولم تشغل انتهاكات الاحتلال الجسيمة مساحات ملحوظة في التناول الإعلامي، خاصة الإعدامات الميدانية والأحكام المتشددة على راشقي الحجارة علاوة على العقوبات الجماعية كما تتجلى في هدم البيوت مثلا، وغالبا ما تم تجاهل هذه الانتهاكات أو تم التطرق إليها في سياقات كمية مجردة على الرغم من بعض المواقف والتغطيات والتعليقات التي اكترثت بذلك. ثمة معضلة ملموسة في المصطلحات المتعلقة بتناول التطورات، خاصة لدى التطرق إلى القدس ومعالمها، فمن الشائع أن يأتي وصف المسجد الأقصى أو الحرم القدسي بالمصطلح الدعائي "جبل الهيكل" ومن دون استدراكات واضحة. كما تجنح بعض اتجاهات التناول الإعلامي إلى إظهار الإسرائيليين في صورة الضحية مقابل اتجاهات أخرى يظهر فيها الإسرائيلي في هيئة جندي الاحتلال البغيض الذي يستهدف الفتية المنتفضين، خاصة في الصور والمشاهد المصاحبة، وتبالغ تغطيات وتعليقات في استعمال مفردة "اليهود" بدل الإسرائيليين في اتجاه لوصف الوقائع في صورة التوتر الديني الداخلي المشحون بالتعصب على حساب حقيقة المواجهة مع الاحتلال. انعكاسات الحدث والصورة غلب الطابع الإخباري على تناول الحالة الجماهيرية الفلسطينية في فترتها الأولى، إذ ركزت وسائل الإعلام الغربية على السرد النمطي القائم على تجميع الوقائع المجردة والإحصاءات العددية الكلية مع ضمور التفاصيل والقصص الكامنة في المشهد وإن كانت المادة المصورة قد ردمت جانبا من هذه الفجوة. ويكتسب التناول الإعلامي لانتفاضة القدس مادته الأساسية من التطورات الميدانية بأحداثها ومشاهدها، ومن ردود الأفعال في المواقف والتصريحات والتحركات، وكذلك التعليقات والمضامين التحليلية، علاوة على تفاعل الجماهير والمجتمع المدني في البلدان الغربية مع الحدث. وتبدو المادة الإخبارية اليومية بشأن الحالة الجماهيرية الراهنة حصيلة حزمة من التطورات الميدانية "الصغيرة" المتزاحمة، وغالبا ما يجري استدعاؤها بصفة إجمالية مع إحصاءات عددية، وهي تتعزز بوفرة من الصور والمشاهد والمقاطع، أما التحركات السياسية ومواقف الأطراف وشتى التعليقات والتحليلات فتشغل الحيز الأوفر من كتلة المضامين غير المصورة. إن للصورة أهمية متزايدة في الأحداث الميدانية مقارنة بالتطورات السياسية الاعتيادية، وقد أعادت الحالة الجماهيرية الفلسطينية تقديم مادة مصورة لهبة شعبية أو انتفاضة ضد طغيان الاحتلال. كانت صور المواجهات التي خيمت على التناول الإعلامي في السنوات الأخيرة ذات منحى عسكري من واقع العدوان على غزة وردود المقاومة، علاوة على مشاهد القصف والدمار بأبعادها الكبرى، ثم جاء الحدث الجديد ليقترب بتطوراته من الواقع الإنساني على الأرض مع اختزال أدوات المواجهة. وعلى الرغم من وفرة المادة المصورة التي تدفع بها الأحداث الميدانية لم تجد العديد من المشاهد والمقاطع والصور ذات الأفضلية فرصتها التي تستحق في وسائل الإعلام الغربية كما اتضح مثلا مع صرخات فتى مصاب بنيران الاحتلال على قارعة الطريق دون أن تسعفه جمهرة الإسرائيليين، وشجاعة شيخ خليلي أعزل تحدى حشدا من جنود الاحتلال حتى أطلقوا النار عليه. وتتولى بعض التغطيات في وسائل الإعلام الغربية إبراز السكين في هيئة التعبير المفزع عن الحدث الفلسطيني الجديد، وغالبا ما جرى ذلك في معرض تشويه الحالة الجماهيرية من خلال إبراز الفلسطيني في موقع المعتدي، والإسرائيلي في موقع الضحية. وجرى -في هذا السياق- أحيانا الاحتجاج بنماذج مصورة من مضامين التفاعل الفلسطيني في الشبكات مع هذه التطورات فتم إبراز صور ورسوم على هذا النحو في قالب تشويهي لا يستحضر الملابسات الواقعية للحدث وبواعثه. وفي المقابل، اكتشف التناول الإعلامي حضور الفتيات الفلسطينيات الفاعل في مشهد الانتفاضة الميداني، خاصة في الصور والمشاهد المصاحبة للتقارير والتغطيات، وجرى إفراد تغطيات لذلك في محطات تلفزة وصحف ومجلات ومواقع. صناعة الحدث يجوز الافتراض بأن المفعول المباشر لسخونة الأحداث في فلسطين يتحقق عبر قدرتها على اجتذاب الأنظار إلى الاحتلال بكل ما ينطوي عليه من انتهاكات وما يتسبب به من تفاعلات وردود. نجحت الهبة الشعبية الجديدة (انتفاضة القدس) في صناعة الحدث، والتأثير النسبي على ترتيب أولويات التناول الإعلامي والسياسي بغض النظر عن فحوى التناول واتجاهاته، ولا يعني ذلك أن منسوب التفاعل الإعلامي والسياسي جاء مكافئا لأهمية الحدث على الأرض، لكنه يبقى مرشحا للتصاعد مع التطورات اللاحقة. ويتمدد التناول الإعلامي ويتعاظم في الشبكات الاجتماعية، وتبقى هذه في حالة تفاعل متبادل مع المضامين ذات الصلة في وسائل الإعلام التقليدية. والواقع أن مضامين الإنترنت والإعلام الاجتماعي، علاوة على الفضائيات التلفزيونية المتحدثة باللغات الأوروبية تلبي أقساطا وافرة من الاهتمامات القطاعية والفئوية بما يخدم جهود التعبئة والدعاية في هذه الاتجاه أو ذاك، مع مزايا التفاعلية وإمكانية الانتقال من فعل التلقي إلى التبادل والبث والتفعيل والحشد. ولا ريب في أن الحالة الجماهيرية الفلسطينية تواجه اختبارات شاقة في البيئات الإعلامية حول العالم، إذ عليها انتزاع الاهتمام المستمر بها وسط زحام الأزمات والانشغالات العالمية، ويبقى التحدي بأن يجري تناولها بكيفيات منصفة وعادلة ومتحررة من القوالب النمطية وتقاليد الانحياز ودعاية الاحتلال، خاصة خلال تفسير المشهد وتأويله. أما الاختبار الأكبر فيتمثل في إخراج التغطيات من حيز الوقائع والأعداد إلى فضاءات التناول الوجداني الذي يتيح الإحساس بما يجري على الأرض ومعايشة الواقع بما يحفز على التفاعل السياسي والمدني والجماهيري معه. مأزق دعاية الاحتلال تضيق هوامش التصرف المتاحة أمام اتجاهات الانحياز الإخباري والإعلامي لصالح الاحتلال بتأثير تراكم الوعي بقضية فلسطين، وحضور الإعلام الاجتماعي المستقل إلى حد ما عن التوجيه المركزي، وصعود عامل الصورة، وتفاعلات الصحوة الأخلاقية النسبية في المجتمعات، كما تترك نبرة الفتور الرسمي أوروبيا وأميركيا نحو السياسات الإسرائيلية انعكاساتها على اتجاهات التناول الإعلامي. ثم إن الحالة الجماهيرية الفلسطينية الراهنة أربكت الموقف الإسرائيلي ومنظومته الدعائية التي تستنفر ذرائعها وأدواتها لممارسة التضليل ومحاولة احتواء التأثيرات الإعلامية للحدث، لكن مساحة التحرك الأساسية التي اضطرت إليها دعاية الاحتلال في مخاطبتها العالم بخصوص الحالة الجماهيرية تمركزت في هامش التفسير والشرح، وذلك ردا على سؤال اللحظة الداهمة: ما الذي يجري؟ لم ينتصب سؤال كهذا أولوية خلال جولات العدوان الحربي على غزة، لأن المبادرة الاستباقية التي كان يعمد إليها جيش الاحتلال في الميدان استحضرت معها ذرائعها الدعائية المجهزة سلفا، وهو امتياز لم يتوفر للاحتلال في الحالة الجماهيرية الجديدة. فقد ركزت رواية الاحتلال ابتداء على تطورات القدس تلازما مع أعمال الاقتحام الإسرائيلية وموجة التصدي الفلسطينية فتم تشويه الشبان المعتصمين في المسجد الأقصى وحركة "المرابطات" النسائية، ثم اندلع الحدث الجماهيري ليتجاوز رقعة البلدة القديمة. اعتادت دعاية الاحتلال على ذرائع محددة خلال السنوات الماضية تتمثل في الأدوات العسكرية للمقاومة الفلسطينية، بينما تغيب في موسم التسخين الراهن الصواريخ والأنفاق الهجومية وعمليات التفجير التي شكلت ركائز للخطاب الدعائي الإسرائيلي في جولات التسخين السابقة. كما أنها حالة جماهيرية بلا عنوان بريدي محدد يمكن شيطنته وشن الحملات الدعائية المركزة ضده، فلا يمكن تحميل المسؤولية لفصيل بعينه، ولن يبدو توجيه اللوم إلى الرسمية الفلسطينية واقعيا مقارنة بالسلوك الإسرائيلي مع الرئيس الراحل ياسر عرفات خلال انتفاضة الأقصى، خاصة أن العالم يدرك أن رئاسة محمود عباس هي الورقة الأخيرة المتاحة في جعبة التسوية. وتتجلى في التناول الإعلامي الراهن ظاهرة تورية الانتقادات الموجهة إلى الجانب الإسرائيلي في ثنايا التغطيات والتقارير والتعليقات بعيدا عن العنوان أو الصدارة، وهو ما يمثل إشكالية مزمنة في التناول الإعلامي للقضية الفلسطينية. لكن المؤكد أن استمرار الحالة الجماهيرية الفلسطينيةالجديدة أو تطورها سيفرض تعاظما في التناول الإعلامي الناقد للاحتلال في البيئات الغربية، وقد يلامس ذلك الأسئلة الوجودية المتعلقة بمصير الاحتلال ذاته.