في صيف 1995 لم تكن «داعش» قد ولدت بعد، ولا «القاعدة» ذاتها، ولا هجمات 11/9/2001؛ ولكن فرنسا شهدت موجة أعمال إرهابية، بينها تفجير محطة مترو سان ميشيل الرئيسية في قلب باريس. وكان أحد أبرز منفّذيها الفرنسي، من أصل جزائري، خالد قلقال: 24 سنة، الذي اختارت له الصحافة الفرنسية لقباً غير مألوف: «خالد الغابة»، نسبة إلى...»روبن هود»! يومها كان وزير الداخلية الفرنسي، جان لوي دوبريه، في موقف لا يحسده عليه حاسد. ليس لأنه الوزير المعنيّ بهذا الملف، فحسب؛ بل أساساً لأنه الرجل الذي قفز على الفور إلى استنتاجات خَلاصية تبسيطية: لقد اعتبر أنّ موجة التفجيرات تكاد تقترن بشخص «خالد الغابة» ذاك وحده، وبسقوطه صريع 11 طلقة يكون في وسع الفرنسيين أن يناموا قريري الأعين. أو... بأعين توجّب أن تظلّ نصف قريرة، كما أثبتت الوقائع اللاحقة. ذلك لأن انفجار محطة مترو سان ميشيل في ذروة ازدحامه الصباحي، ممّا أسفر عن مقتل ثمانية وجرح 80، كان قد أعاد الفرنسي العادي إلى حيرة أدعى إلى أيّ شيء باستثناء النوم على حرير الخطة الأمنية. وتلك خطة نشرت عشرات الآلاف من رجال الأمن والجيش، واستوقفت ودققت في أوراق أكثر من مليوني شخص. الفرنسي كان محقاً تماماً في الذهاب بالقلق إلى أقصى مستوياته، إذْ لم يكن ثمة ريب في طبيعة هذا الإرهاب الأسود الصريح، العشوائي والأعمى الذي لا يكترث بالضحايا، ولا يبصر ما تبعثه تلك الأعمال من رسائل في الكراهية الجماعية والتعصّب والرهاب. صحيفة «لوموند» نشرت المحضر شبه الحرفي لحوار أجراه السوسيولوجي الألماني ديتمار لوش مع قلقال عام 1992 في سجنه، غير بعيد عن غابة القتل إياها. ههنا المعجزة الناقصة للسياسات الفرنسية بصدد دمج الأجانب في الحياة المدنية، وههنا مخلوق ولد صحيحاً في مستغانم الجزائرية، وجاء إلى فرنسا في الثانية من عمره، وتفوّق في دراسته، قبل أن يكتشف العزلة القسرية التي لا يستطيع الفكاك منها، ويدرك أنه «لم يجد لنفسه مكاناً» في العديد من الميادين، بما في ذلك العدالة والقانون والتمييز العنصري والاجتماعي؛ وفي المقابل اصطدم ب»الجدار الهائل» الذي يفصل الضاحية الفقيرة عن المدينة المرفهة. وبالطبع، كان الإسلام اكتشافه المركزي الأكبر، وفي زنزانة السجن بالذات: لست جزائرياً ولا عربياً. أنا مسلم فقط»، قال قلقال وهو يروي أن أصفى لحظات حياته كانت تلك التي يقضيها في المسجد، بصحبة أقرانه من الشباب المسلم! كيف انقلب هذا الكائن إلى آلة إرهابية؟ مَنْ الذي أقام الجدار الهائل في وجه فتى في أول عشريناته، يرى الباحث الألماني أنه كان «ينطق باسم شبيبة مغاربية فرنسية بحثت لنفسها عن الاعتراف والكرامة فلم تعثر على شيء منهما»؟ هذه هي الأسئلة التي ظلّت تؤرق، في حين أن إجاباتها المتسرّعة كانت قد تحوّلت إلى تنميطات سطحية، حمقاء عن قصد أو جهل. تغافل الكثيرون، في ما يشبه التواطؤ الجماعي، عن حقيقة أخرى رهيبة: لقد خرج قلقال من غابة روبن هود، قتيلاً بالفعل، ولكن في هيئة رمز مفتوح يحرّض على ولادة العشرات من أمثاله. في صيف 1995 لم تكن «داعش» في فرنسا، ولكنها شهدت انقلاب قلقال، الفتى الآمل في حياة أفضل، إلى وحش كاسر يتطلع إلى الثأر ويقتات على الكراهية. فهل تعلّم أحد أيّ درس، أو استخلص أية عبرة، أو قرأ دلالة اجتماعية وثقافية ونفسية، كان يمكن لها أن تنفع في تجنّب استدراج «داعش»، أو استيرادها، بعد 20 سنة لاحقة؟