د. رشيد لزرق- خبير دستوري متخصص في الشؤون البرلمانية و الحزبية إن التحول الديمقراطي لا يسير بصورة خطّية، إنما تواجهه تحديات كبرى في مساره وفي مآلاته وفي عملياته المختلفة التي قد تصل إلى إيقافه أو الانقلاب عليه، أو إفراغه من مضامينه المدنية والتاريخية والمجتمعية. بالتالي يجب مواكبته و مساءلته و ازالة العوائق من خلال ادخال و مناقشة نمط الاقتراع بالنظر لكونه مدخل من مداخل الإصلاح السياسي، لهذا فإن نمط الاقتراع كان الخلاف فيه حاضرا منذ أول تجربة انتخابية بالمغرب حيث تم طرح نطام الأغلبي على أساس اللائحة و نظام الاحادي الاسمي، وتم تبني نمط الاحادي الإسمي إلى حدود حكومة التناوب التوافقي . منذ 2002، تبنى المغرب نمط الاقتراع بالتمثيل النسبي عن طريق اللائحة، وكانت الغاية منه بناء الثقة، لكون هذا النمط يسمح بتمثيل مختلف الحساسيات داخل المجتمع، في البرلمان، لضمان نجاح التحول الديمقراطي.و مذ ذلك التاريخ و النقاش فقط حول ترميم هذا النمط و تعديله على اساس العتبة فقط. ورغم ان دستور 2011 جعل من الخيار الديمقراطي ثابت من ثوابت المملكة المغربية. فإن تغيير نمط الاقتراع لم يطرح بنفس القوة، رغم التحولات و التغييرات التي عرفها المسار الانتخابي. الأن ونحن على وشك عقد من دستور 2011 الذي أطر حكومتين تحت رئاسة حزب العدالة والتنمية، كان القاسم المشترك للحكومتين هو الاهتزاز السياسي لكون التحالفات الحكومية تبنى على أساس التواجد في الحكومة كغاية وليس كوسيلة لتحقيق برنامج، و يظهر ذلك في طبيعة التحالفات التي تبدو دون هوية أو إيديولوجية، وفاقدة للتضامن الحكومي وقابلة للانفجار، في أية لحظة.هذا المعطى يستدعي نقاش حقيقي عبر تقييم التجربة وتدشين اصلاح سياسي، مدخله التفكير في اصلاح النظام الإنتخابي، بغاية تكريس الوضوح السياسي. إن تغيير النظام الإنتخابي وتعديله، بات ضرورة يتطلّبها المشهد السياسي الذي يعيش حالة من “الفوضى والتشتّت”، انجرتّ عنها صعوبات في تكوين التحالفات، وتمرير مشاريع القوانين، فضلا عن تعطيل تطبيق أحكام الدستور وإرساء مؤسساته. و قد اعتمد النمط الإنتخابي الحالي آليات منعت وجود أحزاب ذات تمثيليّة قوية يمكنها إدارة الشأن العام، مع مسؤولية سياسية وفق ما تقتضي الديمقراطية. فهذا نمط الاقتراع الحالي الذي تم إقراره في حكومة التناوب التوافقي كان لفترة استثنائيّة،بهدف تكريس الثقة بين الفاعلين السياسيين وبناء الديمقراطية. وعليه فان اعتماده تم في ظروف اسثتنائبة تم تمديدها، الامر الذي لم يعد متناسبا مع المتغيرات الدستورية الذي جعل من الخيار الديمقراطي ثابت من ثوابت المملكة المغربية، ولم يعد التخوف ذو جدوى في تهديده التعدّدية الحزبيّة ومكاسب الديمقراطيّة، فمن الطبيعي الدفع في اتجاه الوضوح السياسي و مواجهة الوضع الحالي في تواجد مشهد برلماني فسيفسائي ، لا يمكن لحزب واحد أو تحالف منسجم من تشكيل الحكومة و تاثير ذلك على دور الرقابي والتشريعي للبرلمان. فالتمثيل النسبي الذي يرتكز عليه النظام الإنتخابي اليوم، أثبت عدم جدواه بعد أن أنتج برلمانا فسيفسائيا غير قادر على القيام بدوره الرقابي وفشل في إيجاد معارضة حقيقية وفعّالة لحكومة ، ممّا تتسبّب في تعطيل الإصلاحات السياسية والإقتصادية الجذرية. وخلّف كذلك شعورا كبيرا لدى المواطنين الناخبين بالخيبة، وعزوفا عن العملية الإنتخابية وعن العمل السياسي، ممّا يستوجب التفكير في نظام بديل يعيد الثقة بين الناخب والمنتخب ويتيح تكوين حكومة مستقرة قادرة على إخراج البلاد من الأزمات المتعاقبة والخانقة الحالية. فالغاية من تغيير نمط الإنتخابي هي تمكين البرلمان من القيام بادواره الدستورية، عبر فتح نقاش للمضي في تغيير القانون، قبل الإنتخابات المقبلة، لمواجهة إنحراف بالمسار الديمقراطي وتأكيد الإرتهان لأحزاب المال والدين عبر استخلاص الدروس منها وتقييمها برويّة، والنظر في أيّ تغيير ممكن، بعيدا عن الدسائس السياسية أو تصدير أزمة الأغلبية الحكومية. لأن تشظّي المشهد البرلماني مردّه الأزمات والإنقسامات التي عرفتها أحزاب الاغلبية الحكومية و تداعيات تاثير البلوكاج الحكومي.و الاكتفاء بتنقيح النمط الحالي لم يعطي جدواه برفع او خفض العتبة يسيزيد الأمر سوءا ويشوّه الديمقراطية أكثر. و سيحافظ على مساوئ القانون الحالي وسيشكّل عقبة أمام أهم ركائز الديمقراطية وخطرا كبيرا على المسار الديمقراطي و من شأنه أن يؤدّي إلى عواقب وخيمة على مستقبل تكريس المؤسسات.ان تغير نمط الاقتراع بغية تجاوز العوائق التي أثّرت على حسن سير العملية الإنتخابية من جهة ولتحقيق الإستقرار السياسي من جهة أخرى.عبر إيجاد نظام إقتراع على دورتين، لضمان أغلبية مريحة و ضبط مقاييس تقسيم الدوائر الإنتخابية وعدد مقاعدها. وهنا أعتقد أن العودة لنظام الاقتراع الأغلبي، نظريا يخدم لوبي الأحزاب المرفوضة شعبيا على اعتبار أن من يتحصّل على الأغلبية المطلقة يحصل بالتالي على جميع المقاعد، غير أن واقع الحال يظهر أن واقع الحياة السياسية أقوى من المنظومة الانتخابية وعدم الاستقرار الحزبي له تأثير أكبر على نمط الاقتراع. لهذا فان النقاش حول نمط الاقتراع ضروري قبل الانتخابات التشريعية المقبلة فنمط الاقتراع الحالي القائم على النسبية مع أكبر البقايا؛ يساهم في إحداث عدم استقرار سياسي ويعجز عن إفراز أغلبية منسجمة قادرة على إسناد حكومة متكاملة ويدفع نحو تحالف حكومي هش ومتقلّب. كما أنه يحول دون تحقيق استقرار حكومي يساعد الحكومة على تنفيذ برامجها. وهذا الوضع من شأنه أن يتيح للحكومة التنصل من المسؤولية السياسية، ويجعل المواطن عاجز عن التقييم ومن تم الاختيار بناء على حصيلة تدبيرية. فالناخب بموجب نمط المعتمد حاليا إذن؛ لا يستطيع تقييم أداء الحكومة ولا الأحزاب التي تقف وراءها. و وفق تقديرنا فإن النمط الذي يتناسب مع المرحلة الراهنة هو الاقتراع الفردي على دورتين، لما يتيحه من تقريب المواطن من المؤسسات ويقوي الأداة الحزبية، ويمكن من تجاوز عيوبه المتمثلة في الشخصنة باعتبار أن الاختيار سيكون على أساس الأشخاص لا البرامج. اقتراع فردي من خلال نظام الدورتين الذي يختلف عن ما يروجه ادريس لشكر -و من معه- حيث يخادع الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي بمطلب اقتراع فردي في دورة واحدة لأنه يعلم أنه مرفوض شعبيا بالتالي لا يستطيع ضمان أي مقعد إذا تم تبني عملية الاقتراع بالأغلبية على دورتين حيث يتمتع الناخب بفرصتين للاختيار و يكون في قلب المحاسبة السياسية. فما يخشاه ادريس لشكر يتجسد في أن نظام الدورتين لا يُعتبر فائزًا إلا من يتحصّل على الأغلبية المطلقة أي أكثر من 50 في المائة وهو أمر صعب أن يتحقّق في كافة الدوائر الانتخابية وأن من يفوز في الدورة الأولى بالأغلبية المطلقة يكون منطقيًا من الأحزاب التي لها قاعدة انتخابية واسعة ومتينة. أما بالنسبة للدوائر التي بقيت معلّقة، يعرف الناخب الوزن الحقيقي لكلّ حزب ويستطيع بالتالي أن يغيّر التصويت عندما يتبيّن له أن هناك أحزابًا لم تتحصل على أي شيء. ومن لم يصوت في الدورة الأولى، وإذا تبين له فوز الأطراف التي لا يدعمها، بإمكانه أن يشارك في التصويت اللاحق. إن النظام المعتمد حاليا نظام الاقتراع النسبي مع أكبر البقايا يفسّر الطابع المتشتت للبرلمان إذ أنه يمكّن كافة الأحزاب السياسية – مثل حزب إدريس لشكر- حتى لو كانت ضعيفة وهامشية من المشاركة والحصول على مقعد نيابي، ويشجع أيضًا على التشتت والتفكك الحزبي.ويمكن القيادات الحزبية اللاشعبية من التحكم في الأدوات الحزبية بشكل أحادي من خلال تعيين وكلاء اللوائح والتحكم في اللائحة الوطنية لنساء والشباب بشكل فج يضرب منطق الديمقراطية ويعطي معالم الولاء لقيادة الحزبية على أساس عائلي، عرقي، أو مصلحي.. ان نظام الاقتراع الأغلبي على دورتين، يمكن الجميع الأحزاب السياسية المشاركة في الدورة الأولى أما عند إعلان نتائج هذه الدورة فإن القانون ينصّ على أن الحزبين اللذين تحصّلا على أكبر عدد من الأصوات فقط يشاركان في الدورة الثانية. وقبل الإعلان عن النتائج النهائية للدورة الثانية تقع التحالفات المتينة القائمة على تقارب في البرامج والايدولوجيا مما سيؤدي إلى بروز ثنائية قطبية بين أحزاب محافظة وأحزاب تقدمية أو أحزاب يمينية أو يسارية وغير ذلك. النمط الانتخابي الحالي تم اعتماده في سياق حكومة التناوب التوافقي لضمان عدم استفراد حزب واحد أو حزبين على مشهد سياسي، وضمان تمثيلية لمختلف الأحزاب الأيدولوجية والسياسية والاجتماعية في فترات بناء التوافق الشيء الذي لم يعد مبرر له مع دسترة الخيار الديمقراطي وتم صياغة دستور 2011 بالتوافق بين مختلف التيارات وليس بالغلبة العددية. ونحن اللحظة محتاجين لفاعلية، بغية تكريس تعددية حزبية عقلانية، فتغيير نمط الانتخاب آلة يجب أن يكون للمصلحة الوطنية الجامعة وليس لمصلحة لوبي المصالح الذي يمثله إدريس لشكر و الذي يعرقل تشريع القوانين المجرمة للفساد المالي حيث يتزعم ادريس لشكر جبهة بلوكاج تجريم الإثراء بلا سبب و يشرع معاشات الريع. لذا فالمغرب في حاجة اليوم إلى القطع مع الفساد السياسي بمفهومه الواسع وإسقاط القيادات الشعبوية التي تخدم اجندة ذاتيه ومع كل من يريد خدمة المصالح الفئوية الضيقة، فهناك حاجة إلى تقوبة دولة القانون والمؤسسات وإلى تقديم صورة جديدة عن المغرب خيار الديمقراطي، صورة تساهم في جلب التقدير وجلب الإستثمارات. لأن مصداقية المؤسسات محك حقيقي ينبغي السير قدما في مكافحة الفساد كشروط وجوب لإعطاء المصداقية وتشكّل أسس تحقيق التنمية الإقتصادية التي نحتاجها. إن الانتخابات القادمة ينبغي أن تكون قطعا مع لوبي سياسي مشبوه يحمي الفساد و كذلك مع تنظيمات تتسلل إلى البرلمان من خلال توظيف الدين و الإحسان. و ذلك من خلال قوانين انتخابية صارمة ومجتمع مدني واع ومسؤول يكون شريكا في كشف المتلاعبين بمستقبل الوطن، بشكل يظهر الوعي الشعبي المتنامي لفضح كل الفاسدين ، و ذلك لن يتم إلا بالفسح في المجال للكفاءات السياسية الشابة الحاملة لمشروع عقلاني و تتمتع بنظافة اليد.