“تخيل أن يقف أمامك يافع أو صبي صغير، ثم يبادر دون سابق إنذار إلى عناقك، تحت نظرات الفخر والاعتزاز من قبل الأم التي تسارع إلى الشرح، إنه ابنها فلان، وأنها قضت أيام في دار الولادة تحت إشرافي”، تقول “بيا” المشرفة على دار الولادة الوحيدة في إقليمورزازات. تصف “بيا” ذلك إنه جرعة الامتنان الوحيدة الكافية لإنعاشها من تذمرها وشكواها الدائمة ورغتبها في تغيير الأجواء والرحيل عن الدار، تقول “لا أخفيك أني حينها أشعر بفخر لا مثيل له وأحس أني أقوم بعمل لن ينساه لي الكثير من سكان الإقليم.” تدير “بيا بوزلماط” دار الولادة التابعة للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي أطلقها المغرب منذ سنوات، تستقبل الدار عشرات النساء في الأيام الأخيرة من فترة الحمل، قادمات من المناطق الوعرة المحيطة بمدينة ورزازات، المدينة التي تقع في الجنوب الشرقي من مدينة مراكش. تغيب في هذه المناطق مصالح طبية مختصة، مما يجعل ولادة طفل كابوسا حقيقيا، أحيانا ينتهي الأمر بموت الأم، الجنين، أوهما معا، فقد يستغرق نقل الأم عند لحظة الولادة إلى المستشفى الوحيد في المدينة ساعات، وبقدوم فصل الشتاء يزداد الوضع سوءا. تشهد الدار ما يقارب عشر ولادات في الأسبوع وهو رقم مرتفع مقارنة بإمكانيات الدار، تشرف “بيا” على كل تفاصيلها، فهي تراقب النساء وتشرف على وضعهن الصحي، وتسهر على كل التفاصيل حتى آخر اللحظات التي تحضر فيها سيارة الإسعاف لنقل المعنية بالأمر إلى المستشفى. لا ينتهى دور “بيا”بعد خروج الحامل من الدار باتجاه المستشفى، إذ تصر على تقصي أخبار وضع الأم وحال جنينها، وهو ما جعل لها مكانة خاصة في قلوب الأمهات اللواتي مررن من الدار. علاقات خاصة بالأطفال تصف “بيا” حياة السكان هنا بورزازات بالصعبة، رغم أن المدينة تستقبل سنويا عشرات المخرجين من هوليود لتصوير أفلامهم، إلا أنها مازالت تعيش عزلة تجعل حياة سكانها صعبة، تلقى السكان تدشين دار الولادة قبل سنوات بارتياح كبير، فقد خففت من معاناة نساء المنطقة وتراجعت وفيات الأطفال كما ساهمت في الإهتمام بصحة الأمهات بعد الولادة. تقدم الدولة مساهمات مالية للدار، أربعة ملايين سنتيم ما يعادل أربعة آلاف دولار تقدمها شهريا الجماعة المحلية، تقول “بيا” بخبرتها إن المبلغ لا يكفي، فمصاريف الدار قد تصل إلى 90 مليون سنويا، أي ما يقارب تسعين ألف دولار أمريكي. “بيا” الأمازيغية الاسم والأصل تشرح بدارجة عربية أن العلاقات الإنسانية التي كسبتها طوال السنوات من الدار، والصداقات التي كونتها من إشرافها عليها وقفت أكثر من مرة في وجه رغبتها بالرحيل عن الدار،”. تقول أنها حضرت حفلات عقيقة وحفلات الختان لعشرات من الأطفال الذين مرت أمهاتهم من الدار، “أحيانا أخبر بعض المقربين برغبتي في الرحيل، لكن سرعان ما أتراجع في كل مرة، أتمنى أن تتحسن الأمور، وأن تولي الجهات المختصة اهتماما أكبر بالدار التي خففت جزءا كبيرا من معاناة نساء المنطقة. تقول “بيا” أن التمويلات المالية تقف اليوم عائقا أمام تطوير خدمات الدار” إذ من الصعب أن تحس أنك قادر على اعطاء المزيد لكنك مكبل بضعف الإمكانيات التي يمكنها أن تحسن الكثير من خدمات الدار وتقلص المخاطر الصحية للنساء الحوامل . مهنيو الصحة ومعاناة الإقليم تشير معطيات نقابة الصحة في إقليمورزازات إلى أن الإقليم يعاني كثيرا في مجال الصحة، ورغم وجود مجال حضري وآخر قروي في ورزازات، إلا أنه في مجال الصحة يبقى الإقليم مجالا قرويا بامتياز، بسكان يناهزون 297502 نسمة، حسب آخر إحصاء رسمي. تغيب عنها البنيات التحتية التي تتوفر في أقاليم مجاروة، وبلغة الأرقام لا يتوفر الإقليم سوى على مستشفى إقليمي وآخر اختصاصي بطاقة استيعابية تقدر بحوالي 420 سريرا أي بمعدل سرير لكل 728 مواطنا.. أطلق المغرب المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وهي مشروع تنموي من أجل تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لسكان المغرب. تقوم على ثلاثة محاور أساسية، التصدي للعجز الاجتماعي، وتشجيع الأنشطة المدرة للدخل القار والمتيحة لفرص الشغل. وأطلقت المبادرة بشراكة مع مجموعة من الشركاء مثل البنك الدولي، تحدي الألفية للتعاون، برنامج الأممالمتحدة للتعاون، وتقوم السلطات بتقييم سنوي للمبادرة، وأثرها على المستهدفين منها، لكن أشخاص مثل “بيا” يقولون أن تحقيق الأهداف ليزال بعيدا.